الحلقة الثامنة : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب. كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدار البيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدار البيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected]
كيف كانت البدايات مع جريدة «الشرق الأوسط» السعودية؟ -كانت صحيفة «الشرق الأوسط» تطبع في لندن وتصل إلى المغرب بعد يوم كامل من تاريخ صدورها، أي أنها كانت تصل متأخرة 24 ساعة وأحياناً 48 ساعة تبعاً لجدول رحلات الطيران بين لندنوالدار البيضاء. بدأت العمل مع «الشرق الأوسط» في ظل ظروف عمل صعبة للغاية. علينا أن نتذكر إنه في ذلك الوقت، أي في آواخر عام 1979، لم يكن هناك فاكس أو أنترنيت كما لم تكن هناك هواتف محمولة، وحتى الحصول على هاتف ثابت كان يتطلب وساطات وتدخلات، وربما تصل الأمور حتى الى وزير البريد، دون الحصول على الهاتف الثابت. ساعدني العربي المساري بعض الشيء في مهمة التواصل مع «الشرق الأوسط»، إذ وافق أن يتصل بي محررو الصحيفة على هاتف «العلم» ومن خلاله تتم عملية إملاء الأخبار. هذه الطريقة في التواصل لم تكن عملية واكتنفتها صعوبات، لأن «العلم» نفسها لم تكن لها آنذاك أرقام هواتف كثيرة. كنت أشعر بالحرج وأنا أنجز عملا من داخل صحيفة مستعملا هواتفها لفائدة صحيفة أخرى. كنت أجد صعوبة في ربط الاتصال بمسؤولي الصحفية بلندن، وفي بعض الأحيان لجأت إلى استعمال خدمة احتساب المكالمة الهاتفية على المستقبل، أي أنك تطلب شخصاً عبر مقسم الهاتف في إدارة البريد لتتحدث إليه بشرط أن يقبل هو المكالمة. واصلت عملي في هذه الأجواء غير الملائمة لأداء مهمتي ثم على الرغم من كثرة المواد التي أرسلتها الى الصحيفة لم تنشر لي أية مادة في البداية، لكني ثابرت على إرسال المواد، أي من ديسمبر عام 1979 وحتى مارس من السنة التالية. وفي 20 مارس 1980 نشرت لي الصحيفة أول مادة وكانت حول تغطية ندوة «تأليف كتب اللغة العربية لغير الناطقين بها»، تلك الندوة كانت عقدت في الرابع من مارس لكن المادة لم تنشر إلا بعد حوالي 16 يوماً، لأن المادة أرسلت بالبريد العادي. وما هو مصير تلك المواد التي بقيت تبعث بها إلى عنوان الجريدة بلندن ؟ - لم أسال عن مصير تلك المواد، ثم إن صعوبة الاتصال بمقر الصحيفة في لندن لم يكن يتيح أصلاً الاستفسار، إضافة الى أني لم أكن أعرف الزملاء هناك، وبالتالي لا أعرف من يمكن استفساره حول مثل هذه الأمور، وبالطبع كانت هناك عقبات كثيرة حتى يمكن أن أتحدث مع رئيس التحرير، وبدا لي أنه من غير اللائق استفساره عن مواد لم تنشر. كان المهم أن أرسل موادي بانتظام والباقي على الله.تحققت أمنيتي عندما نشرت لي أول مادة كما أسلفنا، ثم بعد فترة وجيزة ستنشر لي مادة عبارة عن تصريحات حصلت عليها من سليم الزعنون (ابو الأديب)، وكان وقتها رئيس المجلس الوطني الفلسطيني. كانت مفاجأة كبيرة أن تنشر تلك التصريحات في الصفحة الاولى. في 17 مارس 1980، تلقى المساري رسالة من جهاد الخازن رئيس تحرير «الشرق الاوسط» يقترح فيها رسمياً أن أعمل إلى جانب مصطفى اليزناسني مراسلين للصحيفة بنظام التعويض بالقطعة. وكما سبقت الاشارة لم يتحمس اليزناسني لذلك العرض. ثم كانت هناك مفاجأة سارة في أبريل من تلك السنة، عندما أرسلوا لي شيكاً، عندها أصبحت شبه متفرغ لعملي الجديد في «الشرق الأوسط» وانتظمت في إرسال مواد الى الصحيفة، في حين كنت أواصل