عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب. كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) هاجر طلحة جبريل، وهو في سن مبكرة، بلده السودان ليقرر في نهاية المطاف الإقامة في المغرب. ما هي قصة هذا «المنفى الاختياري» بدون عودة إلى الوطن الأم؟ - دعني أقول لك في البداية إني كنت أشتغل نجارا في السودان في ورش الصيانة التابع لمؤسسة النقل النهري الحكومية. كانت تلك المؤسسة توجد على نهر النيل في شرق الخرطوم، حيث كانت تتولى صيانة البواخر النيلية، التي تربط شمال السودان بجنوبه عبر نهر النيل الأبيض. توقف مساري التعليمي عند المدرسة الصناعية، وهي مدارس كانت تهدف إلى تخريج عمال مهرة، حيث تعلم طلابها حرفاً يدوية. مدارس تشبه إلى حد بعيد ما يطلق عليه في المغرب «مراكز التكوين المهني». أنا أصلاً، أتحدر من قرية تقع عند منحنى النيل في شمال السودان تسمى «شبا»، وهي إحدى قرى منطقة مروي. منطقة تعيش فيها قبائل الشايقية العربية، وتشتهر بأهراماتها المماثلة لأهرامات الجيزة في مصر، وتوجد في المنطقة منذ عصور الفراعنة. هذه المنطقة هي التي تحدث عنها الروائي السوداني الطيب صالح في روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال». أقول لك جازماً إن الصدفة لعبت دوراً حاسما في مجيئي إلى المغرب. ذات يوم من أيام الله، كنت رفقة زميل لي في العمل قرب مدرسة للبنات في الحي الذي نسكن فيه جنوب العاصمة السودانية. كنا ننتظر الحافلة للذهاب إلى العمل. وقبل وصول الحافلة شرعنا في مغازلة بعض الفتيات اللواتي يدرسن بتلك المؤسسة التعليمية. وكم كان «صادما» لي عندما قالت إحداهن: «يا للعجب. لقد عشنا حتى رأينا نجارين يغازلون البنات». هكذا تحولنا إلى أضحوكة بالنسبة لأولئك الفتيات، فقط لأننا كنا نجارين. حينها تأكد لي أن هذه الحرفة لا تنفعني ولا أنفعها. تلك الفتاة، سامحها الله، جعلتني أشعر أني أنتمي إلى شريحة لا قيمة لها مجتمعياً. تساءلت مع نفسي: «هل مهنة النجارة وضيعة إلى هذا الحد، بحيث تجعلك غير مرغوب فيك من طرف الفتيات؟ لا أدري. المهم أن هذا الحادث هو الذي غير مجرى حياتي، وأدى في نهاية المطاف إلى أن أسافر إلى المغرب. كيف؟ - بعد هذا الحادث أصبح لدي اقتناع راسخ بأني أوجد في أسفل السلم الاجتماعي. يومذاك قلت لصديقي: «لماذا لا نفكر في تغيير هذه الحرفة وتحسين مستوانا الاجتماعي عبر متابعة دراستنا من جديد؟». لم يتحمس الصديق للفكرة، لكن الأمر بالنسبة لي أصبح غير قابل للتأجيل، خاصة أني لم أكن أفهم كيف أن النساء في بلدنا لم يكنّ في حاجة إلى الاحتشام، عندما كنا نستدعى إلى بعض البيوت لإصلاح الأثاث المنزلي، لأن هذا الذي يدخل البيوت مجرد نجار، لا يتطلب وجوده أن ترتدي ربات البيوت ملابس محتشمة كما يحدث مع الرجال الآخرين. بعد تلك الواقعة قررت العودة إلى التعليم، وسجلت نفسي في مؤسسة تعليمية حرة استعدادا لاجتياز امتحانات البكالوريا. وفعلا، تمكنت من اجتياز الامتحانات بنجاح، بل بتفوق، ونلت شهادة البكالوريا التي نسميها في السودان «الثانوية العامة» دون أن أنقطع عن مزاولة مهنتي الأصلية كنجار. ولعل من المفارقات أن المعدل الذي حصلت عليه وضعني في مرتبة متقدمة على رأس لائحة الطلبة الناجحين الحائزين على شهادة البكالوريا في العاصمة الخرطوم. فرحت كثيراً لأني نلت شهادة معتبرة وأنا