ترددت «نعيمة» كثيرا قبل أن تقبل مقابلتنا.. بنظرات شاحبة، تعكس الكثير من الغموض والخوف، تقول «نعيمة»: «أرجوك، أريد أن أستعيد زوجي الذي افتقدته بعد الحب، بسبب عائلته»... بعد مرور ثمان سنوات على العلاقة العاطفية التي بنيتها معه، تحقق حلم الزواج الذي طالما انتظرتُه»... عندما تقدم بطلب يدها من عائلتها، تقول «نعيمة» إن فترة الخطوبة مرت في جو «غير عادي»، بعدما رفضت عائلة الزوج الحضور. تصرفت نعيمة وكأن شيئا لم يقع، رغم كونها تجهل سبب اتخاذهم موقف عدم حضور الحفل.. ولملء الفراغ، فكرت «نعيمة» في البحث عن عمل، خاصة بعدما لاحظت أن تصرفات عائلة زوجها لم تعد على ما يرام: «لم أفهم، إلى حد الآن، لماذا لم يحضر أحد منهم حفل الخطوبة، علما أنهم على معرفة بعلاقتنا التي امتدّت لسنوات». اقترحت «نعيمة» فكرة الاشتغال على خطيبها، الذي شاطرها الرأي واعتبر المقترَح في محله. كانت أخت خطيبها، هي الأخرى، تبحث عن العمل، قبلتهما المؤسسة التي وضعتا لديها طلبيهما، إلا أن أخت خطيبها رفضت العمل إلى جانب «نعيمة». بدأت الشكوك تراود هذه الأخيرة حول «ما إذا كانت العائلة ستحرّض خطيبي على التخلي عني بعد مضي سنوات من الحب بيننا». أحست «نعيمة» بنوع من الخوف من عدم اكتمال مشروع الزواج ومن أن أحلامها ستذهب أدراج الرياح، بعد عدم التزام عائلة الزوج بتعهداتها، رغم أن زوج المستقبل وعدها بعدم التخلي عنها، مهما كلفه ذلك من ثمن. تقول «نعيمة»: «تم الزواج بالفعل وتحقق جانب مهم من أحلامي، لكنني تألمت كثيرا عندما تعمدت عائلته عدم حضور حفل الزفاف».. بعد فترة صمت، تواصل حديثها: «في ليلة الزفاف، كان الحضور فرحين وكنت أنا نبكي».. تساءلت عن أسباب عدم افتخار العائلة بابنها ولِمَ لم تشاركه «فرحته». توقفت «نعيمة» عن الكلام لوهلة وطلبت من الممرضة منحها جرعة من الدواء. واصلت حديثها، بصعوبة، حينما تذكرت مشهدا ترك لديها انطباعا سلبيا لم تنسه أبدا، رغم مرور حوالي 21 سنة على زواجهما، إذ قالت: «لم أفهم، إلى حد الساعة، لماذا تلقى زوجي صفعة من أخته، في الأيام الأولى من احتفالنا بحفل الزفاف»... مرت الأيام، إلا أن الوضع ظل على ما هو عليه، إن لم يكن أسوأ: «كان الزوج على علم بكل تصرفات عائلته تجاهي، لكن حبي له جعلني أتنازل عن حقوقي». أضافت «نعيمة»: «لحسن الحظ أن أم زوجي لطيفة وطيبة»، إلا أن هذه الأخيرة كانت مغلوبة على أمرها. وبنبرة حزينة، تساءلت: «أشْ يْدير الميّتْ قْدّام غْسّالو؟».. تنهمر الدموع من عينيها وجسمها يرتجف ولسانها متثاقل، لا يقوى على الحديث كثيرا. تقول إن أخت زوجها، التي تتعامل معها بقسوة، كانت قد زارتها يوما في بيتها ووجهت لها كلاما نابيا وجارحا في عقر دارها. مرت الأيام والشهور والسنين. علمت «نعيمة» بمرض أم زوجها، فذهبت وزوجَها لعيادتها، لكنهما «مُنِعا» من الدخول، بعد أن صدّتهما أخت الزوج. لم يجد الزوجان أمامهما سوى الباب