نظمت العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان حفلا تكريميا للأستاذ محمد بن عبد الهادي القباب في قاعة المحاضرات والندوات بالمعهد العالي للقضاء، وقد ساهم في هذا الحفل التكريمي الأخ محمد السوسي في هذا المهرجان بالكلمة التالية: منذ اليوم الذي اتصل فيه بي الإخوة في العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان وطلبوا مني الإدلاء بشهادة في يوم تكريم أخي وصديقي الأستاذ محمد بن عبد الهادي القباب، وأنا دائم التفكير ماذا عساني أقول في هذه الشهادة، وكيف أقول؟ كيف اختصر عمرا وامتدادا زمنيا تجاوز ستة عقود بأيامها ولياليها، إذ منذ عرفت أخي وصديقي القباب ونحن يعايش بعضنا بعضا في المحضر والمغيب وإلى الآن. كيف تعرفت على الأستاذ النقيب لقد عادت بي الذاكرة إلى تلك الأيام من عام 1947 عندما دلفت إلى مسجد سيدي حمامة في فاس الجديد، وكان هذا المسجد يتوفر على قاعة كبرى للصلاة وصحن فسيح، وكان فيه مكان مغطى يفضي إلى أماكن الوضوء، وكانت فيه قاعة لتلقي مبادئ اللغة العربية ومبادئ الحساب وبالتالي، فقد كان نصف مدرسة ابتدائية وفي نفس الوقت كتابا لحفظ القرآن، اما الصلوات الخمس فقد اقتصرت إقامتها على التلاميذ والأساتذة اللذين لم يكونوا إلا الأب ونسميه الفقيه الكبير وابنيه اللذين يتناوبان على تعليمنا مبادئ اللغة العربية والحساب بجانب حفظ القرآن الكريم. كان من حسن حظ أخينا الأستاذ القباب أنه يقوم بدور العارف والتلميذ المسؤول في ذلك البهو الذي يسمى في عرف التلاميذ ب (بو طويل) حيث كان يرعى الطفل المعلم الأطفال الصغار، ولا تستغربوا إذا قلت إنني ارتبطت بصداقة منذ الطفولة مع الأخ الأستاذ النقيب القباب وأنا لا أزال أتعلم كلمات اللغة العربية الدارجة فأنا لا أزال أمازيغيا خالصا جاهلا بكل كلمة خارج ما رضعته من ثدي أمي من كلمات اللغة الأمازيغية، وهكذا استمرت العلاقات حتى التقينا في مجال آخر غير مجال الكتاب وأجواء الكتاب والحومة والحي. الالتقاء في خلايا الحزب نعم لنلتقي مرة أخرى وهذه المرة في عمل كان بكل المقاييس فوق مستوى عمرنا في تلك المرحلة، لقد فرض الواقع والظروف على بعض الشباب ان يعيشوا حياة وأعمارا فوق أعمارهم ولعل أخانا الأستاذ النقيب محمد بن عبد الهادي القباب من هؤلاء الناس فهو لم يعرف في حياته ما يعرفه الأطفال والشباب في سن الطفولة و الشباب، لقد كان جادا في حياته المبكرة وكان أقرانه في الحي ينظرون إليه نظرة خاصة تتسم بالتقدير والاحترام، إذ كانوا يرون فيه في تلك المرحلة المبكرة الجد والوقار، والابتعاد عن الأمور التي يخوض فيها أطفال الحي فهو لا يعرف ذلك اللهو واللعب المستفز للمارة حيث تقفز كرة أطفال الحي، أو الحومة فوق رؤوسهم وتبعثر أشياءهم التي يحملونها، لذلك اصطلح أهل الحي من الأطفال وغيرهم منذ تلك المرحلة المبكرة على ان ينعتوه بالفقيه وربما كان لهم العذر في ذلك إذ كان يحمل على كتفيه وبين جوانحه في ذلك العمر المبكر هموم الوطن هذه الهموم التي ستقوده إلى خلايا حزب الاستقلال سواء على مستوى التلمذة في القرويين، أو على مستوى إحدى الجماعات في حي فاس الجديد التي كان يسامرها احد أقربائه (عبد النبي بناني) رحمه الله. ارتكاب (خطيئة) الدفاع عن الوطن وضيافة السجن وفي هذه الخلية سيرتكب خطيئة توعية المناضلين والدفاع عن الوطن فيحرر المناشير ويوزعها ويحرض على الإضراب وترك المساجد فارغة في ليالي رمضان احتجاجا على نفي ملك البلاد ورمز السيادة الوطنية ويحرر رسائل التهديد للخونة وأعوان الاستعمار، ولم يغفر له الاستعمار هذه الخطيئة عندما تمكن من معرفة أفراد المجموعة في تلك الليلة من ليالي رمضان عام 1954 حتى إذا كان الناس ينعمون بأيام عيد الفطر بقدر ما تسمح آلام وأحزان الوطن بهذا التنعم، اقتادت أيادي الاستعمار هذا الطفل عمرا الكهل عملا من مدينة مكناس حيث كان في زيارة أحد الأقارب إلى أقبية مركز الشرطة بفاس أو ما كان يسمى حينذاك (بالسانطرال) وفي هذا المركز كان ينتظر الطفل (الشاب) (الكهل) التعذيب والاستنطاق البوليسي، ويعيش بعض الإخوة الذين لم ينلهم الاعتقال بعد ألم وعذاب الانتظار، وهم على أهبة الاستعداد للاعتقال في كل لحظة وهم في نفس الوقت يواصلون العمل، إشعارا ان من تم اعتقالهم ليسوا وحدهم وانه مهما كان ما يقوم به من جبروت وطغيان، فإن المسيرة متواصلة ولكن في بعض الأحيان يجعل الله بلاء علاجا وبلسما لبلاء آخر، فإذا كان الخوف من الطفل بل الشاب بل الكهل القباب ان لا يقوى على العذاب فيبلغ بكل شيء وحينذاك ستبتلع أقبية مراكز الشرطة والسجن أكثر العاملين ان لم يكن كل العاملين في هذا الحي ولكن القباب وصحبه في المعتقل صمدوا أمام التعذيب واستمر العمل كما كان من ذي قبل وذات صباح اتصل بي من كنا نسميه حينذاك «المعلم» ليخبرني ان حالة سيدي محمد الصحية زادت سوء وقد تم نقله إلى المستشفى ومعنى ذلك ان الإقرار تحت التعذيب في تلك المرحلة لم يعد واردا وسيبقى في المستشفى أسابيع ويتم الحكم بعد ذلك عليه بالسجن لمدة سنتين حيث سيمكث إلى مايو 1955 لان الاستئناف خفف الحكم ولان بوادر انهزام المستعمر بدأت تلوح في الأفق. استئناف العمل وخُلُق الإيثار وعندما أطلق سراحه تبدأ مرحلة العذاب لاستعادة مكانته في حلقة الدرس بالقرويين وتلك محنة بالنسبة للشاب لا تقل عن محنة السجن والاعتقال فان تحرمك إدارة المؤسسة من أداء الامتحان ومن التسجيل في الدروس وهي تعرف انك في المعتقل بسبب أعمالك الوطنية كان شيئا غريبا وغير مقبول ولكنه هو الذي حصل. وأود هنا أن أسجل للتاريخ موقفا آخر للأخ الأستاذ النقيب وهو ان الإخوة في الحزب قرروا تقديم مساعدة للطالب الذي خرج للتو من السجن لعله يحتاج إليها خارج المصاريف التي تقدمها العائلة في إطار مصاريف الجيب ويكلف الإخوة العبد المتكلم للقيام بهذه المهمة ولكني اعتذرت لأنني اعرف نفسية الأخ القباب ولا اقدر على مخاطبته في الموضوع رغم اننا كنا نقدم المساعدة لكل المعتقلين ويكلف غيري بذلك ويعود وهو مملوء اعتزازا وتقديرا إذ ما كاد يخاطبه حتى قال له إن عائلة فلان هي أولى وهو لا يزال في السجن ورفض أن يتسلم المبلغ، واذ كان الفصل صيفا فإننا نقضي هذا الصيف في العمل الوطني وقد كان صيف 1955م من أطول فصول الصيف نظرا للأحداث الكبرى التي كانت تعيشها البلاد والمخاض الكبير والعسير في ذلك الصيف، وما كادت بوادر استئناف الحزب لنشاطه حتى كان الأخ القباب مع ثلة من الشباب في مقدمة المستقطبين للمنخرطين