خرجت الفتاة المغربية إلى العمل واختارت أن تواصل درستها العليا. استقلالية تمتعت بها الشابات في أحلى سنوات العمر، لكنهن وجدن أنفسهن وحيدات، بعدما فاتهُنّ «قطار» الزواج، سواء كان ذلك باختيارهن أو قدَرا كُتِب عليهن، فأصبحن يرفعن شعار «خذوا شواهدنا وعملنا مقابل كلمة ماما»... في شقة أنيقة في «حي أكدال»، تقطن «أسماء» لوحدها منذ سنوات. لا تجد من أنيس لوحدتها غير كتبها ومراجعها الطبية التي رافقتها لسنوات، بعد أن خصصت لها خزانة كبيرة. «أسماء» واحدة من المغربيات اللواتي فاتهُنّ «قطار» الزواج: «خذوا شهاداتي وكل مراجعي مقابل سماعي كلمة ماما»، تقول «أسماء»، بانفعال شديد، وهي تشير إلى شواهدها المعلقة فوق جدران الشقة، قبل أن تتابع: «أنا مستعدة للتضحية بمالي كله كي أرى طفلي يلعب أمامي». وهي بعدُ شابة في مقتبل العمر، كانت «أسماء» ترفض الزواج، بحجة رغبتها في متابعة الدراسة لتحقيق حلمها. كانت أولى خطوات تحقيق الحلم ولوجها كلية الطب، مع رفضها الدائم فكرة الزواج، الذي قد «يؤخرها» تحقيقَها مبتغاها، لأن حلمها بأن ترتدي الوزرة البيضاء، كان أكبر من أي هدف آخر يسيطر على تفكيرها: «رفضي المتواصل للعرسان، بحجة الدراسة وتحصيل العلم، جعل سني يتقدم ولم ألاحظ الأمر إلى أن أصبح المتقدمون للزواج مني ينتمون فقط إلى فئة المتزوجين»... ولأن هذه الفتاة الأربعينية ترفض أن تكون زوجة ثانية، فهي تواصل التأكيد: «بعد كل النجاح المهني الذي حققته وانتظاري الطويل الشاب المناسب لتطلعاتي، لا يمكنني أبدا أن أكون زوجة ثانية، لأن ذلك يحط من كرامتي وسيجعلني دائما أشعر بالفشل والعجز»... كانت هذه الطبيبة تعتقد أن وضعها الاجتماعي يخول لها الحق في عرسان «مثاليين» يناسبون مع ما استطاعت تحقيقه من إنجازات، كما استحوذت عليها فكرة العريس المثالي، الخالي من العيوب أو، على الأقل، المناسب للمعايير التي وضعتها ل»فارس الأحلام»، لكن «حساباتها» لم تكن موفقة، هذه المرة، ولم تدرك ذلك إلا في وقت لم يعد ينفع معه الندم: «عندما أدخل إلى عيادتي وأرى نساء رفقة أطفالهن، يلاعبنهم ويبتسمن في وجوههم، أتمنى أن أتنازل عن كل ما أملك كي أكون مكانهن»، تقول «أسماء»، التي تجاوزت عقدها الرابع ببضع سنين، وتتابع: «انطلق العد العكسي بالنسبة إلي وبدأت فرص الحمل تتضاءل، لكنني لا أستطيع التخلي عن حقي في أن أنجب طفلا، مثل باقي النساء»... تحولت عيادة «أسماء» إلى «زنزانتها»، فيما صارت سماعتها ك«حبل مشنقة» التفّ حول عنق «حلم» الأمومة لديها: «كنت أحلم، منذ طفولتي المبكرة، أن أصبح أما، لكن ركضي وراء الدراسة والطب «أجهز» على حلمي المشروع»، تقول «أسماء»، بحسرة كبيرة. «بضاعة» سيتم «بيعها» لمن يدفع أكثر... إذا كانت الدراسة شكلت أكبر عائق أمام «أسماء»، فإن «قطار» الزواج قد فات «خديجة» بسبب جشع والداها وطمعه. تتمتع «خديجة» بجمال خلاب، فبريق عينيها الخضراوين يجعل الشخص يتمنى التملس فيهما بدون توقف، لكنهما تعكسان، أيضا، الأسى والحزن على «الحال» الذي وصلت إليه «خديجة». تتذكر «خديجة» أيام صباها وعيناها تتلألآن، لتقول بحرقة شديدة: «كنت محط اهتمام أغلب شبان الحي». ارتسمت على وجهها ابتسامة ساخرة، وهي تسترجع شريط حياتها: «في كل مرة يتقدم كان العرسان يتقدمون