الإشراف على صفحة آفاق دولية في «العلم». وهكذا لم تعد وضعيتي المادية بئيسة كما كانت من قبل بل أصبحت مريحة نسبياً. كان أول شيء فكرت فيه بعد هذه «القفزة المادية» المفاجئة تغيير الشقة التي كنت أسكن فيها في زنقة نابولي في حي المحيط بالرباط إلى سكن آخر قيل لي إنه عبارة عن فيلا في «حي بطانة» في سلا. فرحت كثيراً لأنني سأصبح من سكان الفيلات. كانت أول مرة أدخل فيها فيلا، عندما كنت طالباً، حين رافقت زميلتي نجية، رحمها الله، وكنا ندرس سوياً في كلية الآداب، لزيارة أسرتها التي تقطن في فيلا توجد في حي كاليفورنيا في الدارالبيضاء، والواقع أن تلك الزيارة جعلتني أكتشف ماذا يعني «فقر» وماذا يعني «ثراء». تيقنت وقتها أن أتفه شيء في دنيا الله هذه هو «الفقر». لكن لم يكن السكن في حي «بطانة» في فيلا، كما أوهمني السمسار، بل كان عبارة عن مرأب في الدور الأرضي في فيلا يتكون من غرفة ومطبخ وحمام، أي مجرد قبو. بعد انتقالي إلى «السكن الجديد» اقتنيت دراجة نارية لاستعملها في تنقلاتي سواء إلى مقر «العلم» بالرباط أو إلى أمكنة أخرى لحضور بعض الأنشطة قصد تغطيتها. هذا الوضع لم يدم إلا ثلاثة أو أربعة أشهر، حيث سأصبح مراسلا معتمداً لصحيفة «الشرق الأوسط» وفق عقد عمل يحدد الحقوق والواجبات بيني وبين هذه الصحيفة وراتب شهري منتظم. بعد هذا «الانقلاب» في حياتي المهنية والمالية، شعرت أن هناك حالة من الاستياء لتراجع مردوديتي في «العلم» لذلك طلبت من العربي المساري أن أغادر وأتفرغ تفرغا كاملا لعملي الجديد في «الشرق الاوسط». وافق المساري على طلب مغادرتي «العلم»، وكان في منتهى اللطف حيث طلب من محاسب الصحيفة الاستمرار في تسديد مستحقات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. تأثرت كثيراً لهذه الالتفاتة. بل أكثر من هذا، قال لي المساري «أبواب «العلم» مفتوحة أمامك في أي وقت إذا لم تجد نفسك في مكان آخر»، أقول بكل موضوعية إن بعض الاستقلاليين كانوا يتعاملون معي كما لو كنت أنتمي إلى حزبهم على الرغم من أنني كنت تركت «العلم» وتفرغت للعمل مع صحيفة أجنبية. وما هو سقف الراتب الشهري الذي افتتحت به عملك في «الشرق الأوسط»؟ - أول راتب بدأت اتقاضاه كان 400 جنيه استرليني، أي ما يعادل وقتها 2800 درهم. وهو أجر محترم جداً في تلك الفترة، وكان يشكل قفزة حقيقية في مسار حياتي الاجتماعية. وبالفعل أصبحت شخصا آخر بعد هذا الراتب، إذ انهمكت في عملي ليل نهار، أركض بغير تأفف أو تعب خلف جميع الأنشطة والمؤتمرات والمهرجانات، وهذا أمر طبيعي أيضا لأني كنت في العشرينات، شاباً يافعاً يريد أن يحقق طموحاته المهنية والمادية. مع مرور الأيام راح إسمي يروج داخل الوسط الصحافي، وما أكتبه أصبح يحظى بالإهتمام، خاصة أني كنت حينها أول مراسل معتمد في المغرب من طرف صحيفة عربية من حجم «الشرق الأوسط». بل أستيطع أن أزعم إني أصبحت معروفاً خلال فترة قصيرة. كان هناك مراسلون أجانب يمثلون مؤسسات إعلامية معظمها فرنسية أو اسبانية، كما كان يأتي بين الفينة والأخرى صحافيون من فرنسا أو إسبانيا أو غيرهما من الدول الأوربية والعربية لإنجاز بعض التغطيات الصحفية ثم يعودون إلى بلدانهم. هكذا أصبحت أجري حوارات مع شخصيات سياسية وزانة في السلطة وخارجها. وأذكر في هذا السياق أن أول حوار سياسي أجريته كان مع الداي ولد سيدي بابا وكان وقتها رئيساً لمجلس النواب، ومن قيادات حزب التجمع الوطني للأحرار الذي كان يقوده آنذاك أحمد عصمان. كان الداي ولد سيدي بابا يتحدر من أصول موريتانية، لكنه كان، رفقة اثنين آخرين من الزعماء الموريتانيين يعتبرون أن موريتانيا جزءا لا يتجزأ من المغرب، لهذا التحق هؤلاء الثلاثة بالمغرب وعاشوا فيه ورفضوا الاعتراف باستقلال موريتانيا، وهو نفس الموقف الذي كان يدعو إليه حزب الاستقلال على عهد زعيمه الراحل علال الفاسي. ألم تكن السلطات المغربية تتضايق من موادك المنشورة في «الشرق الأوسط»؟ - في البداية لم يكن هناك أي ضيق حول ما كنت أكتبه عن المغرب، أو هكذا اعتقدت.على الرغم من أني كنت في بعض الأحيان أتناول أموراً في غاية الحساسية. كنت أحرص على إنجاز تلك المواد ومراعاة الجوانب المهنية، وأعتقد أن هذا المنحى كان ينظر إليه بتقدير، والسبب أن «الشرق الأوسط» كانت أول صحيفة بالعربية أسست لتقاليد جديدة في مهنة الصحافة، ولم أكن أجد أي حرج في الاتصال بأي مسؤول من أجل أخذ وجهة نظره في قضية أو حدث ما، وكان يصعب على صحافي من الصحف الوطنية أن يفعل ذلك، لأن السائد في تلك الفترة هو أن رجل السلطة هو خصم بطبيعة موقعه للصحافي والصحافة. ساد انطباع وقتها أن نقل صحافي تصريحات أي مسؤول في السلطة حول قضية من القضايا، لابد أن تكون له خلفيات أخرى، وعادة ما تساور الزملاء في الوسط الصحافي الشكوك بشأن علاقات هذا الصحافي وارتباطاته. كانت الأجواء السياسية والإعلامية في المغرب تعرف حالة استقطاب حادة، كان من الصعوبة ان تخلق مسافة بينك وبين المعارضة والسلطة في الوقت نفسه.إذا كنت قريباً من المعارضة هذا يعني تلقائياً علاقة فاترة مع السلطة، والعكس يعني أنك ستجد صعوبة في الحديث مع المعارضين. واجهت هذا الواقع وصادفت صعوبات جمة، خاصة أني كنت أبحث عن استقلالية. ولعل من المفارقات أن بعض المتشددين داخل السلطة كانوا يرون أني أتعمد محاباة المعارضة، في حين كان المتشددون داخل أحزاب المعارضة، يلصقون بي تصنيفات جاهزة تقول إني «عميل للسلطة». لم يكن هذا الأمر صحيحاً في الحالتين، وستثبت الوقائع والأحداث بعد ذلك أنني في كل الأحول كنت «صحافيا» أسعى لكتابة مواد متوازنة. بكل صراحة، لم أكن أكترث للاتهامات من هذا الجانب أو ذاك، ولا أعير أي اهتمام لما يقال هنا وهناك، كان الأهم بالنسبة إلي هو أن أتحرك في جميع الاتجاهات، أتحدث مع الجميع، لست مع أحد أو ضد أحد، أكون فقط حيث يكون الخبر. من الأشياء الحساسة التي أثرتها في بداية عملي مع «الشرق الأوسط»، هي أني نشرت خبراً أتحدث فيه عن معاناة معتقلين من شباب حركة الشبيبة الإسلامية المحظورة. وهي الحركة التي أسسها عبد الكريم مطيع الهارب من العدالة في قضية مقتل الزعيم الاتحادي عمر بنجلون. كان هؤلاء الشباب اعتقلوا في فترة احتقان سياسي، على الرغم من أن تورط حركة مطيع كان ثابتاً في أغتيال عمر بن جلون. كان من الصعب في تلك الفترة الاقتراب من مثل هذه المواضيع، ومع ذلك نشرت بياناً لبعض شبان «الشبيبة الاسلامية» حول مسألة اغتيال عمر بن جلون. أتذكر في هذا الصدد أن شاباً ملتحياً كان يبحث عني والتقينا بالقرب من فندق باليما بالرباط، وكانت تبدو عليه آثار التعب والإرهاق، يبدو متوجساً كما لو أن هناك جهة ما تتعقب خطواته، قبل أن يسألني عما إذا كنت أستطيع أن أنشر بيانأً، وسلمني البيان قبل أن يتوارى بعد أن وعدته بأني سأطلع عليه وسأرسله إلى النشر في أقرب وقت إذا كان يستحق ذلك. عندما قرأت البيان وجدت أنه يتحدث عن موقف