الجدد في الحزب، وتوزيع بطائق العضوية على القدماء والجدد على السواء، ويحتفل فرع فاس الجديد ككل فروع الحزب بأعياد الانبعاث والاستقلال والعرش فيكون الأخ القباب من أبرز من تناولوا الكلام في عيد العرش 1955 في الحفل الذي أقامه فرع الحزب وحضرته آلاف المواطنين والمواطنات وكان خطابه يتقد حماسة وقوة احتفاء بالنصر الذي تحقق بعودة محمد الخامس وإعلان الاستقلال. شغف الشاب القباب بالأدب والشعر ويستأنف الناس حياتهم العادية وينغمس الطالب الشاب الآن في الدراسة والتحصيل وكان في هذا المجال مثالا للمثابرة والعصامية. ولم تكن حتى الخطوات التي يخطوها ذهابا وإيابا من فاس الجديد إلى القرويين خالية من قراءة الشعر وحفظه. ولا أزال أتذكر بلذة وشوق تلك القصائد الرائعة لأبي القاسم الشابي التي كان يستظهرها في الطريق ويرددها بترنم وسعادة: مثل: إرادة الحياة إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر صلوات في هيكل الحب ... إلى الله يا إله الوجود هذا جراح في فؤادي تشكو إليك الدواهي يا شعب ... الخ. وتلك القصائد التفاؤلية والمبتسمة لإيليا أبو ماضي قال السماء كئيبة وتجهما. وتلك القطع النثرية التي يقتبسها من فيض الخاطر لأحمد أمين أو من كتاب (التعريف بالأدب العربي) لرئيف خوري ومن بين تلك القطع في هذا الكتاب قصيدة بعنوان نفس الحر تحمل الظمأ وهي للناقد الرجاني والتي يقول فيها: إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ وكم طالب رقى بنعماه لم يصل إليه ولو كان الرئيس المعظما إلى أن يقول: ولو ان أهل العلم صانوه لصانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ولكنهم هانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهم اما القصائد التي كانت تلقى بمناسبة أفراح العودة والاستقلال فكانت تحظى لدى الشاب بالأولية وبالأخص قصائد مفدى زكرياء التي كانت تمتزج فيها الشاعرية والوطنية والاندفاع نحو دعم الثورة الجزائرية. وهناك قصيدة لهذا الشاعر لا يزال الأخ الأستاذ يردد بعض مقاطعها والتي مطلعها: سل الفصحى وقل للضاد رفقا لسان الحال أفصح منك نطقا وإذ تكلمت عن هذا الجانب من الاهتمامات الأدبية للأخ الأستاذ النقيب فاسمحوا لي أن أؤكد أنها تمثل في نفس الوقت اختيار التوجه السياسي والفكري ويتأكد ذلك عندما نعلم مدى هيام الشاب بكتابات خالد محمد خالد فكانت كتبه الثلاثة الأولى ملازمة للشاب وهي: (من هنا نبأ) ( مواطنو لا رعايا ) ( لكي لا تحرثوا في البحر) ولا شك ان المتتبع للحياة الفكرية والسياسية في العالم العربي يعرف أهمية الكتب الثلاثة بالنسبة لتطور الحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي. فإن هذه الكتب أثارت زوبعة فكرية وسياسية في حينها وقادت صاحبها إلى الاعتقال والاستجوابات البوليسية كما ان اختيار عناوينها في حد ذاته كان تحديا واستفزازا للسلطة الحاكمة في مصر وفي العالم العربي حينذاك ولعلها ان تكون لا تزال عند البعض كذلك. الشاب القباب والتراث السلفي وبجانب هذه الكتب كانت العروة الوثقى لجمال الدين الأفغاني حاضرة والعدالة الاجتماعية للشهيد سيد قطب وشبهات حول الإسلام لمحمد قطب وكل هذا وأدبيات الزعيم علال كانت إلى تلك الشهور الأولى من الاستقلال غائبة عن الساحة الوطنية لأن الاستعمار كان مانعا لتداولها، والذي طبع منها طبع في الشرق .