لخطبتي، كان والدي يرفض تزويجي»، تقول هذه الشابة، قبل أن تتابع: «كان يتعامل معي وكأنني «بضاعة» سيتخلى عنها لمن يدفع أكثر»... بعد أن تجاوزت «خديجة» سن الخامسة والعشرين، بدأت فكرة الزواج والحلم ببناء أسرة تسيطر على تفكيرها، لاسيما أنها أكملت مشوارها الدراسي وتخصصت في تسيير المقاولات، لتعمل في إحدى المؤسسات المالية الكبرى في مدينة الدارالبيضاء. بعد التحاقها بعملها، تعرفت على أحد الشبان. كان يكبرها بعشر سنوات، لكنها ارتحات له وأحبت شخصيته، فروحه المرحة كانت تملأ «الفراغ» الذي تعيشه، لكن «قصتهما» لم تنته كما خططت لذلك «خديجة»، ليقف أبوها مرة ثانية حجر عثرة في طريقها ويرفض زواجها، بدعوى أن مستوى العريس المادي لا يلائمها وأن عليها أن تتزوج بشخص «غني» وليس بهذا الشاب الذي يتكفل بأبويه ولا يتوفر إلا على راتبه. كانت خيبة الأمل كبيرة بالنسبة إلى «خديجة»، خاصة أنها لم تكن تملك الجرأة من أجل الدفاع عن اختيارها. أصبحت كلمة عانس بالنسبة إلى هذه البيضاوية أصعب كلمة تتفادى سماعها، أو حتى الحديث في موضوع الزواج، ولكن «المجتمع لا يرحم»، حسب ما أوضحته «خديجة»، ففي جميع المناسبات، تكون مجبرة على الرد عن أسئلة من قبيل: «باقي ما سهّلشْ عْليكْ الله؟»، «علاشْ ما تشوفيشْ شي حد معاك فالخْدمة؟».. أو بعض «النصائح»، التي تتكرر باستمرار: «جْرّبي الأنترنيت، راهْ بزّاف ديالْ لبنات لقاوه غير تما»، «ما تْبقايْش غيرْ مقلقة، ضْحكي شويّة، راه الرجّالة ما كيبغيوشْ المرأة اللي ديما غضبانة»... تقول «خديجة» بهذا الخصوص: «أحس وكأنني وصلت إلى خريف العمر، رغم أنني لم أستمتع ب»ربيعه»، وعندما سأشيخ، لن أجد أنيسا لوحدتي»... راتبي سبب مصيبتي «راتبي سبب مصيبتي»، قالت «حسناء»، وهي بالكاد تستطيع التنفس، قبل أن تضيف، ساردة تفاصيل معاناتها مع العنوسة: «لم أكن أعلم أن عملي سيكون سببا في شقائي ومحنتي». تتحدر «حسناء» من أسرة متواضعة. «أنعم» عليها الله بعمل محترم، يوفر لها دخلا جيدا، بعدما حصلت على دبلوم الهندسة. كانت هذه الشابة تتلقى، في كل مرة، طلبات من أجل الزواج بها، فهي شابة جميلة تتوفر على عمل جيد، لكن والدها كان يصرّ، في كل مرة، على رفض العريس، فهي من كانت تعيل عائلتها وتمول تعليم إخوتها وأخواتها: «في البداية، لم يكن الأمر يزعجني، لأنني كنت شابة». مرت السنين وبدأت «الشابة» تقترب من عتبة «العنوسة»، لكن والدها واصل رفض كل من يتقدمون لخطبتها، متعللا بأن كل العرسان الذي تقدموا لطلب يدها للزواج كان دافعهم «الطمع» في راتبها: «راه طامعينْ فيكْ وغادي يسرقو ليكْ فلوسكْ» كان هذا جوابَ والدها الدائم. «أعاني أشد المعاناة وأعيش أصعب أيام حياتي، «ذبحني» والدي بدون سكين، ذبحني يوم حرمني من الأمان والاستقرار والزواج ومن البيت الهادئ، بسبب دريهمات يتقاضاها من مرتّبي في نهاية الشهر»، تقول «حسناء»، ودموعها تنهمر من مقلتيها بغزارة. تواصل سرد وقائع حياتها «المأساوية»، كما تصفها «حسناء»، التي تعتبر نفسها قد حُرمت من حقها في الزواج: «كنت أحلم بحفل زفاف كبير ولكنني الآن مستعدة للتخلي عن أي شيء مقابل أن أجد شريكا لحياتي يساعدني على تخطي الصعاب ومستعدة أن أتقاسم معه الأوقات الحلوة والمرة»، تقول «حسناء»، قبل أن تضيف: «بعد أن تتجاوز