أدرس في مؤسسة تعليمية حرة وليست مؤسسة نظامية. الملاحظ أن هذه «الفوضى» التعليمية ظلت ترافقك حتى أثناء وجودك بالمغرب. -(يضحك) نعم. هذا صحيح، وسنتحدث عن ذلك لاحقا. وأعود لأقول كان الحصول على البكالوريا بنسبة جيدة في السودان يفتح الطريق للالتحاق بجامعة الخرطوم، وهي جامعة كان لا يدخلها إلا المتفوقون في دراستهم، لكني لم أفعل ذلك، لأن الدراسة في تلك الجامعة، وعلى الرغم من أنها مجانية، فقد كانت تتطلب مصاريف لا أتوفر عليها، لا أنا ولا أسرتي. إذ كنت أتحدر من أسرة محدودة الدخل حتى لا أقول فقيرة. والدي كان سائق شاحنة وجميع إخوتي كانوا في مراحل التعليم المختلفة، ومنهما اثنان كانا يدرسان في جامعة الخرطوم. هنا أفتح قوسا لأقول إن والدي عرض علي في وقت سابق، أي قبل أن أحصل على البكالوريا، أن أعمل معه مساعداً في الشاحنة التي كان يقودها، وكانت من نوع الشاحنات التي لها مقطورة، ويطلق عليها في السودان «القندران»، أي أن أشتغل معه «كريسون»، كما يقال هنا في المغرب. كانت تلك الوظيفة هي أول وظيفة تعرض علي في حياتي دون أن أسعى إليها. لكن ذلك الاقتراح لم يعجبني وفضلت أن أعمل نجاراً، وفي الوقت نفسه أتابع دراستي. أغلق هذا القوس ثم أعود لأقول إن الدراسة في جامعة الخرطوم بدت لي فكرة غير ملائمة لطالب مثلي يتحدر من أسرة معوزة. ألم يكن بإمكانك أن تحصل على منحة دراسية من جامعة الخرطوم؟ -الجامعة لم تكن تقدم منحة. كانت تلتزم فقط بتوفير الدراسة والسكن المجاني (داخلي) للطلاب. ولهذا قررت في آخر المطاف تقديم طلب إلى وزارة التعليم العالي للحصول على منحة للدراسة في الخارج، بعد أن قيل لي إن هذا الخيار ممكن نظرا لتوفري على شهادة البكالوريا بميزة. وفعلا قبل طلبي للدراسة في أربع دول، هي العراق ومصر وتركيا والمغرب. وكان علي أن أختار واحدة من هذه الدول الأربع من أجل الانتقال إليها قصد استكمال دراستي الجامعية. هل سبق لك أن زرت دولة من هذه الدول الأربع. - كما قلت لك، كنت فقيراً ابن فقير ومن عائلة فقيرة ولم يسبق لي أن سافرت إلى الخارج، ولم أكن أعرف شيئاً عن العراق ولا المغرب ولا تركيا ولا مصر، إلا ما قرأته في كتب الجغرافيا. ما كنت أعرفه عن المغرب هو أن فيه بعض الطرق الصوفية مثل التيجانية والشاذلية، وما كنت سأعرف ذلك لولا أن مثل هذه الطرق الصوفية موجودة أيضا عندنا في السودان. كنا نسمع أيضا في الحكي الشعبي، ونحن صغار، كلمة «فاس» دون أن نعرف موقعها على الخريطة، لكن كنا نعتقد أن فاس هي أبعد بلدة في المغرب ولا يحدها إلا البحر، لأن السودانيين كانوا يقولون:«فاس التي ليس بعدها ناس»، والقصد من ذلك أنها بلدة بعيدة ولا يوجد بعدها بشر أو شجر أو حجر، إلا البحر الذي يفصلها عن قارة أخرى. و كان المقصود طبعا هو المغرب وليس فاس نفسها. لماذا اخترت الدراسة في بلد بعيد اسمه المغرب عوض بلد قريب مثل مصر؟ -اخترت المغرب بشكل عشوائي تحت تأثير هذا الدافع، فإذا كان لابد أن يسافر الإنسان إلى مكان ما عليه أن يختار أبعد بلد. وكانت فاس بالنسبة لي، وقتها، أبعد مكان، لا ناس بعده. كم كان عمرك آنذاك؟ - كان عمري صغيراً، أي كنت مراهقا، لأني مولود في قرية نائية. لذلك لم أكن أعرف قط في أي يوم أو شهر أو سنة ولدت. إذ لم يكن أهلنا يهتمون بتسجيل تاريخ ميلاد مواليدهم. تم اختياري ضمن 20 طالبا سيسافرون للمغرب في ثاني فوج للطلاب السودانيين سيدرس في الجامعات المغربية. قيل لنا يومها تم قبولكم في «جامعة محمد الخامس» دون أن نعرف في أي مدينة مغربية توجد هذه الجامعة. أنجزنا كل الإجراءات الإدارية المطلوبة للسفر إلى المغرب، مثل الحصول على التأشيرة من السفارة المغربية في الخرطوم، والتطعيم ضد بعض الأمراض المعدية على اعتبار أننا من بلد توجد فيه أوبئة وأمراض، ثم الحجز في الطائرة للسفر، وبالطبع توثيق الشهادات المدرسية. لم يكن بإمكاننا أن نستقل طائرة عبر رحلة مباشرة إلى المغرب، إذ كان ضروريا أن تكون رحلتنا عبر العاصمة الإيطالية روما، ومنها إلى مطار النواصر في الدارالبيضاء، أو كازابلانكا، كما كان يقال لنا. كانت هذه أول مرة تستقل فيها طائرة؟ - أعترف أنني وزملائي عشنا رجة نفسية غير مسبوقة، ونحن نصعد سلم الطائرة مشدوهين. بالنسبة لي كانت تلك أول مرة أسافر فيها شخصياً على متن شيء ضخم، لكنه لا يجد أي صعوبة في التحليق والصعود إلى ما فوق السحب. توقفت تلك الطائرة في القاهرة، ثم واصلت رحلتها الى روما. عندما وصلنا إلى مطار «ليوناردو دافنشي» في روما، قيل لنا إن حجزنا ليس مؤكداً إلى الدارالبيضاء وأننا على لائحة الانتظار، وهو ما يعني أننا سنمضي ثلاث ليالٍ في العاصمة الإيطالية على حساب شركة الطيران. شعرنا بفرح غامر. كنا 11 طالباً وعددنا الكلي 20 طالباً، والبقية ستلتحق بنا في رحلة تالية. فاتني أن أقول إنهم أخبرونا في الخرطوم أن جامعة محمد الخامس «ستتكفل بكل شيء»، عند وصولنا إلى المغرب، لكن الأمر لم يكن كذلك. كنا نشعر في الواقع بالارتياح ونحن طلبة فقراء، عندما نسمع أن الجامعة ستتكفل بكل شيء، وكان ذلك يعني أننا سنتقاضى منحة تبلغ آنذاك 1200 درهم كل ثلاثة أشهر. لم نكن نعرف هذه التفاصيل، لكن مجرد أن نسمع أن «الجامعة ستتكفل بكل شيء» كان يبعث الاطمئنان في نفوسنا، خاصة أننا سننتقل إلى بلد لا نعرف فيه أحداً. أتذكر أننا تمكنا بصعوبة من جمع مبالغ مالية لتأمين مصاريف السفر عبر الاقتراض من الأقارب. كان هناك ضمن المجموعة التي قُبلت للدراسة ستة أو سبعة محظوظين، لأنهم لم يسافروا معنا عبر رحلة روما وإنما أجلوا سفرهم في انتظار أن يسافروا بالمجان مع وفد رسمي سوداني على متن طائرتين، كان الرئيس السوداني جعفر النميري أرسلهما إلى المغرب لنقل مشاركين سودانيين في المسيرة الخضراء، لأن النميري كانت تربطه علاقة قوية ومتينة مع الراحل الملك الحسن الثاني. لكن الجميل في هذا كله أن هذه المشاركة السودانية في المسيرة الخضراء ستفتح لنا، نحن كطلاب جئنا من أجل الدراسة، أبوابا كان يمكن أن تظل موصدة، والسبب أن المسؤولين المغاربة اعتقدوا أننا جميعا جئنا لنشارك في المسيرة الخضراء. قبل ذلك، لنعد إلى توقفكم في روما الذي دام ثلاثة أيام -عندما نزلنا من الطائرة إلى أرضية مطار روما، بدونا للإيطاليين في شكل كائنات غريبة. كنا نرتدي ملابس سودانية، أي الجلباب والعمامة، وهي ملابس لا تصلح إلا في السودان كبلد «تئن الحجارة من فرط حرارته»، لكن في روما «كانت الحيتان تموت من البرد»، وكانت درجة الحرارة لدى وصولنا تحت الصفر، حتى أن أسناننا كانت تصطك من شدة البرد. كان بعض المدخنين منا، وأنا واحد منهم، عندما ننفث دخان السجائر في الهواء، يتحول إلى خيط مربوط إلى أفواهنا بسبب برودة الطقس. و لجهلنا اعتقدنا أن السجائر الإيطالية