وهو أمر سيتم تداركه بعد ذلك وعندما نكتشف جميعا طلبة وأساتذة بالقرويين الزعيم علال في محاضرته القيمة في موضوع (الشُّبَه والمتشابه عند محمد عبده) يصبح الشغف بما كتبه ويكتبه علال وليأتي الخير تباعا (النقد الذاتي) (الحركات الاستقلالية) (مقاصد الشريعة) و (دفاع عن الشريعة) قصائد شعرية مختلفة مولديات وغيرها. إنني هنا أشير إلى بعض القراءات التي كان الأستاذ النقيب يؤثرها ويسرق أوقاتا لها من وقته العامر. بين الدراسة والعمل الوطني ومساعدة الأب في الدكان مع ما يتطلبه ذلك من مشاغل وتأثير في العمل إلا أن الأستاذ النقيب كانت عزيمته وإرادته قويتين. الشاب القباب يختار الإستمرارية في القيادة والفكر وتمر السنوات الأولى من الاستقلال و الحرية، وتحدث الفتنة الكبرى في الحركة الوطنية الاستقلالية ويحار الناس ويصيبهم الذهول مما حدث كيف يتخذون منه موقفا؟ وأين يتجهون؟ ولكن الأخ الأستاذ النقيب المناضل الشاب لم يتردد كثيرا ولا قليلا لأنه منذ اليوم الأول انحاز إلى قيم وأفكار تُسَهِّل بالنسبة إليه الاختيار، ويجتمع إخوانه في مكتب مقاطعة فاس الجديد ويقررون الا بعض الإخوة الانحياز إلى الاستمرارية القيادية والفكرية في الحزب ودعم الزعيم علال في صيانة وحدة الحزب وقيمه ومكانته الفكرية والوطنية، ويتقرر الاتصال بالمسامرين والمسيرين ويطرق صديق باب منزل الأستاذ فيخرج ليلا دون تردد للاتصال بالأطر الحزبية في ذلك الليل ولم يعد ليأوى إلى فراشه حتى كان وزميلاه قد قاموا بالواجب. ويشتد الصراع بين الطلبة في المنظمة النقابية الطلابية آنذاك ويتأسس فصيل الطلبة الاستقلاليين فيكون الأخ النقيب من بين أعضاء المكتب التنفيذي لهذا الفصيل الذي ينتهي في عام 1962 إلى تأسيس الاتحاد العام للطلبة والذي ستسند له رئاسته في المؤتمر الأول بتطوان عام 1963 بعد المؤتمر التأسيس الذي انعقد بالرباط عام 1962. الشاب ومحنة الديمقراطية 1963 وكانت هذه السنة سنة 1963 محنة الديمقراطية ببلادنا وقد كان الأخ وهو آنذاك طالب بكلية الحقوق بالرباط وعضو اللجنة التنفيذية للاتحاد العام للطلبة يشارك في الحملة الانتخابية ويزور كثيرا من الأقاليم وكان نصيب حي فاس الجديد وافرا في هذا العمل ولا سيما ومرشح الحزب في هذه الدائرة كان هو الزعيم علال الفاسي وفي هذه الحملة توثقت كذلك العلاقة بينه وبين الأخ محمد الدويري احد مؤسسي العصبة وأول رئيس لها. وتحدث الأزمة بين المغرب والجزائر في هذه السنة 1963 ويحتاج المغرب إلى الأساتذة من كل التخصصات بمغادرة الأساتذة المصريين للمغرب ويتطوع الأستاذ القباب لإلقاء الدروس في الآداب العربي بمدارس محمد الخامس ويجمع في ذلك بين التدريس والتدريب في المهنة، ويدمن القراءة القانونية والأدبية ولاسيما وقد أصبح أستاذا بكلية الحقوق، ومن عادته في القراءة ان يلخص ويستعرض ما قرأ وهكذا فعل مع الكثير من الكتب التي بالعربية قرأها، كانت مترجمة إلى العربية أو كتبت بالعربية في الأصل وهو إذ أعجب بأحمد أمين وتوفيق الحكيم وطه حسين ومحمد حسين هيكل في (حياة محمد) وخالد محمد خالد وسيد قطب ومحمد قطب من الشرق وبالزعيم