تحدث أحد الخبثاء قائلا إن رئيسا عربيا في الثمانينات من العمر اتصل ب«زميل» عربي يكبره بحوالي خمس سنوات ليطمئنّ على حالته الصحية، فدار بينهما الحوار التالي: الزعيم الأول: كيف حالكم أيها الزعيم الكبير؟ نتمنى أن تكون العملية ناجحة حتى تعودوا إلى زعامتكم وإلى دوركم الريادي الكبير في هذا الكون.. الزعيم المريض: «شكرا لكم فخامة الرئيس.. الحمد لله، الأمور كلها على ما يرام.. وأشكركم، فخامةَ الرئيس، على استفساركم». الزعيم الأول: «أبدا.. أنت تعرف معزتك عندي.. أنت زي أبوي!»... يصور الحوار المختلَق الحالة التي تستقبل بها العديد من الشعوب العربية عامها الجديد بزعماء قدماء وما يطرحه من تساؤلات عن المستقبل وحالة عدم اليقين وكذا التحديات التي تطرحها الحالة على كتَبة «ويكليكس» من رجال الدبلوماسية الأمريكية. مرض الزعماء العرب لا يحتاج مسؤولو الشرق الأوسط في الخارجية الأمريكية أو في سفاراتهم وقنصلياتهم المنتشرة في بلاد العرب إلى خدمات العرّافين وقراء الفناجين لتأليف قصاصاتهم عن «مرحلة التغيير» التي قد تشهدها بعض العواصم العربية هذا العام ليس بصناديق الاقتراع، ولكنْ بصناديق التوابيت... نحن أمة خُلقت للتّرحم على زعمائها وليس لتضييع الوقت على المتقاعدين منهم -لا قدر الله- بسبب ما تفرضه التكاليف الضرورية لتوفير أسباب الراحة لهم في أيام تقاعدهم من أموال، للحراسة والرعاية الصحية. حرصا على توفير أموال دافعي الضرائب، نفضل إرهاقهم بخدمة الأمة حتى آخر رمق من حياتهم، كي لا تضيع على شعوبنا «نعمة» الإفادة من «عبقريتهم» غير المسبوقة ونظراتهم الثاقبة التي لا يُشَقّ لها غبار أو أي نوع آخر من الأتربة. من الجزائر العاصمة إلى رام الله ومن القاهرة إلى الكويت ومن تونس إلى الرياض ومن صنعاء إلى طرابلس الغرب.. دخل زعماء المنطقة العربية مرحلة متقدمة من العمر، قد تتحول فيها بعض الزيارات الرئاسية إلى عيادات للمرضى! هناك من ينصح الزوار من الدبلوماسيين والزعماء الأجانب بإضافة أدوية الزهايمر والعكاكيز وأطقم الأسنان الصناعية إلى قائمة الهدايا التقليدية التي يحملونها إلى العواصم العربية. ما زالت هذه المنطقة التي أهدت العالم اختراعات إنسانية غير مسبوقة في أي منطقة جغرافية أخرى، من الكتابة إلى الزراعة، ومن بناء الأهرامات إلى شق الأنهار الصناعية، (ما زالت) تتكرم على الإنسانية ب«ابتكارات» في عالم السياسة وتسيير الشعوب من قبيل «الانقلاب الطبي» على رئيس يحكم من غرفة العناية المركَّزة، إلى «الجمهوريات الوراثية»، التي أصبحت نموذجا يُحتذى به إفريقيا وجمهوريات ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي. هذه القدرة الخلاقة مرشحة للتطور، وربما للمزيد من الابتكار مع العام الجديد على امتداد خريطة يشكل فيها الشبان الأغلبية الساحقة من السكان، في حين تَعدّى فيه الحكماء من الزعماء بسنين طويلة مرحلةَ التقاعد، حتى في مهنة حفار القبور. مشاكل الخلافة غير «المحسومة» باستثناء السعودية