سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أول مادة كتبتها في «العلم» كانت عن شارلي شابلن وكدت أطرد بسبب «المنشقين السوفيات» امتهنت الصحافة بعد إلغاء منحتي واحتفيت بأول راتب بالتهام كمية من الموز
الحلقة الرابعة : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب. كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected] ماذا فعلت بعد أن رفضت السفارة السودانية التراجع عن قرارها القاضي بإلغاء منحتك؟ -كان يمكن ألا أمتهن الصحافة لولا ذلك القرار التعسفي بإلغاء منحتي. كان يمكن أن أستمر في الدراسة إلى أن أحصل على شهادات عليا تتيح لي العمل أستاذا في الجامعات، وكانت تلك أمنية حياتي. لكن بعد ذلك القرار لم يعد مقبولا أن أبقى في انتظار أن تهبط علي مائدة من السماء. أصبحت أفكر جدياً في البحث عن عمل، أي عمل مهما كان، على الرغم من أن مشواري الدراسي لم يكن قد اكتمل بعد، خاصة أن أسرتي في السودان لم يكن بمقدورها أن ترسل لي درهماً واحداً. في أي مستوى دراسي جامعي كنت حينذاك؟ - كنت قد أنهيت السنة الثالثة في شعبة الفسلفة، لكن من الضروري الإشارة إلى أن بحثي عن عمل لم يكن يعني قراراً بالانقطاع عن الدراسة. لم تكن هذه الفكرة واردة إطلاقاً، لأن النجاح في السنة الثالثة في الدراسة الجامعية في ذلك الوقت كان بمثابة نهاية المشوار الدراسي للطالب، ولا يبقى له في السنة الرابعة إلا بعض الدروس المحدودة وبحث التخرج. أكثر من هذا، غالبا ما كان الطلاب ينجزون البحوث في منازلهم، وهو ما قمت به. أنت الآن في السنة الثالثة تبحث عن أي فرصة عمل، فكيف أتيحت لك هذه الفرصة في مجال الصحافة؟ - بعد قرار إلغاء منحتي، لم أعد أحمل وحدي هم البحث عن عمل، لكن حتى زملائي السودانيين حملوا معي هذا الهم، وأصبحوا يبحثون لي عن أي وظيفة أو «بريكول»، كما يقال بالدارجة المغربية، لمواجهة ظروف الحياة. ولأن القدر ينسج أحداثه بكفاءة أحياناً، شاءت الصدف أن يغادر الصحافي السوداني الراحل أبوبكر الصديق الشريف ليبيا ويستقر في المغرب، حيث عمل في البداية في صحيفة «الأنباء»، التي كانت تصدرها وزارة الإعلام المغربية، ولا أدري كيف انتقل بعدها إلى العمل في صحيفة «الميثاق الوطني» التي كلف أحمد عصمان، و كان وقتها وزيرا أول، عبد الله استوكي بإصدرها لتصبح لسان حال حزب التجمع الوطني للأحرار. كما صدرت صحيفة أخرى باللغة الفرنسية تحمل اسم «المغرب»، ناطقة باسم الحزب نفسه. تولى استوكي إصدار الصحيفتين، وكلف محمد الطنجاوي برئاسة تحرير صحيفة «الميثاق الوطني». تعرفت على أبو بكر الصديق الشريف بالصدفة بعد أن أستقر في المغرب، لذلك اقترح علي العمل في الصفحة الدولية للصحيفة الجديدة. كنت على استعداد أن أعمل في أي وظيفة وليس بالضرورة محرراً. ذهبت إلى مقر «الميثاق الوطني»، الذي كان يوجد في مبنى مؤقت في شارع علال بن عبد الله في الرباط، وعلمت لاحقاً أن الصحيفة الجديدة استعارته من مجموعة «لوماتان». قدمني أبوبكر الصديق الشريف إلى المسؤول الإداري والمالي في الصحيفة، وأتذكر أن اسمه «نعيم». كان شخصاً غريب الأطوار، وعلمت في ما بعد أنه كان يعيش في فرنسا. لم يستغرق لقائي به وقتا طويلا، بل طلب مني مباشرة أن أدخل إلى قاعة التحرير لأعمل محرراً. عند دخولي القاعة، وكانت أول