الشابة سنا معينة، فإن المجتمع ينظر إليها على أنها «بضاعة» منتهية الصلاحية»... لكن هذه الإنسانة، التي فقدت طعم الحياة وبدأت تشعر باليأس والإحباط، صار يراودها حلم واحد مؤخرا، ترى فيه الحل المناسب لوضعيتها: «أتمنى أن أتمكن من التكفل بأحد الأطفال، لكنني أود أن أدرس هذه الفكرة مليا، قبل أن أُقدم علي أي خطوة قد تغير مسار حياتي»... اختارت العمل و«ضحّت» بالزوج نزلت من سيارتها، رباعية الدفع، بتأنق وخفة، وهي تحمل تحت ذراعها حقيبة أنيقة. ترتدي ملابس بألوان متناسقة ورائحة عطرها تعبق في دائرة تواجدها. خطواتها الواثقة تدل على أنها واثقة من طريق سلكته في حياتها، رغم أنه مُنافٍ للقواعد المجتمعية، ف»نورة»، التي تبلغ من العمر 37 سنة، تؤمن بأن الزواج تفاهُم ووفاق وحب بين شخصين وأنه لا يمكنها الزواج بأي شخص لمجرد أن ذلك «يرضي» المجتمع ومحيطها الأُسَري، فالأمر أعمق من ذلك، حسب هذه الفتاة، التي تتحدث عن العنوسة بروح مرحة: «العنوسة، وما أدراك مع العنوسة».. لتطلق قهقهات ساخرة، قبل أن تكمل حديثها، وهي تحتسي كوبا ساخنا من القهوة: «واشْ نجيبوهْ بزّز؟»... تقول «نورة»، التي تتمتع بأفكار تحررية إلى نوع ما، فهي لا تخجل من الحديث عن علاقاتها المتكررة مع الشباب، وتتابع موضحة: «قبل سنوات، كان هاجسي هو الاستمتاع بحياتي، بالسفر وزيارة البلدان مع الأصدقاء أو مع العائلة»، ففكرة الزواج لم تكن تراود «نورة»، التي تعرفت على شبان كان ضمنهم من كان يرغب في الزواج منها، لكنها كانت ترفض باستمرار، فذلك قد يُعطّلها عن مشاريعها وأهدافها التي رسمتها بعيدا عن المجتمع الذي تنتمي إليه. وتتابع «نورة»، موضحة، بلغة تنم عن مستوى ثقافي عال: «الزواج مسؤولية، وشخصيا، كنت أخشى أن أفشل في المزاوجة بين التزاماتي الدراسية والزوجية»، تقول نورة بلغة فرنسية سليمة، قبل أن تتابع: «ليثني قبلت بالزواج من أحد كل أولئك العرسان»... أنهت «نورة» دراستها فعلا وباشرت عملها في قسم المبيعات في إحدى الشركات الخاصة، قبل أن تصبح مسؤولة القسم بعد سنوات قليلة، لتفانيها في العمل وحبها له: «الآن، تغيرت فكرتي عن الزواج، فقد صار يمثل بالنسبة إلي الاستقرار والأمان، ولهذا فأي عريس سيطرق بابي سأستقبله بالأحضان». لكن طبيعة عملها كانت، في أحيان عديدة، تحول دون استمرار أي مشروع زواج: «اشترط علي جميع العرسان الذين تقدموا لخطبتي التخلي عن العمل»، قالت «نورة»، قبل أن تضيف: «كنت أقول في قرارة نفسي إن زوجي يجب أن يتفهم رغبتي في العمل»، لكن القدَر شاء أن تعيش «نورة» وحيدة: «تكبدت الكثير من المعاناة والمشاق من أجل أن أصل إلى المرتبة التي وصلت إليها ولستُ مستعدة للتنازل عنها، رغم أن الأمر قد يؤجّل حلم الأمومة». شقيقات عانسات بسبب الدراسة قد يتقبل الأهل وجود فتاة عانس داخل البيت، لكنْ أن يكون مصير جميع الفتيات الموجودات في البيت هو البقاء عازبات، فالأمر يقضّ مضجع الأب والأم معا ويسبب للعائلة، ككل، العديد من المشاكل. هذه هي حالة كل من «زهور»، «حكيمة»، «نعيمة» و«عزيزة»، فهن يعانين الأمرّين من هذه الوضعية التي آلت إليها العائلة، فحديث الجيران والعائلة يكون دائما حول «حالتهن»، الأمر الذي جعل «نعيمة» تهرب من شبح العنوسة بالزواج من رجل لا يتوفر سوى على