والكويت، اللتين يبدو أن موضوع الخلافة فيهما شبه محسوم -وإنْ كان سن المرشحين بدأ يضاهي ما كان عليه سن أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني- فإن بقية حكمائنا مترددون، بسبب «حيائهم البالغ»، إزاء تتويج ذريتهم على البلاد والعباد. في الجزائر، أعلن أحد كبار رجال الدولة مؤخرا أنه إذا طول الله في الأعمار -اللهم طولها يا رب- فإن الرئيس الحالي سيكون مرشح الأمة في انتخابات 2114 ميلادية، إنشاء الله! وفي تونس، أرض الانقلاب الطبي، قرر قائد الانقلاب تنصيب نفسه، بشهادة طبية «صالحة مدى الحياة»، حتى لو مات الطبيب الذي وقعها ذات نونبر إصلاحي من الثمانينيات، ما دام «نواب الأمة» يُصرّون على انتهاك التعديلات الدستورية وعلى «المطالبة» ببقاء الزعيم. ومع التقدم في السن وانعدام ذرية ذكورية بإمكانها حمل مشعل الإصلاحات، بقي الشعب التونسي يُخمّن هوية الزعيم القادم: هل سيكون من الأصهار؟ أم من المنافقين؟ أم من جنرال يستعين بطبيب آخر لفتح «عهد إصلاحات» جديد يحمل اسمه وبصماته الشخصية؟... علِمنا، عن طريق «ويكليكيس» أن صغار موظفي الإمبراطورية يشعرون بقلق حقيقي من الفساد وانعدام الوريث الواضح ومن مستوى الإحباط الشعبي من البطالة والفوارق الطبقية ورفض الحكومة النصيحةَ، سواء من الداخل أو من الخارج «حالة تونس تبعث على القلق، كما هي حال علاقتنا». في الجوار الشرقي، أرض الجماهيرية الموعودة، التي تحكم فيها الجماهير، مازال مؤلف «الكتاب الأخضر» يقود ثورة من رجل واحد، رغم أنه لم يبق من «رفاقه» القدامى زعيم واحد ممن كانوا في الحكم حينما وصل إلى السلطة في انقلاب في عقد الستينيات الغابر من القرن والألفية الماضيين. لكن الخائفين على مصير المدينة الفاضلة الخضراء تنفّسوا الصعداء قبل بضعة أيام، حينما علموا أنه ليس هناك «خلاف» بين أبناء الزعيم على من سيواصل «الثورة المجيدة». إن بعض الظن إثم! قصة مصرية «شكل ثاني» أسفرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ببساطة، عن سيطرة الحزب الوطني الحاكم، الذي تدارك «الخطأ» الذي وقعت فيه الانتخابات الماضية، بنجاح بعض المعارضين، خاصة من «المحظورة»، أي جماعة الإخوان المسلمين، وقرر المشرفون هذه المرة الاستعداد ل»الانتخابات» الرئاسية بحزب واحد. سيحسب لنا دخول نواب حزب محظور قبةَ البرلمان لخمس سنوات كاملة -دون أن يكتشفهم أحد- أيضا كأحد «الإنجازات العبقرية» في تاريخ سياستنا العربية المعاصرة، حينما تُسند كتابة التاريخ للمؤرخين المنصفين، لأنه إنجاز يحق لنا بالفعل أن نفاخر به الشعوب والأمم يوم الحساب. السؤال الكبير الذي يخيم على القاهرة وعلى مراقبي أوضاعها، من تل أبيب إلى واشنطن إلى دول حوض النيل، هو: هل سيكون مرشح المستقبل الرئيس العجوز أم الابن الطموح؟ محمد البرادعي، الذي كان حتى وقت قريب، الابنَ المفضَّلَ لأرض النيل والمدير العام السابق لوكالة الطاقة الذرية والحاصل على جائزة نوبل لعام 2005، علق على الأوضاع في بلاده مؤخرا في «واشنطن بوست» بكلام «أوسخَ» مما جاء في قصاصات «ويكليكس». تحدث المسؤول الدولي السابق عن «مسرحية» الانتخابات البلهاء ووجود حوالي 40 في المائة من فقراء مصر يعيشون على أقلَّ من دولارين في اليوم، قبل أن يستخلص أن «ما يشبه الاستقرار المبني على القمع هو، في الحقيقة، «قنبلة» موقوتة تقترب بشكل خطير من لحظة الانفجار. إن الاستقرار الدائم في مصر، كما في باقي الأمم، لن يتأتى إلا بديمقراطية حقيقية تستجيب بإنصاف إلى حاجات وتطلعات جميع أفراد الشعب»... سودان الجنرال جنوبا، يحكم جنرال أرض السودان، التي ستضع مولودا آخر بعد بضعة أسابيع بعاصمته وعلمه وعلاقاته الخارجية وحروبه الحتمية أيضا، لكن الزعيم «الشمالي» يبشّرنا بتطبيق الشريعة الإسلامية بمجرد ما ينشق الجنوب عن بلاد الإسلام. عادت الخرطوم، التي علمتنا استثناء فريدا وجميلا أيام العسكري سوار الذهب، الذي كان اسما على مسمى، حينما عاد إلى ثكنته بعد انقلابه، الآن لتنضمَّ إلى «حظيرة» الدول العربية وتحترم شعاراتها الخالدة في الديمو-كراسي، كما شرحها أحد الزعماء مؤخرا. هنا أيضا، تطرح مسألة الخلافة، لكن سؤالها قابل للتأجيل، ما دام القوم مشغولين ب»السهر» على استفتاء سيؤدي إلى خلق أوطان متعددة من وطن أم وَلود... في اليمن «السعيد»، بزعامة تتبنى قصف أمريكا لأعدائها فوق التراب الوطني وتواجه مشاكل بالجملة، من الحوثيين إلى جهود الانفصال في الجنوب، مرورا بالقاعدة، دون الحديث عن الفقر والأمية والبطالة وخروج مناطق كاملة عن السلطة المركزية.. لم يمنع كل ذلك من إعداد الذرية لمناصب القيادة والزعامة حتى يحافظ الوطن على صفة السعادة الحقيقية. آخر الأخبار الواردة من البلد السعيد، والمهدد هو الآخر بالعودة إلى حالة الانقسام، هو قرار حزب المؤتمر الحاكم إلغاء الولايات الرئاسية السابقة من سجل الرئيس، أي «تصفير» السجل، كما أسمته إحدى الصحف العربية وإعلان الرئيس، بكل بساطة، رئيسا مدى الحياة! على الأقل، يمكن توفير نفقات الانتخابات لإعداد الجيل الجديد للزعامة الأبدية المقبلة. وفي سعي الكويت لكي تصبح عاصمة مالية عالمية، كان عليها أن تعطي البرلمانيين «علقة ساخنة»، بعد أن انهالت هراوات الشرطة على ظهور ممثلي الأمة، كما تفعل الشقيقات الأخريات ضد المشاغبين من طلبة الأكل والعمل والكرامة، حتى يعرف كل شخص مكانه الطبيعي. لا يشكل تقدم سن الزعامة في هذه الإمارة العربية الصغيرة، التي حافظت على حيوية برلمانية وحرية تعبير ملحوظة، رغم صدمة الاجتياح في أوائل التسعينيات، خطرا على استقرارها، بسبب «بنية» النظام... «استقرار» السعودية هاجس أمريكي في السعودية، أكبر محطة للوقود في العالم، أخذ مرض العاهل السعودي مأخذ الجد في واشنطن وراقبت أسواق النفط أخبار مستشفى نيويورك، بعد أن ارتعدت فرائص المضاربين في الذهب الأسود. قد تخشى واشنطن على عدم الاستقرار في معظم الدول المعنية، وربما في جميعها، لكن للرياض مكانة خاصة ظهرت باطمئنان الرئيس