المشرَع على طريق العودة من حيث أتيا.. وهنا بدأت متاعب «نعيمة» الصحية والنفسية، بعد سقوطها عقب أزمة نفسية وانهيار عصبي نُقِلت على إثرهما إلى المستشفى. بكلام خنقته دموع الألم، تحكي «نعيمة» كيف أن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، بعدما صارت زيارة مستشفى الأمراض النفسية والعقلية مسألة بديهية ومعتادة في حياتها، تقول: «إيلا كاينة شي مرا في الدنيا اللّي «صبراتْ» للدل على قبْل راجْلها هي أنا». استرسلت في الكلام وشفتاها، ترتجفان: «لا تعلم عائلتي أي شيء عن هذا الموضوع» وأضافت قائلة: «غيرْ باشْ مانخسرش العلاقة ما بين عائلتي وعائلة راجْلي». تنظر «نعيمة» في جميع الاتجاهات وهي جالسة القرفصاء، قبل أن تضيف أن أخت زوجها لم تكف عن مضايقتها واستمرت في معاملتها معاملة «أكثر من سيئة»، حتى بعد مغادرتها مستشفى الرازي، الذي أصبحت ترتاده باستمرار. بمرور الأيام، أخذت «نعيمة» تشعر أن زوجها، رغم كونه لم يؤذِها يوما، فقد صارت تشعر بنوع من اللا مبالاة تجاهه: «أنا ما بْغيتشْ الراجْل اللي يْجيب ليا غيرْ ما نّاكل»، قبل أن تتابع: «الراجْل هو اللي يْعتاني بمرتو ويحس بها كيفْ مّا كان في الأول قبل الزواج، أُولا الحب كيموتْ مورْ الزواج؟»... تجهش بالبكاء: «ليست مشاكل عائلة الزوج وحدها ما غيّر مجرى حياتي، بل الزوج بدوره له نصيب في ذلك». بعد أن عاشا قبل الزواج حياة زوجين مثاليين، فقد لاحظت، بعد ذلك، أن زوجها يُشعرها بالفراغ العاطفي، بدوافع لا إرادية أرجعتها إلى عائلته وتقول عنه إنه لم يعد يراعي حالتها الحرجة كزوجة ضحّت من أجله، وانتهى بها المطاف في مستشفى الأمراض العقلية والنفسية، وذهبت تضحياتها مهب الريح. بصوت خافت، قمعتها مرارة الدموع من إتمام كلامها وبعبارة لخّصت فيها كل معاناتها، قالت: «كْرهت الرجّالة... ما تيستحْقوش كْلمة الحب»... « أحب مهاجرة رفضتها عائلتي» «سعيد»، شاب لا يتجاوز عمره ال26. ربط علاقة عاطفية بفتاة مقيمة بالديار الأمريكية. هاجر، عدة مرات، إلى الضفة الأخرى وطارد «الحلم» المنشود على متن قوارب الموت، من أجل العمل وتحقيق حلم طالما خطط له منذ زمن، بعد أن سئم من الفقر الذي حطم رغبته في الدراسة، وهو التمكن من الزواج من حبيبته «باربي سلا»، كما يحب تسميتها. بحركات عصبية، يلوّح بأصابعه ويصرخ: «عْلاش الدنيا غاديا بالمقلوبْ؟ اللي بْغيناها ما نوصلوها؟». فشل، بعد عدة محاولات للوصول إلى ديار المهجر، للعمل وجمع المال. يقول «سعيد» إنه أراد الزواج من «وجدان» (باربي)، التي قررت أن تستقر في المغرب، إلا أنه لم يتمكن من الوصول إلى تحقيق مراده وطموحاته عندما رفضت عائلته زواجه بها، رفضا قاطعا، مما أثّر في حالته النفسية والعقلية جراء الصدمة القوية التي أعقبت هذا التعنُّت من عائلته. يتابع «سعيد» كلامه قائلا إنه خرج إلى الشارع في حالة يرثى لها، دون أن يعرف الوجهة إلى أن وجد نفسه في مستشفى