شباب من معتقلي الشبيبة الإسلامية، ينفون فيه أية صلة لهم بحادثة اغتيال بن جلون. الشاب صاحب هذا البيان كان هو عبد الإله بنكيران، الأمين العام الحالي لحزب العدالة والتنمية. كان قد أفرج عنه آنذاك للتو من السجن بعد فترة من الاعتقال في قضية لها ارتباط بتوزيع منشورات ضد النظام من طرف أنصار عبد الكريم مطيع. نشر ذلك الخبر في «الشرق الأوسط» علماً أن نشر مثل هذه الأخبار كان يمكن أن يتسبب في كثير من المساءلات، لكن أؤكد أنني لم أتلق أي استفسار بعد نشر ذلك البيان الذي تلقيته من عبد الإله بنكيران، على الرغم من أن القضية كانت لها حساسية شديدة. والمؤكد أن النشر لم يكن ليرضي أجهزة السلطة في ذلك الوقت. لم يقف الأمر عند ذلك الحد، بل نشرت خبراً عن أن بعض الشبان المحسوبين على «الشبيبة الاسلامية»، أشرت فيه إلى أن أولئك المعتقلين تعرضوا إلى تعذيب أثناء التحقيق، على الرغم ألا علاقة لهم بحادث مقتل عمر بنجلون، كما ذكروا في روايتهم. وربما قليلون هم أولئك الذين يعرفون أن سبب علاقتي الودية إلى الآن مع بنكيران هو أني نشرت خبراً يتعلق به وبرفاقه في أجواء استثنائية جداً، وربما لهذا السبب أيضا عندما أصدر بنكيران صحيفة «الراية» الناطقة باسم حركة «الإصلاح والتجديد» فضل أن يطبعها في الشركة المغربية للطباعة والنشر التابعة لصحيفة «الشرق الأوسط». وكانت تلك الشركة تشكل نواة لمشروع طباعي ضخم، لكنه تعثر بسبب عقبات إدارية. أفهم من كلامك أنك تعتبر انتقالك إلى «الشرق الأوسط» كان قفزة نوعية في مشوارك المهني؟ - نعم. أكثر من هذا أصبحت متحمسا للعمل والعطاء. سافرت إلى لندن للتدريب في مجال الصحافة، وحصلت على ديبلوم من أحدى الجامعات هناك. كما عملت أيضا لفترة قصيرة في إذاعة «بي بي سي»، وعندما عدت إلى المغرب كنت متأثراً بالتقاليد المعمول بها في الصحافة الغربية، وهي تقاليد تفرض على الصحافي أن يتطرق الى الأحداث بحياد وموضوعية، مع حرص شديد على نقل جميع وجهات النظر التي لها علاقة بالخبر، وتحري الدقة في نشر الأخبار. وتعلمت وقتها أنه من الأفضل من الزواية مهنياً، نشر خبر صحيح حتى لو نشر متأخراً، من نشر سبق هناك نسبة ضئيلة ألا يكون صحيحاً أو دقيقاً. ألم تستدع من طرف أجهزة الأمن المغربية وأنت تكتب مواد حول تنظيم الشبيبة الإسلامية الذي كان أنصاره يوزعون منشورات ضد نظام الحسن الثاني؟ - أبدا، لم يتم استدعائي، لكن سيقع حدث هو الذي جعل مسؤولين ربما ينتبهون إلى أسلوبي في العمل. أقصد هنا أحداث 8 ماي 1983 أمام مقر حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في حي أكدال في الرباط، والتي ستقود الى انشقاق عمودي في حزب الاتحاد الاشراكي عندما أصبحت هناك مجموعتان قياديتان، واحدة بقيادة المكتب السياسي والأخرى بقيادة مجموعة «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية/ اللجنة الإدارية». هذا التيار هو الذي سيؤسس في عام 1991 «حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي» الذي يرأسه حالياً المحامي أحمد بنجلون. كانت لهذا الحدث أصداء كبيرة، لأن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كان الحزب الأكثر تأثيراً في الحياة السياسية وحزب المعارضة الرئيسي في البلاد، كما أن ما حدث أمام مقر الحزب كانت له تداعيات كثيرة ومثيرة، نظرا للثقل السياسي الذي كان يشكله الاتحاديون في تلك الفترة وسط الساحة السياسية. كان أول ما قمت به في سياق