لا تنتهي ونحن ننفث دخانها في الهواء. لكن يبقى الشيء المثير أكثر هو ما حصل لي رفقة زميل لي في غرفة مزدوجة بالفندق، الذي تم حجزه لنا على نفقة الخطوط الجوية السودانية، ذلك أننا أردنا تشغيل جهاز التدفئة حتى نقي أجسادنا المنهكة من شدة البرد القارس، لكن الذي وقع هو أن زميلي أعطى إشارات خاطئة للجهاز، إذ بدل أن يضغط على الزر الخاص بالحرارة، ضغط على الزر الخاص بالبرودة، لأن إشارات هذا الجهاز كانت مكتوبة باللغة الإيطالية وليست الإنجليزية. ماذا حدث بعد ذلك؟ - كدنا نتجمد من شدة البرد، والحمد لله أننا كنا نحسن التواصل باللغة الإنجليزية، إذ تمكنا من ربط الاتصال بإدارة الفندق لنخبرهم «بهذه المصيبة». عرف الفندق حالة طوارئ حقيقية ليتم إنقاذنا من موت محقق. وأذكر أنه تم إنزالنا من غرفة الفندق في حالة يرثى لها ونحن نرتعش من شدة البرد. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل عشنا أيضا واقعة طريفة أخرى في ذلك الفندق، ونحن نرى لأول مرة في حياتنا شيئا غريبا اسمه المصعد (الأسانسور). كان الأمر بالنسبة إلينا محيراً، ولم نفهم كيف أن هذا الجهاز يصعد إلى أعلى طابق من طوابق الفندق بمجرد لمسة على زر صغير، ويهبط إلى الطابق الأرضي أيضا بلمسة زر. كان طبيعياً أن نصاب بالذهول، فمعظمنا جاء من أقاليم نائية في السودان، ولم نكن ننتمي إلى أسر تسكن عمارات، وجميع المنازل في الأحياء السكنية بالخرطوم كانت تتكون من طابق واحد، وحتى إن كان هناك مصعد فهو نادر جداً في تلك الفترة، أو على الأقل لم نشاهده. ولأن الأمر كذلك، فقد قضينا ليلتنا كلها غير نائمين في غرفنا كما هو الوضع الطبيعي، وإنما في المصعد نصعد ونهبط، ونحن في حيرة من أمرنا من هذا الصندوق الحديدي الذي يصعد ويهبط بمجرد الضغط على زر. والمثير في كل هذا أن هؤلاء الطلبة السودانيين، الذين بدوا لدى وصولهم إلى روما، «دون ذرة عقل» وقضوا ليلتهم صعودا ونزولا في مصعد الفندق كما لو أنهم «همج»، ومنهم 13 طالبا من الحاصلين على شهادات الباكلوريا بتفوق، بعضهم اليوم سفراء وأساتذة جامعيون ومدراء شركات وصحافيون وأصحاب مناصب رفيعة في حكومة السودان، بل فيهم من رشح لمناصب وزارية. قضية أخرى كانت من مفارقات «أيام روما» هي عندما قمنا بتحويل مبالغ مالية قليلة لا تتجاوز 50 أو 60 دولارا، هي مقدار ما كان يملكه كل واحد منا، إلى الليرة الإيطالية، إذ أصبحت لكل واحد منا رزم كثيرة من أوراق الليرة، واعتقدنا أنها أموال كثيرة ولها قيمة في أسواق النقد وستضعنا، بدون شك، في خانة الأغنياء وتنقلنا إلى حياة «ألف ليلة وليلة». والواقع أن الأمر ليس كذلك، لأن تلك الأموال لم تكن كافية لتسديد قيمة وجبة في العاصمة الإيطالية. لكننا اعتقدنا جهلاً أننا كنا نتوفر على مبالغ طائلة، لأن المبلغ البسيط تحول إلى «آلاف الليرات» ولم نكن ندري أن الليرة أصغر وحدة في العملة الإيطالية. بعد ثلاثة أيام ستغادرون روما... - نعم، بعد ثلاثة أيام سنغادر روما باتجاه مطار النواصر في الدارالبيضاء، وكنا نتفاءل خيرا بهذه اللازمة التي سمعناها أكثر من مرة: «جامعة محمد الخامس ستتكفل بكل شيء لدى وصولكم». لكن الذي حدث لدى وصولنا هو أن أصحاب سيارات الأجرة الموجودين أمام بوابة المطار هم الذين تكفلوا «بكل شيء» عندما أخبرناهم بأننا طلبة سودانيون جئنا لنتابع دراستنا في جامعة محمد