الأمريكي «أبو حسين» شخصيا على صحة العاهل السعودي، وإن كان بعض الدبلوماسيين الأمريكيين الصغار من مستوى كتبة «ويكليكس» يفضلون لو انتقل نظام الحكم السعودي مباشرة إلى الجيل الشاب من الأمراء، حفاظا على سلامة أعصاب مضاربي النفط... في رام الله، لا تبدو الأمور أفضل حالا، بعد أن أصبح أبو مازن عاطلا عن التفاوض وعاطلا عن الحكم، في غياب المحكومين الذين يوجدون أصلا تحت حكم الاحتلال. الذي يعيش في رام الله لبعض الوقت، كما فعلتُ في الصيف الماضي، يشعر لبعض الوقت إن تناسى الاحتلال- أن السلطة الوطنية تتصرف، بالفعل، كحكومة عربية أخرى، من طقوس وسجون وشرطة وجمارك. ولأننا أمة تعشق الكراسي الدائمة، فان حتى وجود دولة افتراضية لم تمنع الطامحين في خلافة الزعيم من الانقلابات، كما حدث في غزة، أو من المؤامرات الداخلية، كما حدث مع حركة دحلان. تجد السلطة، التي راهنت على التفاوض كحل وحيد، نفسَها الآن بدون رهان التفاوض في وجه حكومة إسرائيلية متطرفة وحكومة أمريكية ضعيفة وموقف عربي متخاذل -ربما بسبب انشغال معظم الزعماء العرب بالحديث إلى أطبائهم أكثر من حديثهم إلى مستشاريهم- وانتقل الحديث والاهتمام إلى من يكون على رأس السلطة. «اكتشف» وزير خارجية إسرائيل، زعيم حزب «البيت اليهودي»، أكثر ساسة إسرائيل فاشية وتطرفا، في الأسبوع الماضي، أحدث الأسباب لتبرير عدم الحديث إلى السلطة الوطنية الفلسطينية أو التفاوض معها، بدعوى أنها «غير شرعية»، على حد تعبيره. لم تؤثر اكتشاف الوزير الإسرائيلي المتطرف عدم شرعية الزعامة الفلسطينية وتناسي تلك السلطة نفسها أنها «حكومة افتراضية» في «بلد افتراضي» إطلاقا على الأطماع والمؤامرات في أروقة المقاطعة في رام الله بين رجال كان من المفترَض أن يركزوا اهتمامهم على تحويل السلطة والبلد الخياليين إلى واقع ملموس. طرح تقدم الرئيس الفلسطيني في السن ووصول خيار المفاوضات إلى طريق مسدود موضوعَ الخلافة بحدة واستبدل البحث عن الوطن بالبحث عن طقوس دبلوماسية فارغة ومساعدات مالية أجنبية مغرية. تراهن واشنطن على سلام فياض، في حال وقوع المحظور، بسبب «براغماتيته» واختياره بناء المؤسسات قبل الدولة ونجاحه في تكوين قاعدة من المريدين، بسبب الشيكات في آخر الشهر، للتعويض بها عن عدم انتمائه إلى أي حزب أو أي فصيل. في غزة، لا يُخشى على الخلافة في «الإمارة الحماسية»، التي اختارت «النضال»، لكنها تفضل الهدنة في الوقت الراهن، كما أنها لا تفكر في المستقبل القريب، على الأقل في الاحتكام إلى «الأمر شورى بينهم»، لتجديد الدماء في زعامة الإمارة، ولجأت إلى خيار «التعديل الوزاري». قضية التعديلات الوزارية في «دولتي» فلسطين الافتراضيتين من الأمور التي يمكن أن تضاف أيضا إلى قائمة إنجازاتنا «العبقرية» في التسيير السياسي للقادم من الأجيال والشعوب. وحسب ما هو معروف من تاريخ حركات التحرر منذ بداياتها في القرن العشرين، لم يحدث أن أقيمت دولتان وحكومتان تخضعان لتعديلات وزارية، قبل أن تولد