قاعة تحرير أدخلها في حياتي، وجدت مجموعة من الزملاء المحررين، بينهم واحد اسمه محمد الشوفاني. كان الشوفاني مسؤولا عن الصفحة الدولية في الصحيفة. كان يعمل، في الأصل، أستاذا في التعليم، ولا أدري أين طوّحت به الأيام الآن. ولأني كنت أتقن الإنجليزية بشكل جيد، طلب مني الشوفاني العمل على ترجمة بعض المقالات من صحيفة «هيرالد تربيون»، وكان قد سبقني إلى العمل في مجال الترجمة الأخ محجوب البيلي. إذن بدأت مشوارك المهني مترجما وأنت ما تزال طالبا في السنة الثالثة بشعبة الفلسفة. -دعنى أقول إن النظام الدراسي، الذي كان معمولا به في ذلك الوقت، يسمح للطالب بأن يتعلم بعض اللغات الأجنبية كلغات تكميلية. أي أن الطالب عندما ينهي مشواره الدراسي يجد نفسه تعلم لغة أخرى يضيفها إلى رصيده من اللغات. شخصياً، كنت أتقن اللغة الإنجليزية منذ كنت طالباً في السودان، ثم أصبحت أتقنها إتقاناً جيداً، لأنني درستها أيضاً كلغة تكميلية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية. كان أول مقال كلفت بترجمته من الإنجليزية إلى العربية في صحيفة «الميثاق الوطني» حول انتخابات جرت في تركيا، عندما استطاع بولنت أجاويد، رئيس الوزارء التركي الأسبق، هَزْم سليمان ديميريل. وماذا كان رد فعل رئيسك في القسم الدولي على أول عمل صحفي تقوم به؟ -لازلت أذكر أن الشوفاني عندما قرأ الموضوع مترجماً علق قائلا: «أنت فعلا صحافي». سألني عما إذا كنت مارست الصحافة من قبل، وكان ردي أني لم أعمل في الصحافة قط. لكن الأهم من ذلك أن سي الشوفاني أخذ يتحدث عني بشكل إيجابي، وراج وسط العاملين في الصحيفة بأن لدي موهبة. عندما صدر ذلك الموضوع في اليوم التالي مذيلاً باسمي، قرأته مرات ومرات. غمرني شعور كبير بالفرح، عندما وجدت أن المادة موقعة كالتالي «طلحة جبريل عن الهيرالد تربيون». لم أكف ذلك اليوم عن قراءة الموضوع، حتى كدت أحفظه. بعد ذلك طُلب مني الحضور إلى مقر الصحيفة بانتظام. كان ذلك في مايو 1977. وتلك كانت بداية عمل في الصحافة سيستمر حتى اليوم. وما هو سقف الراتب الشهري الذي أصبحت تتقاضاه بعد اشتغالك في «الميثاق الوطني»؟ - قيل لي إن راتبي سيكون 2500 درهم في الشهر. كان راتباً كبيراً جداً بمقاييس تلك الأيام، لكن لم يحدث إطلاقا أن توصلت بذلك الراتب، وإنما كنت أتوصل بجزء منه فقط، إذ كنت أتقاضى راتباً في حدود مبلغ ألف درهم وأحيانا يهبط المبلغ إلى 500 درهم، وما عليك إلا أن تحمد الله. أتذكر أنني عندما استلمت أول راتب، وكان في حدود ألف درهم، ذهبت إلى السويقة واشتريت كمية كبيرة من الموز. كنت أحب هذه الفاكهة كثيراً، ورحت في تلك الأمسية ألتهم الموز كما تفعل القردة في غابات أفريقيا. وشبعت موزاً إلى حد التخمة. كانت تلك هي الطريقة التي احتفيت فيها بأول راتب أتقاضاه من هذه المهنة. ولماذا كنتم لا تتقاضون أجوركم كاملة؟ -كان المسؤول الإداري والمالي، أي سي نعيم ذكره الله بخير، شخصاً يتعذر فهمه. كلما دخل أحد المحررين إلى مكتبه ليتسلم راتبه، يفتح درجاً، ويتناول ظرفاً ويسلمه ذلك الظرف ويطلب منه مغادرة المكتب فوراً، دون أن يعرف حتى المبلغ الموجود في الظرف. وإذا حاولت الاستفسار يقول لك بحزم: «من بعد، من بعد». سأعرف فيما بعد أن الصحيفة لم تكن لها ميزانية محددة، بل مجرد دفعات مالية تسلم إلى عبد الله استوكي من الوزارة الأولى، وكان عليه أن يتدبر الأمر. ويبدو أن الصحيفة كانت تعاني أزمة مالية، لأنها لم تكن تتوصل بميزانية منتظمة. كنت أجد صعوبة في التواصل مع سي نعيم، وكان يتحدث كثيراً بلغة فرنسية يلوكها بطريقة عجيبة. كان يقدم لك الراتب الذي يريد، لا ما تم الاتفاق عليه، لكني لم أكن وحدي من يتوصل براتبه ناقصاً، بل جميع العاملين كانوا يتقاضون أجورا غير الأجور الأصلية المتفق عليها، وفي كثير من الأحيان لم تكن هناك مرتبات. كما أن الذي جعل الأزمة المالية تتفاقم هو أن عبد الله استوكي دخل في مشروع تجاري لتأسيس مطبعة. هل اعتمد أحمد عصمان على بعض الجهات المالية لتمويل مشاريعه الإعلامية آنذاك؟ - لم أكن في موقع لمعرفة مثل هذه الأمور الدقيقة. كنت مجرد طالب يكسب رزقه من العمل محرراً مبتدئاً في صحيفة. كان عملاً يعتمد على الترجمة لا أكثر. لكن ما سمعته فيما بعد أن ميزانية كبيرة صرفت على ذلك المشروع الإعلامي من «الصندوق الاسود» في الوزارة الاولى، خاصة أن المطلوب كان الإنفاق على يوميتين، وإنشاء مطبعة، وشراء بناية في وسط الرباط. وكيف أصبحت وضعيتك فيما بعد داخل «الميثاق الوطني»؟ -أصبحت أكتب بانتظام، بل شرعت في كتابة عمود بعنوان «مساقط ضوء» أتطرق فيه لبعض القضايا الدولية، وحملت معي العنوان نفسه عندما انتقلت إلى صحيفة «العلم». وما هي قصة استقطاب «الميثاق الوطني» لبعض الأسماء الصحفية من جريدة «العلم»؟ - كان عبد الله استوكي يرغب في بناء مؤسسة إعلامية كبيرة، ويريد أن يعمل بطريقة مهنية واحترافية، متأثراً بالمدرسة الصحافية الفرنسية، التي كانت رائدة في ذلك الوقت. كان على سبيل المثال يوفد صحافيين إلى الخارج لتغطية بعض المؤتمرات والأحداث، ولم يكن ذلك أمراً هيناً في تلك الفترة. ولا ننسى أنه كان يريد منافسة صحيفتين لهما رصيد كبير، وأعني «العلم» و«المحرر». كان استوكي يريد أن يكون لصحيفة «الميثاق الوطني» حضور قوي في المشهد الإعلامي، ولأن الأمر كذلك، راح يستقطب صحافيين جدداً لكسب هذا الرهان، ووقع اختياره في البداية على ثلاثة أسماء من المحررين الشباب في صحيفة «العلم»، هم محمد الأشهب وعبد القادر شبيه ومحمد بنيس. أتذكر أن «الميثاق الوطني» أقامت حفل عشاء في مطعم فاخر في الرباط، احتفاء بضم هؤلاء المحررين. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ستلتحق بالصحيفة أسماء أخرى من الشباب، أذكر من بينهم حسن الراشدي، الذي سيصبح فيما بعد مديرا لمكتب قناة الجزيرة بالرباط. كانت لحسن الراشدي حظوة خاصة لدى مسؤولي الجريدة مباشرة بعد التحاقه بكم، وكان كلما تحسنت أحواله ساءت أحوالك أنت؟ - هذا صحيح، لكن ليس لدي أي تفسير لذلك. لم أكن أعرف ماذا يدور في الكواليس. كم مدة اشتغلت في جريدة «الميثاق الوطني»؟ -لم تكن المدة طويلة، بل لم تتجاوز تسعة أشهر. كانت ظروفي المادية سيئة للغاية، لأننا في بعض الأحيان لم نكن نتقاضى سنتيماً. وكانت أحوال زملائي الطلبة السودانيين، الذين أسكن معهم في حي المحيط، سيئة كذلك. كنا في بعض الأحيان نكتفي ب«زلافة بصارة» في ما كان يعرف باسم «النقابة»، وهي حوانيت متجاورة تبيع الأكل في باب الحد بالرباط. لكن على الرغم من ذلك واصلت الكتابة دون توقف إلى أن اتصل بي أحد العاملين في صحيفة «العلم» وأبلغني أن عبد الجبار السحيمي، الذي كان وقتها مسؤول القسم الثقافي في الصحيفة، يريد لقائي. ويبدو أن السحيمي أرسل في طلبي، بعد أن قيل له إن لدي إمكانيات تسمح لي بالعمل في «العلم». ذهبت أكثر من مرة للقاء السحيمي بمقر الصحيفة في شارع علال بن عبد الله في الرباط، لكني لم أكن أجده، وبعد زيارات متكررة التقيته. أتذكر أنني بقيت أنتظره نصف يوم إلى أن جاء إلى مكتبه. استقبلني بترحاب، وسألني إذا كنت أرغب الالتحاق بالعلم، واستفسرني عن راتبي في صحيفة «الميثاق الوطني» فقلت إنه في حدود 2500 درهم. طبعاً كان راتباً نظرياً، وربما كانوا في «العلم» يعلمون أن الرواتب غير منتظمة في «الميثاق الوطني»، بل كانت مجرد تسبيقات وأحياناً لا شيء. والمؤكد أنهم وجدوا أن ذلك الراتب مرتفع جداً، وكان بالتأكيد راتباً كبيراً في ذلك الفترة. أتذكر أنه حين اتفقت مع السحيمي على الالتحاق بالصحيفة، ترك أمر الراتب ليبت فيه الأستاذ محمد العربي المساري، وكان آنذاك رئيساً للتحرير. قال لي المساري: «نحن نقترح عليك راتباً في حدود 1300 درهم». وزاد «ليس راتباً كبيراً، لكن المهم أنك ستتقاضى هذا الراتب فعلاً في كل شهر»، وكان يشير إلى حكاية رواتب «الميثاق الوطني». التحقت ب«العلم» في عام 1978. كان ذلك تحولاً إيجابياً وقفزة مهنية إلى الأمام، لأن مجرد الاشتغال في الصحيفة آنذاك يعتبر مسألة في غاية الأهمية، ثم إنني عينت مباشرة محرراً، وجرت العادة وقتها أن تعين الصحيفة العناصر الجديدة، متعاونين أو في قسم التصحيح، ثم ينتقلون بعد سنوات إلى قسم التحرير. كانت 1300 درهم في «العلم» أفضل بكثير من تلك الأجور الوهمية في «الميثاق الوطني». دعني أشير إلى أن المال لم تكن له أي قيمة في مشواري المهني. إذ بقيت علاقتي به دائماً سيئة، لم أخضع يوما لسلطته إطلاقا، وأعتبر أن ذلك ميزة. أتذكر أنني عندما غادرت «الميثاق الوطني» تركت مذكرة صغيرة للأخ حسن عثمان، وكان وقتها يتولى رئاسة القسم الدولي في الصحيفة، فوق مكتبه أخبره بأنني سألتحق بصحيفة «العلم». كتبت تلك الوريقة بالإنجليزية، ويبدو أنها وقعت في يد عبد الله استوكي، إذ عندما عدت إلى «الميثاق الوطني» لاستلام مستحقاتي، انهال علي بشتائم مقذعة، لأنني تركت الصحيفة وانتقلت إلى«العلم». فهمت لاحقاً أنني اتخذت مبادرة أغضبته، إذ في الوقت الذي كان يتعاقد مع محررين من «العلم» على قلتهم أيامئذٍ، أقرر أنا القيام برحلة عكسية، أي أنتقل من «الميثاق الوطني» إلى «العلم». وبالطبع لم أتقاض إلى يوم الناس هذا سنتيماً من تلك المستحقات. وما هو المجال الذي طلبوا منك أن تكتب فيه بجريدة «العلم»؟ - كان اعتقادي أنهم سيطلبون مني أن أعمل في قسم الأخبار، لكني فوجئت عندما طلبوا مني الالتحاق بالقسم الثقافي، أي أن أعمل تحت إشراف السحيمي، الذي كان يرأس ذلك القسم. كان في «العلم» آنذاك حوالي ثمانية محررين، أذكر منهم محجوب الصفريوي وعمر نجيب وميمون الأزماني ومحمد المهدي بناني وعبد الحق الزروالي وأحمد إيمان ومصطفى السباعي. أتذكر أن عبد الجبار السحيمي أحضر لي أول يوم ركاماً من القصاصات وطلب مني أن أحرر مادة صحفية حول الفنان الكوميدي الشهير شارلي شابلن. كنت بعيدا كل البعد عن هذا المجال، ولاعلاقة لي بمثل هذه المواضيع، أي مجال السينما والفن ، بيد أنني