الرازي للأمراض العقلية والنفسية، بعد أن قضى أياما وشهورا في العراء مع «عصابة» من المدمنين في سلا، إلى أن أصبح «الرازي» وجهة «مألوفة» لديه. لم يكتفِ «سعيد» بهذا ليبرهن عن مدى حبه ل«وجدان»، فقد كشف عن جسده الذي غطّته الجروح والدماء، متهما أسرته بأنها هي التي اعتدت عليه جسديا وأنها من كانت وراء كل ما وصل إليه، لأنها كسرت آماله ودفعته إلى عالم أحس فيه بالغربة، على حد قوله، وهي السبب في ما وصل إليه قائلا: «أنا لست لا أحمق ولا مدمنا، «أخذوني» رغما عني وزجّوا بي في هذه المصلحة»... أخرج سجائره وشرع يدخن بنشوة، قبل أن يصرخ بأعلى صوته: «أريد من عائلتي أن تتركني أختار شريكة حياتي»... منير: «العائلة أجبرتني على الزواج» «منير»، شاب في ال27. يشتغل ميكانيكيا. تشبه قصته، شيئا ما، قصة «سعيد». يعاني من حالة اكتئاب مزمن. يقول إنه حاول الانتحار ثلاث مرات، بعد رفض الأسرة زواجه من إحدى الشابات التي ربط معها علاقة قال إنها كانت مبنية على الحب والاختيار. فقد توازنه العقلي لمّا أصرت الأسرة على تزويجه من فتاة من العائلة، رفض ذلك: «أنا قلت ليهومْ: واش نتوما اللي غاتزوجو ولا أنا؟».. لم يجد أمامه سوى الأبواب الموصدة ليبدأ مسلسله العقابي وينتقم من قدَره المشؤوم، و«جرح» وجهه «بشفرة الحلاقة»، بدون شفقة، ل«نسيان» كل المشاكل التي تركها وراءه دون أن تعلم شريكته عن ذلك أي شيء. أخبرها في آخر اتصال أنه سافر من أجل العمل. يقول: «أخاف أن أصارحها بواقع الأمر وتتخلى عني، لأنها ستظن أن الرازي مستشفى للحمقى فقط». أخبرها أنه متواجد في مدينة إفران. يضحك، بمرارة، قبل أن يواصل: «هذي إفران ديال الرازي».. استرسل في كلامه قائلا: «إذا لم تأت عائلتي لإخراجي من هذا السجن سأقتل نفسي». «المريض نفسيا يُعامل كأحمق أو كمختل عقليا» بحسرة، يحكي لنا «محمد» أن المجتمع المغربي، بما فيه الأسرة والمقربون لا يفرقون بين المريض نفسيا والمختل عقليا، فهم يعطون المصطلحين المعنى ذاتَه، إذ بدل أن تساعدك الأسرة، تقيّدك وتراقب كل تحركاتك: «الوالدة فينْ مّا نمشي كاتتبعني».. «أحس بأن الوضع يتأزم أكثر فأكثر: كل الأعين تراقبني».. تنفس الصعداء ولم يعد يستطع مواصلة الكلام. بعد أن استرجع أنفاسه، واصل حديثه بهدوء، دون أن يظهر ضعفه أمام كل المشاكل التي تراكمت عليه إلى أن «فاضت بها كأسه»... أكد «محمد» أن مفعول كل العلاجات التي يتلقاها المريض داخل المستشفى يزول في اليوم الأول من عودة المريض إلى حضن عائلته التي «غالبا ما تكون سببا مباشرا في ما يصل إليه المريض».. لم ينس «محمد» اتصال زميل له في العمل به، بعد أن علم بخبر مرضه. ظن «محمد» أن اتصال ذلك الشخص كان بهدف مواساته والتخفيف عليه، إلا أنه خاطبه قائلا: «قالوا ليّا حْماقيتي.. ياك ما لْمرا سْطّاتْك؟».. لم يفهم «محمد» جدوى هذا الكلام، كأن المرض «عيب» والحمق «عيب أكبر»، في مجتمع لا يفرق بين المصطلحين...