الدولة الأم أصلا، لأن انقسام حركات التحرر عادة ما يقع بعد الاستقلال وليس قبله -من قبيل أكل الثورات لأبنائها- لكن أن يسبق الانقسام الاستقلال، فهو «إنجاز» «نُحسَد عليه»، بالفعل!... ولايتان فقط للرؤساء خلال قرن واحد! أعتقد أنه كان من الحري على «عباقرتنا» من المشرفين على وضع «عقدنا الاجتماعي» المعاصر أن يقترحوا تعديلا دستوريا يحدد مدة ولاية الرئيس العربي في خمسين سنة فقط، قابلة للتجديد مرة واحدة ويُريحوا ويستريحوا من عناء مواجهة التعقيدات الدستورية وإحراج الأحزاب الحاكمة كل خمس أو ست سنوات، لتمديد عمر العبث القائم. لكن ما يثير الشفقة والحسرة هو سلوك بعض الدكتاتوريين الهواة، من قبيل لوران باغبو في ساحل العاج، الذي لم يكلف نفسه عناء السفر شمالا إلى أحد معاهد التعليم الدكتاتورية في إحدى العواصم العربية ليتعلم من «الأساتذة» الكبار كيف تجرى الانتخابات وكيف يتم فرز الأصوات وكيف يتم استبعاد الخصوم... وإذا حالت الأوضاع الداخلية غير المستقرة دون تحمُّل السيد باغبو مشاقَّ السفر إلى المعاهد العربية المتخصصة، فقد كان بإمكانه أن ينظر حوله إلى «نماذج» إفريقية، كالغابون والكونغو التي تبنت «دروس» التوريث العربية وكانت «رائعة» في التطبيق... بقيت جمهوريات ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي وفية للإرث القديم في تداول السلطة أو في الاحتفاظ بها، بعد أن أدخلت عليها «تنقيحات» بنكهة عربية جميلة، كما هو الأمر في أوربا مع روسيا البيضاء أو في الشق الأسيوي، مع كازاخستان وأذربيجان وتركمانستان. لكنّ هؤلاء المتطفِّلين على المهمة يعطون سمعة سيئة لممارسة الدكتاتورية على الطريقة العربية التي «تَفنَّن» حكماؤنا «التقدميون والاصطلاحيون» في تصميها، إلى درجة إيصالها درجة الكمال! لكن ما ينقص زعماءنا هو خفة الظل والروح المرحة، خاصة حينما يُسألَون إذا كانوا يعتزمون «التوريث» أو لماذا يعتقدون أنهم «الأذكى» بين ملايين شعوبهم والأقدر على تحمُّل المسؤولية أو لماذا يملكون حقا «إلهيا» في تسيير شؤون البلاد والعباد، على الرغم من وصولهم عتيا من العمر... في الانتخابات الأمريكية لعام 1984، تحول موضوع السن إلى قضية انتخابية رئيسية بين الجمهوري رونالد ريغان، الذي كان يسعى إلى ولاية ثانية وكان قد تعدى الثالثة والسبعين، وبين وولتر مانديل، المرشح الديمقراطي، «الشاب»، الذي تجاوز السابعة والخمسين... في إحدى المناظرات التلفزيونية التي جمعت بينهما، نجح رونالد ريغان، الذي كان معروفا بخفة دمه، في إنهاء الجدل حول القضية بقوله «إنني لن أستغل لأسباب سياسوية قضية السن بيننا وأشير إلى عمر منافسي الشاب وأستغل عدم تجربته، لأسباب انتخابية»... ضحك الحضور، كما ضحك منافسه وباقي الأمريكيين وفاز ريغان بالولاية الثانية، قبل أن يموت في مزرعته في كاليفورنيا، كرئيس متقاعد. واشنطن ودار العجزة العربية تضع هذه الوضعية الغريبة في واحدة من أكثر المناطق حساسية في العالم وأكثرها أهمية للساسة