علال الفاسي في المغرب ولقراءته للحكيم وأحمد أمين تأثير في اختيار اسمي توفيق وأمين لابنيه أصلحهما الله وقد أخذه الإعجاب كذلك بمترجمات الأديبين الروسيين (كوركى) وبالأخص في رائعته الأم و(تولستون) في رائعته (اناكرنين) وبمسرحية (العادلون) ل(ألبير كامو) الأديب الفرنسي المعروف، هذه المسرحية التي نشر تلخيصا لها في مجلة الوثبة التي كان الطلبة الاستقلاليون يصدرونها وتحضرني الفكرة الأساس التي كانت من بين ما أثر في فكر النقيب آنذاك وهي قول بطل المسرحية في حوار من حواراته: ان الموت في سبيل الفكرة هو السمو الى صعيد الفكرة ان هو الا تبريرنا الوحيد. الحب باعتباره قيمة ثابتة هذه الفكرة كانت مما قاد عمل الأخ الأستاذ النقيب بعد الاكتمال والنضوج. وإذ أدمن القراءة لفيض الخاطر لأحمد أمين فانه يستعير منه قيمة ظلت قوام فكره وعمله طيلة سنوات وأظنها لا تزال رغم كل المشاكل المعقدة التي صادفها وصادفته بعد ذلك انها الحب لذات الحب إذ كان يردد آنذاك الحب للحب ولاشيء ينعدم فالحب هو القيمة الباقية ونجد هذا بارزا في الكلمة التي كتبها وقدم فيها معالم في الطريق للشهيد سيد قطب اذ كلف الزعيم علال احد أصدقاء الأستاذ النقيب بتنظيم الذكرى الأولى لإعدام الشهيد سيد قطب ويتم ذلك المهرجان العظيم في فاس برئاسة الزعيم علال ويلقى الأخ الأستاذ النقيب عرضه القيم مستهلا له وهو يتحدث عن سيد قطب بقوله: «انه الرجل الذي أحب الحياة وأحب السعادة وأحب الجمال ومن أجل ذلك اختار الموت على الحياة احتجاجا على عالم ملئ بالدماء والدموع. ويضيف قائلا: «انه قدوة حسنة للشباب المسلم في عالم الاستشهاد لأنه وهب نفسه في سبيل ما اعتقده وآمن به كي يعلم الناس أنه ليس كل شيء مباحا في هذه الحياة واستشهد قطب لأن الاستشهاد تحد لكل الأوضاع المنحرفة والمظاهر الشاذة التي تبدو في الأفق الإنساني القائم اليوم». إنها فقرات أستهل بها تحليله لكتاب لا يزال إلى الآن مثار نقاش وجدال بين المحللين والمفكرين والراصدين لظاهرة الصحوة الإسلامية وتطوراتها اللاحقة والمتلاحقة. القباب والمثل الأعلى في الحياة إنها أفكار يمكن اعتبارها أفكارا في القمة كما يقال: إن هذه القيم التي آمن بها وتغذت باستمرار بالمنبع المتدفق والدائم من فكر علال الفاسي في حياته وبعد مماته فيحق التذكير هنا بالصلة التي كانت قائمة بين الأديب الحقوقي المناضل الشاب وبين القائد والزعيم والعالم المجاهد علال الفاسي، وذكر الألقاب هنا ليس من باب التحلية الأسلوبية كما يقال فالرجل كان مجاهدا وعالما ومجتهدا وأديبا ومربيا إلى آخر ما هناك من الألقاب التي كان يتحلى بها الزعيم علال والتي استطاع الأخ النقيب ان يستفيد منها ويمثلها في حياته ذلك ان الأستاذ القباب كان يومن بضرورة أن يتخذ الإنسان مثلا أعلى له في الحياة، ومن هنا جاء إيمانه بزعامة علال وريادته السياسية والفكرية. الشاب القباب في اللجنة التنفيذية ونطوي الأيام وفيها من المحطات الكبيرة ومما يمكن قوله وينتخب الأخ الأستاذ النقيب عضوا في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال في يناير عام 1975م وهي المهمة التي ستتجدد مرات متعددة وليس من السهل أن ينتخب الإنسان عضوا