تعليم دراسي أولي، قبل أن يتجاوز عمرها آنذاك ال36. تتذكر «نعيمة» كيف قبلت الزواج بهذا الرجل رغم أن مستواها العلمي يفوق مستواها بكثير، فهي حاصلة على دبلوم الدارسات العليا في القانون وتعمل كمستشارة قانونية، لكن هذا الأمر لم يملأ عليها وقتها ولم يعوضها عن إحساسها بالوحدة ولم يبعد عنها نظرة المجتمع القاسية، التي تنتقد جميع حركاتها وسكناتها: «يئستُ من العيش في هذه الوضعية وكنت أعلم أن العمر كالنهر، لا يمكنه الرجوع إلى الوراء، لذلك قررتُ أن أستغل هذه الفرصة لكي أسمع كلمة ماما».. تقول «نعيمة»، التي «هربت» من دائرة رباعي العنوسة بثقة: «لو لم أستغل «الفرصة» لظل «حالي» كحال شقيقاتي الثلاث»... سارعت «نعيمة» إلى «التنازل» عن أحد شروطها للزواج، والذي كان توفر زوجها على شهادة دراسية تعادل شهادتها على الأقل من أجل قبول الزواج بالعريس: «رفضت مجموعة من العرسان، لأن مستوى تعليمهم كان أقل مني»، تقول «نعيمة»، التي انفرجت أسارير وجهها، وهي تتابع: «إيوا ما تْمشي غير فينْ مْشّاكْ الله». لقد احتفلتْ أصغر شقيقاتي، «زهور»، مؤخرا، بعيد ميلادها الثاني والأربعين.. لقد فاتهن «قطار» الزواج، فمن سيرغب في الزواج بامرأة في الأربعينات من عمرها؟» تتساءل «نعيمة». «لن تنفعني شهاداتي الدراسية ولا حتى مالي» «ما الذي سأفعله بشهادة ومنصب؟»، تتساءل «زهيرة» بحنق، قبل أن تضيف، وهي التي لم تستطيع إخفاء غضبها من دخولها في «خانة» العانسات منذ سنوات: «لم أُرضع طفلاً، لم أضُمَّه إلى صدري، لم أشك همي إلى رجل أحبه ويحبني»... وتردف «زهيرة» قائلة: «لقد تابعتُ دراستي العليا لكي أحقق لنفسي حلما ذاتيا بأن أصبح سيدة ناجحة ومستقلة». اعتقدت «زهيرة» أن توفر المال والمنصب قد يغنيها عن التفكير في الزواج. تسترسل «زهيرة» قائلة: «نعم، لقد كنت أعتبره أمرا تافها، وكنت أظن أن الزواج سيجعلني أقلد جميع النساء، وأنا أرفض التقليد، لكنني اكتشفت، في وقت متأخر، أنني كنت على خطأ»... كانت رغبة «زهيرة» في التمتع بالاستقلالية سببا وراء تكريسها وقتها للدراسة والأبحاث، حيث ظلت ترفض من يأتي لخطبتها، سنة بعد سنة، وتختلق «الأعذار» لأسرتها ولنفسها. لم يعد «الخُطّاب» يطرقون باب منزل «زهيرة»، كما الحال في السابق، وبدأ عددهم يقل بعد أن اقتربت من عقدها الثالث. أحست أنها بدأت تدخل خانة «البايْراتْ». تقول «زهيرة»، بازدراء: «في الوقت الذي لم أكن على استعداد للزواج، تلقيتُ عروضا كثيرة بهذا الخصوص»، قبل أن تستدرك قائلة: «لكنني «جنيتُ» على نفسي ويجب أن أتحمل مسؤولية اختياراتي رغم صعوبة الأمر». تعيش هذه المسؤولة في إحدى الشركات الخاصة لوحدها، منذ سنوات، بعد وفاة والداتها، منعزلة، لا يؤنس وحدتها إلا الذكريات: «الشعور بالفراغ والوحدة يقتلان الإنسان، وحتى عندما أمرض لا أجد من يرعاني أو حتى يصطحبني إلى المستشفى»، تقول «زهيرة» والدموع تنهمر من عينها، وهي تتذكر يوم ألمّ بها مرض في الكلي: «كان الوجع يقطع أوصالي ولم أستطع الذهاب إلى المستشفى، ولحسن الحظ، وجدت صديقتي وزوجها ليرافقاني»، تقول «زهيرة»، التي توضح أن الإحساس بالعنوسة لا يمكن أن يشعر به إلا من يعيش هذا الأمر، لاسيما أن المجتمع لا يرحم ويصرّ على تصنيف الفتاة غير المتزوجة في خانة اليأس والإحباط.