رصد تداعيات ذلك الحدث، أني أجريت حوارا مع أحمد بنجلون بعد اعتقال عدد من رفاقه في مجموعة اللجنة الإدارية. وأذكر أني ذهبت إليه في مكتبه المشترك مع المحامي عبد الرحمن بنعمرو قبالة محطة القطار في الرباط. وطلب مني بنجلون أن أرافقه في جولة على مقرات الحزب لأرى بنفسي كيف أن مجموعتهم هي التي تشكل الأغلبية، في حين أن الموالين للمكتب السياسي بزعامة عبد الرحيم بوعبيد ليسوا إلا أقلية ولا تمتلك شرعية تمثيل الحزب، وكان ذلك اعتقادهم الراسخ. عندما نشرت تصريحات بن جلون في «الشرق الأوسط» أحدثت ردود فعل وسط الاتحاديين والمؤكد داخل دوائر السلطة. ثم أجريت حوارا مهماً مع الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد على خلفية الانشقاق الذي وقع في الحزب، وهو من الحوارات التي أعتز بها في مشواري المهني، لأنه كان بحق «خبطة صحافية» كما نقول في لغتنا المهنية. إذ لأول مرة سيقول عبد الرحيم بوعبيد في ذلك الحوار عبارته الشهيرة «أرض الله واسعة»، وهي عبارة قالها أيضاً في حوار آخر مع مجلة «الوطن العربي»، ولأن تلك المجلة كانت أشهر بكثير من «الشرق الأوسط» في ذلك الوقت، اعتقد كثيرون أن بوعبيد استعملها لأول مرة في ذلك الحوار، في حين أنه استعملها لأول مرة في حواره مع «الشرق الأوسط»، وكان يعني بتلك العبارة أنه إذا كان التيار الراديكالي لا يقبل بقرار الحزب المشاركة في الانتخابات عليهم أن يذهبوا ويؤسسوا حزباً جديداً. ودخلت عبارة «أرض الله واسعة» الى القاموس السياسي المغربي، حيث سيقول بها زعيم اتحادي آخر هو عبد الرحمن اليوسفي على خلفية انسحاب مجموعة نوبير الأموي من مؤتمر الحزب السادس الذي انعقد عام 2001. وما هي الترتيبات التي سبقت هذا الحوار الذي أجريته مع الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد؟ -لم تكن هناك ترتيبات، كانت الأمور في ذلك الوقت تتم في منتهى البساطة. حصلت على رقم منزله حيث كان يقطن في زنقة مشليفين في حي اكدال، اتصلت به وأتذكر أنه أجابني بنفسه، وقلت له إني مراسل صحيفة «الشرق الأوسط» في المغرب وأريد ان أجري معه حواراً، وحدد لي موعدا دون أي تردد. استقبلني بوعبيد في منزله، وعندما أنهينا الحوار جلسنا نتحدث لفترة من الوقت حول العالم العربي. لم تكن لديه معلومات كثيرة عن السودان، لكنه تحدث عن مصر خاصة فترة جمال عبد الناصر. كان عبد الرحيم بوعبيد شخصية قوية واثقا من نفسه، ويمتلك صفات زعامية واضحة. يتحدث بطلاقة، ولا يتردد في قول ما يعتقد ولم يكن يتراجع عما يقول سواء ثبتت صحته او عدم صوابه. كنت تعرفت عن كثب على قدراته وشجاعته السياسية عندما حضرت محاكمته في سبتمبر عام 1981 في المحكمة الابتدائية في الرباط. المهم في هذا كله أني أصبحت أستدعى إلى الأنشطة الرسمية السياسية وكذا الحزبية التي تنظمها الأحزاب من مختلف التوجهات. لكن ينبغي أن أشير إلى أن تجربتي السابقة في «العلم» ساعدتني في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى لم تكن كذلك. إذ بسبب عملي من قبل في «العلم» كان بعض السياسيين والمسؤولين يتعاملون معي بشيء من التحفظ. وأذكر من هؤلاء المعطي بوعبيد، رحمه الله، الذي كان يمازحني قائلاً «أهلاً الاستقلالي». وهذا هو حال السياسة والصحافة في المغرب، الناس يبحثون لك عن خانة ما يضعونك بداخلها ويتعاملون معك على هذا الأساس. وهذه مسألة عانيت منها كثيراً بعد ذلك، لكنها لم تؤثر في عملي. هكذا أظن.