الأمريكيين تحديات جدية للقائمين على العلاقات الخارجية للولايات المتحدة، بشقيها الدبلوماسي والعسكري. بدأت مراكز الأبحاث الأمريكية تأخذ الأمر بجدية بالغة، ومن المنتظَر أن يعقد مركز «بروكينغ» للأبحاث، ذائع الصيت، مناظرة في وقت لاحق من هذا الأسبوع تناقش الظاهرة وتبحث عن خيارات الإدارة في التعامل معها. زمن مكافحة الإرهاب وتراجع الاهتمام الأمريكي بما كان يسمى حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، قد يساعد إلى حد بعيد في توقع ما ستفعله واشنطن أو ما لا ستفعله- بالإضافة إلى تحديد من سيحضر مراسيم الوداع الأخير، حسب أهمية البلد وقرب الزعيم الراحل من قلب الإمبراطورية. لكن القاسم المشترك بين كل الحالات، لاسيما في الجمهوريات، يبقى هو الخوف من الفوضى ومن الاقتتال الداخلي ومن الناشطين الإسلاميين ومن المعادين لأمريكا وإسرائيل. قد تؤثر نهاية الحرب الباردة، أيضا، على مدى استعداد واشنطن للاستعانة بجواسيسها في المنطقة للتدخل مباشرة في تحديد هوية الحاكم القادم، كما فعلت في سوريا عام 1949 وفي إيران عام 1953، أو محاولتها الفاشلة اغتيالَ الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم عام 1960، لأن الشيوعية ولّت ولأن الزعماء المرشحين للرحيل أو للخلافة يُعَدّون من أصدقائها. أكيد أن واشنطن ستتعامل مع كل حالة على حدة، لكن تضافر ثلاثة من الاعتبارات، هي النفط والإرهاب وإسرائيل، اجتمعت لتشكل أقوى «بوليصة تأمين» في يد الزعماء العرب، الذين بإمكانهم البقاء في كراسيهم حتى يوم النشور، دون خوف من قلق إمبراطوري. أمريكا تحمي «زبناءها» من قادة العالم يُحكى أن الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت سمع تقريرا سيئا عن انتهاكات سوموزا، دكتاتور نيكارغوا الدموي، الذي حكم البلاد بالحديد والنار إلى أن اغتيل عام 1956، وحينما انتهى من سماع التقرير، أعلن الرئيس الأمريكي أن «سوموزا قد يكون ابن كلبة، لكنه ابن كلبتنا!»... وعلى الرغم من أن هذه الرواية قد نُسِبت إلى أكثرَ من رئيس أمريكي في حق أكثر من ديكتاتور محسوب على أمريكا، فإن تاريخ الدبلوماسية الأمريكية في حماية زبائنها من الأنظمة الدكتاتورية سجل سيئ للغاية ولا يقل سوءا إلا عن تاريخ الرق والعبودية فوق التراب الأمريكي. في أيام روزفلت وما قبلها، كانت رغبة الأمريكيين منْصبَّةً على كبح جماح الإمبراطوريات الأوربية في حديقتهم الخلفية، قبل بقية العالم، ثم جاءت الحرب الباردة، والآن، جاءت الحرب على الإرهاب، وهي العناصر التي سيقت -وما زالت تُساق- لتبرير تواطؤ أمريكا على حرمان الشعوب بما يتمتع به شعبها. تظاهرت حكومة الرئيس الأسبق جورج بوش بحالة من «عودة الوعي» المزيَّفة إزاء هذا الموضوع بعد ال11 من شتنبر وأخذ الموضوع زخَما متزايدا مع بداية ولايته الثانية، والتي سيطر عليها خطاب الدفاع عن الحرية والديمقراطية. غلّف محاربو معسكر المحافظين الجدد الحملةَ العسكرية ضد الشرق بأهداف «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» ومحاربة الطغيان، حينما غابت أدلة الأسلحة المفقودة، لكنْ تَبيَّن في ما بعدُ أن ما كان مطلوبا هو رأس صدام حسين لا غير... كان إصرار وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس على إجراء انتخابات في فلسطينالمحتلة، حتى قبل قيام الدولة، مطلبا تعجيزيا، لكنْ بعد أن جرت الانتخابات الأكثر نزاهة في العالم العربي حتى ذلك الحين وجاء فوز ملتحي حماس، سقط «مطلب» الانتخابات من المعجم الأمريكي في العالم العربي... وقبل رحيل الحكومة الجمهورية، تأكد أنها كانت دائما لا تؤمن إلا بمبدأ التغيير عن طريق الحرب والدمار ولم تجد الوزيرة رايس غضاضة في وصف قصف الإسرائيليين الأهدافَ المدنية في بيروت صيف 2006 ب«صرخات الميلاد الجديد للشرق الأوسط»!... المثير حقا هو الذاكرة القصيرة للدبلوماسية الأمريكية، رغم ملايين القصاصات التي ترِد على المصالح المركزية من مختلف بقاع العالم، خاصة من الشرق الأوسط، حينما يتعلق الأمر بأسباب العداء لأمريكا وسياستها الخارجية. بعد أن اجتاح الطلبة الشيعة الثائرون مقرَّ السفارة الأمريكية في طهران عام 1979 واحتجزوا اثنين وخمسين (52) دبلوماسيا أمريكيا، رفض الرئيس الأمريكي آنذاك، جيمي كارتر، سماع أي حديث عن الأسباب المحتمَلة لذلك الغضب، من قبيل ضلوع «سي أي إي» في انقلاب ضد حكومة مصدق، الديمقراطية، وتنصيب نظام الشاه، القمعي. اعتًُبِر الحديث عن مثل هذه المسببات ساعتها ضربا من تبرير اختطاف الرهائن، تماما كما اعتبر الحديث عن الأسباب الحقيقية وراء ال11 من شتنبر وعمليات أخرى، وكأنه نوع من تبرير الإرهاب. تجعل حاجة واشنطن إلى خدمات «حلفائها» في الشرق الأوسط لمكافحة الإرهاب والرغبة في ضمان تدفق النفط واستعداد أولئك الحلفاء «للتعاون» مقابل البقاء أو التوريث، بالإضافة طبعا إلى السجل الأمريكي غير المشرف في هذا المجال (تجعل) من سعي البرادعي وأمثاله من العرب سعيا عبثيا، إنْ هم اقتصروا على الاعتماد على واشنطن. أثرت الأزمة المالية التي فجّرتها نخبة مالية أمريكية فاسدة، سلبا، على جميع دول العالم تقريبا، بالإضافة إلى أن سجل أمريكا في مجال الحقوق المدنية، بعد ال11 من شتنبر عمَّق إفلاس واشنطن الأخلاقي، حتى وإن آثرت تقديم النصيحة لأصدقائها من الزعماء العجَزة. ويبدو أن الطبقة الناشئة من دكتاتوري أسيا الوسطى أصبحت أكثر إدراكا للعبة مما يحمل على الاطمئنان على مستقبلها في «النادي» العتيد، يساعدها طبعا عامل النفط والغاز. واستنادا إلى «ويكليكس» دائما، يُحكى أن نائب الرئيس الكازاخستاني سأل السفير الأمريكي سؤالا «بريئا» جاء فيه: «إن الطبقة الحاكمة هنا في كازاخستان أصبحت في حيرة، بسبب نِسب الفساد الزائدة في النظام الرأسمالي... إذا كان مدراء شركة «غلودمان آند ساك» يتلقون 50 مليون دولار كراتب سنوي ثم يشرفون على تسيير الاقتصاد الأمريكي من واشنطن.. فما هو الفرق عما نفعله نحن؟»... لكن السفير لم يجد جوابا!...