اجتهدت وكتبت ما طلب مني. حررت المادة ونشرت بالصفحة الأخيرة. أكثر من هذا، أصبحت أكتب في المسرح والسينما، وغطيت الكثير من الأنشطة الثقافية. ولم تمض فترة طويلة حتى أصبحت أكتب «مذكرات العلم». كانت تلك هي الانطلاقة الحقيقية في عالم الصحافة، لأن من كانوا يكتبون «مذكرات العلم» كانوا يعدون على الأصابع. أتاحت لي تلك الأيام فرصة نادرة للتعرف على الحياة الثقافية والفنية في المغرب وما يمور فيها، وأنا ممتن لتلك الفترة لأنها زادت كثيراً من اهتماماتي الثقافية. كان يكتب كذلك في الصفحة الثقافية، أي الصفحة الأخيرة، المسرحي عبد الحق الزروالي. وكان يعمل آنذاك محرراً في العلم، لكنه سينتقل بعد ذلك ليعمل في ديوان سعيد بلبشير، وزير الثقافة آنذاك. كنت سعيدا بالاشتغال في «العلم»، ثم إن ظروفي المادية تغيرت وأصبحت أتقاضى راتبا منتظماً. وما قصة رحيلك من حي المحيط لتقيم في فندق مع بنات الليل وأنت محرر في جريدة «العلم»؟ - يا لها من أيام! دعني أقول إني لم أنتبه في البداية إلى أن معظم نزلاء ذلك الفندق من فتيات الليل. كنت أبحث عن سكن، ووجدت أن سعر الإقامة في ذلك الفندق معقول. كان عبارة عن «بنسيون». ذلك الفندق لازال موجوداً، وهو لا يبعد كثيراً عن «باب الحد» في الرباط. استغربت كثيراً عندما وجدت نفسي أني أكاد أكون الوحيد، الذي يسكن في فندق معظم سكانه من الفتيات، لكن لا بد من القول إن أولئك الفتيات لم يكن يمارسن الدعارة في الفندق، وإنما كن يقضين فيه فترة النهار فقط، أما في الليل فكن يعملن في العلب الليلية أو في أماكن أخرى. كن أحيانا يعدن إلى الفندق في ساعات متأخرة من الليل وهن يترنحن بسبب الإفراط في الشرب. لكن يشهد الله أن علاقتي بهن كانت طيبة للغاية وبريئة تماماً. وقتها أدركت أن الرذيلة ليست اختيارا،ً بل طريقاً صعباً لمن لا يجد بديلاً عندما تقسو الحياة. أولئك الفتيات كن يستيقظن في حدود الخامسة أو السادسة مساء بعد سهرات ليلية خارج الفندق، ليحضرن باكرا وجبة العشاء، وفي كثير من الأحيان كنا يدعينني لأتناول معهن وجبة العشاء. أنا ممتن لهن لأني قضيت معهن في ذلك الفندق فترة لا تنسى من مسار حياة متعرج، وتعلمت أشياء كثيرة من ظروف حياتهن التعيسة. في غالب الأحيان لم يكن يطلبن مني قيمة الوجبات التي يحضرهنا في غرفهن. لم يكن ينادين باسمي، وإنما كن يطلقن علي لقب «خونا اللوين»، ولم أكن أعرف ماذا تعني لفظة «اللوين». كنت سعيدا باللقب عندما عرفت أن فيه بعض التحبب. وهكذا، أصبح معتاداً أن تسمع وسط العاملين في ذلك الفندق عبارات على غرار «اللوين جاء..اللوين دخل..اللوين خرج». لكن إقامتي في الفندق لم تدم طويلا، إذ غادرته بعد فترة قصيرة لأسكن في سلا، بعد أن قيل لي إن أسعار الكراء هناك أرخص. كان الملحق الثقافي في تلك الفترة بجريدة «العلم» له صيت خاص. لماذا في نظرك؟ - «الملحق الثقافي في العلم وما أدراك ما الملحق الثقافي» هكذا كان يقال في تلك الفترة. كان ذلك الملحق له ثقل ووزن، نظرا لقيمة الأسماء التي كانت تكتب فيه. معظم المثقفين الكبار في المغرب مروا من صفحات الملحق الثقافي. كان اليوم الذي يصدر فيه الملحق يوماً استثنائيا في أيام الأسبوع لدى قراء الصحيفة. أعتقد أن ذلك كان أمراً طبيعياً لأن الصحف الحزبية في تلك الفترة، على قلتها، هي التي كانت تعكس هموم الشرائح المثقفة وطموحاتها وتطلعاتها، ولم يكن هناك بديل. وكيف تعامل معك عبد الجبار السحيمي في بداية مشوارك في الملحق الثقافي؟ - كان عبد الجبار السحيمي لطيفا معي. ولأنني أتقن الإنجليزية، كانت الصحيفة تشتري لي بعض الصحف والمجلات باللغة الإنجليزية مثل يومية «هيرالد تربيون» وأسبوعية «نيوزويك» لأترجم منها ما أعتقد أنه يستحق الترجمة. طلب مني السحيمي إعداد صفحة ضمن الملحق الثقافي، اعتماداً على ما تنشره الصحف والمجلات الإنجليزية. كنت أترجم بعض المواد لتنشر في صيغة «بانوراما»، ويوم صدور الملحق الثقافي كنت أعد صفحة لتنشر في الصفحة الأخيرة معتمداً على الترجمات. أتذكر أني، بسبب تلك الترجمات، كدت أتسبب في أزمة ديبلوماسية بين المغرب والاتحاد السوفياتي بسبب موضوع نشر في صفحة كاملة في الصفحة الأخيرة حول «المنشقين السوفيات». نشرت ذلك الموضوع ولم أكن أدري أن المغرب دخل في مفاوضات مع الاتحاد السوفياتي قصد التوقيع على صفقة حول الفوسفاط بين البلدين، أطلق عليها اسم «صفقة القرن». كان إبرام تلك الصفقة التي سافر من أجلها أحمد عصمان، الوزير الأول آنذاك، إلى موسكو، يرمي في الوقت نفسه إلى الدفع في اتجاه أن تغير موسكو موقفها من مشكلة الصحراء أو على الأقل أن تلتزم الحياد. ولسوء حظي تزامن نشر ذلك الموضوع مع وصول أحمد عصمان إلى موسكو. كان وقتها حزب الاستقلال مشاركا في حكومة أحمد عصمان. - كان حزب الاستقلال مشاركا بثمانية وزراء في الحكومة، لكن الأهم هو أن محمد بوستة، الأمين العام للحزب، كان وزيراً للخارجية. كانت السفارات تعتبر أن ما ينشر في «العلم» و«لوبنيون» يجب أن يحظى بالاهتمام بسبب وجود بوستة على رأس الديبلوماسية المغربية. في اليوم الموالي لصدور الموضوع، استدعاني مدير الصحيفة عبد الكريم غلاب إلى مكتبه، وكانت تلك أول مرة ألتقيه وجها إلى وجه. وماذا قال لك غلاب؟ - عندما دخلت مكتبه طلب مني الجلوس، وراح يتحدث بلهجة مشرقية، لأنه درس في مصر. ربما اعتقد بأنني لا أفهم اللهجة المغربية. وهو يتقن الحديث باللهجة المصرية حتى لتخاله لأول مرة أنه مواطن من أرض الكنانة، وهذا راجع بالتأكيد إلى طول المدة التي قضاها في مصر. لم أكن أعرف سبب استدعائي، ففاجأني بهذا السؤال «ما هذه المصيبة التي فعلت؟». وكان جوابي «أية مصيبة؟»، فأوضح لي بأني كتبت موضوعاً حول «المنشقين السوفيات» بالتزامن مع زيارة أحمد عصمان إلى موسكو، وأن هذا الموضوع ربما تكون له تداعيات على العلاقة بين البلدين، اللذين قطعا أشواطا متقدمة في القضية المتعلقة بصفقة الفوسفاط. شعرت بحجم الحرج السياسي الذي وضعت فيه الصحيفة، وكان ردي ألا أحد أخبرني بهذه المعلومات حول وجود مفاوضات بين الرباطوموسكو، لكن بدا لي أن جوابي لم يقنع غلاب، فأبلغني أن ما فعلته غير مقبول، ثم سألني عن المدة التي عملت فيها بالصحيفة. بدا لي من خلال أسئلته أن قراراً بفصلي بات جاهزاً. لكن يبدو أنهم تراجعوا فيما بعد عن قرار طردي بعد أن تبين لهم أن الأمر يتعلق بخطأ مهني ارتكبته بحسن نية. بعد ذلك تقرر نقلي إلى قسم الأخبار، الذي كان يشرف عليه الأخ عمر نجيب. ربما حتى أكون قريباً أكثر من القضايا السياسية. وخلال تلك الفترة اقتربت كثيراً من الأستاذ المساري، وتعلمت منه الكثير على الصعيد المهني.