الخامس. أول شيء فعله أولئك السائقون، سامحهم الله، هو أنهم قاموا بتوزيعنا على مجموعات وحملونا في «موكب» من السيارات بيضاء اللون إلى الرباط دون أن نعرف أن هذه العملية ستكلفنا ما تبقى لدينا من مبالغ مالية زهيدة بقيت في جيوبنا. والحقيقة أننا تعرضنا لخدعة، لأن أصحاب سيارات الأجرة كانوا يتحدثون معنا بالدارجة المغربية، حتى توهمنا، لفرط سذاجتنا، أنها سيارات مرسيدس تابعة لجامعة محمد الخامس، ولم ننتبه إلى أننا سقطنا في الفخ حتى وصلنا إلى الرباط، حيث طلبوا منا النزول في شارع محمد الخامس، بعد أن أدينا لهم ثمن الرحلة. بعدها أصبحت معها جيوبنا فارغة. وماذا فعلتم بعد أن نزلتم في شارع محمد الخامس بالرباط؟ - أتذكر أننا وصلنا ليلا إلى الرباط، وكم كان المنظر مضحكا للغاية عندما وجدنا أنفسنا تائهين في شارع محمد الخامس ونحن نسأل، بالعربية الفصحى، بعض المغاربة في الشارع عن مكان وجود جامعة محمد الخامس، التي «ستتكفل بكل شي لدى وصولنا». والمضحك أكثر أن بعضنا كان يحمل حقائب حديدية لا توجد إلا في السودان، لكن لا أحد عرف من جميع الذين تحدثنا إليهم أين توجد هذه الجامعة،لأنه أصلا لاتوجد بناية بهذا الاسم، بل الذي يوجد هو مجموعة من الكليات متناثرة، كما نعرف، تضم تخصصات في الحقوق والعلوم والطب والصيدلة والآداب، تحمل اسم جامعة محمد الخامس. وهكذا بقينا نذرع الشارع ذهابا وإيابا بملابسنا السودانية، أي الجلابية والعمامة، إلى أن التقينا بالصدفة بطالبين فلسطينيين يدرسان في كلية الحقوق، أذكر أن أحدهما يتحدر من غزة واسمه غسان. والفلسطينيون في غزة يعرفون جيداً السودانيين لأنهم حاربوا إلى جانبهم في حروب 48 و 56 و 67. المهم أن الطالبين الفلسطينيين فوجئا بأننا نبحث عن شيء لا وجود له اسمه «جامعة محمد الخامس» قبل أن يؤكدا لنا ألا وجود لمبان بهذا الاسم، وأننا مطالبون بتدبير كل أمورنا بأنفسنا الى أن نسجل في إحدى الكليات. حينها تأكد لنا بالملموس أن مقولة «الجامعة ستتكفل بكل شيء» كان كلاماً غير دقيق. أمام هذا المأزق الذي وجدنا فيه أنفسنا، اقترح علينا الفلسطينيان أن نبحث أولا عن مكان نمضي فيه ليلتنا في انتظار الصباح، ثم بعد ذلك نذهب الى «الحي الجامعي مولاي إسماعيل». ولأنه لم يكن ممكنا أن نقضي ليلتنا في فندق من خمسة نجوم أو حتى بنجمة واحدة، لأن أصحاب سيارات الأجرة بمطار محمد الخامس فعلوا بنا فعلتهم، فقد دلنا الفلسطينيان على فندق بأثمنة رخيصة في «السويقة». وحتى هذه الأثمنة الرخيصة في ذلك الفندق البئيس بدت لنا جد مرتفعة، لولا أن الزميلين الفلسطينيين تكفلا، تضامنا معنا، بأداء جزء منها، قبل أن نتوزع على غرف الفندق في مجموعتين، تضم كل مجموعة ستة إلى سبعة طلاب. ودعَنا الفلسطينيان بعد أن ضربا لنا موعدا في الصباح أمام مبنى «ستيام» (عمارة السعادة حاليا) بشارع محمد الخامس. وفعلا، التقينا أمام هذا المبنى وجلسنا في مقهى لتناول الإفطار. اعتدنا، نحن في السودان، أن نشرب الشاي الأسود «ليبتون» بالحليب مع بعض اللقيمات، أوما يعرف في المغرب ب«السفنج». استغربنا لهذا الاسم لأن«السفنج» يعني الحذاء في عاميتنا. طلبنا من نادل المقهى شايا بالحليب، فجاء لنا بشاي أخضر لوحده ثم حليب. وصعق النادل عندما رأى، ربما لأول مرة في حياته، كائنات بشرية تخلط الشاي المغربي بالحليب وترتشفه بنهم مع فطائر «السفنج».