في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال في تلك المرحلة وهي تحتضن من بين أعضائها شخصيات في قمة العطاء الوطني والفكري، واستطيع هنا أن أدلي بشهادة في هذا الموضوع وبالأخص عندما التحقت بعد ذلك باللجنة التنفيذية للحزب عام 1982، لقد كان الأخ القباب مثالا للشجاعة في إبداء الرأي والدفاع عنه كما كان مثالا للانضباط والالتزام الحرفي بالقرارات التي تتخذها اللجنة التنفيذية ولو لم يكن من رأيه قرار معين. كما كان سباقا لتنفيذ ما يتفق عليه وهذا أمر كثيرا ما أدى ثمنه لدى بعض الناس الذين قد لا يكون القرار مع ما يرون أو يحبذون. القباب و العصبة ومحاولة التصفية الجسدية وينتخب رئيسا للعصبة المغربية لحقوق الإنسان التي تولى تدبير شؤونها لما يزيد عن ثلث القرن عرفت فيها حقوق الإنسان في هذا البلد الكثير من الأهوال والخروقات بل ان هذه الحقوق عرفت تجاهلا وتبديعا لدى المسؤولين وان الإخوة الذين نسق معهم وعمل معهم سواء في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أو هيآت المحامين يدركون جيدا الدور الذي لعبه الأخ النقيب في هذا المجال، وإنني سأذكر في هذا الباب بأمرين اثنين ذلك فإنني ان أنسى لا أنسى يومين من أيام الله في الكفاح من اجل حقوق الإنسان. اليوم الأول هو أنني ذات صباح من خريف 1989 اتصل بي الإخوة وأنا في فاس وطلبوا مني الحضور إلى المركز العام للحزب لاجتماع طارئ وأصل إلى الرباط وأجد الإخوة في سياراتهم متجهين إلى اجتماع مع الوزير الأول آنذاك ونذهب جميعا لنبلغ رسالة من الوزير الأول مصحوبا بوزير أم الوزارات ومستشار رحم الله الجميع والمهم ليس التهديد لقيادة الحزب بالوضع في الإقامة الجبرية ما لم تتوقف عن الحديث عن حقوق الإنسان وما يتبع ذلك ولكن توجه أحد المسؤولين غفر الله لنا وله إلى الأخ الأستاذ القباب ليقول له مباشرة ان ما تزعمه حقوقا للإنسان ليس إلا بدعة ولا وجود له في الإسلام»، والمهم هو أن اليوم الآخر جاء بعد ذلك ونحن في المركز العام حين اتصلت الكاتبة بالأستاذ لتخبره أن أحدهم قام بذبح أحد المواطنين في مكتب الأستاذ وهو يصرح أنه جاء ليذبح حقوق الإنسان وبقية القصة يعرفها الناس وبالأخص من تابع فصولها داخل المحاكم مثل الأستاذ بن عمرو والذي تحدث عنها في هذه القاعة بشيء من التفصيل. مع شدة العتمة تنبثق أنوار الفجر ولكن ليل الظلم سرعان ما يتبدد مهما كان فهذا كله كان بمثابة العتمة التي تسبق الفجر فما هي إلا شهور حتى تأسس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وألغي ظهير كل ما من شأنه وعاد المنفيون والمغتربون وتأسست حكومة التناوب ونحن نعيش فصول العهد الجديد في محاولة لتجاوز أخطاء الماضي وجبر ضرر المتضررين وإلى ان يتم تجاوز كل مس بحقوق الإنسان وتتركز دولة الحق والقانون. نشكر العصبة على هذا التكريم المستحق. مع التضرع إلى الله بطول العمر ودوام الصحة والعافية للأستاذ النقيب محمد بن عبد الهادي القباب ليتابع نضاله الحقوقي والوطني ولنستمتع بما يكتبه وينشره من فصول حول حقوق الإنسان. ولعل الفرصة تواتينا مرة أخرى للحديث عن الأستاذ القباب الكاتب الذي يملك قلما سيالا وأسلوبا شيقا يختار له من العبارات والكلمات ما يطرب الأذن ويمتع الروح ويغذي العقل.