سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عطوان: تكهنت معظم أجهزة الإعلام العربية بأن جريدة "القدس العربي" ستقضي نحبها سريعا قال إن عثمان العمير فضل نشر خبر فوز فريق ويمبلدون بكأس إنجلترا بدل مجازر الإسرائيليين ضد الانتفاضة
قليلة هي تلك السير الذاتية التي تعكس التاريخ مثلما تعكس سيرة حياة عبد الباري عطوان أحداث زمانه. فقد ولد عبد الباري عطوان في مخيم للاجئين في غزة عام 1950، التي غادرها في السابعة عشر من عمره ليصبح أحد أهم المعلقين الصحفيين في قضايا الشرق الأوسط في العالم. عطوان يروي بصدق وروح عفوية في هذا الكتاب قصة رحلته من أوحال مخيم اللاجئين إلى رأس هرم صحيفة «القدس العربي». خلال رحلته يصور عبد الباري عطوان الرعب الذي سببته مذابح المخيمات والنتائج غير المتوقعة للتدخل البريطاني في المنطقة. كما يروي المآسي التي واجهته جراء تنقله من بلد إلى آخر، والصدمة الثقافية التي أحس بها عندما سافر إلى لندن في السبعينيات. ويحكي أيضا لقاءاته الصحفية مع شخصيات سياسية مهمة مثل مارغريت تاتشر وأسامة بن لادن وياسر عرفات والعقيد القذافي وشاه إيران. كما لا يخلو الكتاب من روايات عن تجارب شخصية وإنسانية كان أكثرها تأثيرا تجربة لقاء أولاده بريطانيي المولد مع عائلته في المخيم. نهاية المشوار مع «المدينة» بعد أقل من سنتين من مقابلتي، التي أجريتها مع مارغريت تاتشر، كانت وظيفة الأحلام كمدير لمكتب «المدينة» في لندن قد شارفت على نهاية غير متوقعة عندما أوقع أحمد محمود رئيس تحرير الصحيفة نفسه في مشكلة حين أمر بنشر مقال عن الرئيس السوري حافظ الأسد. في عام 1984 كان أحد الصحفيين في جريدة المدينة قد كتب مقالا يذكر فيه أن هناك انقلابا حدث في سوريا بينما كان الرئيس السوري حافظ الأسد يخضع للعلاج في المستشفى على إثر أزمة قلبية حادة ألمت به. ولسوء حظ الصحفي ورئيس التحرير أحمد محمود أن الأسد تعافى من الأزمة القلبية وبعث بشكوى إلى المقربين منه في العائلة المالكة السعودية ينتقد فيها فقدان رئيس التحرير للنزاهة والمصداقية في نشر الخبر. وما كان من السعوديين إلا أن قاموا بفصل كل من أحمد محمود والصحفي من الصحيفة وتم استبدال رئيس التحرير بآخر جديد هو حمزة أبو الفرج. لكني لم أستطع أن أبقى مع أبو الفرج لأننا لم نكن، أنا وهو، على وفاق. عدت مرة أخرى إلى حظيرة «الشرق الأوسط» بصفتي سكرتيرا للتحرير في مجلتهم الحديثة التي كانت تدعى «المجلة»، وبعد ذلك أصبحت سكرتيرا لتحرير الصحيفة نفسها، لكن نفس المشاكل السياسية التي كنت أعاني منها في «الشرق الأوسط» طفت على السطح من جديد. وبلغ السيل الزبى في 14 مايو من عام 1988 عندما كانت أحداث انتفاضة الحجارة الفلسطينية في أوجها. كانت هذه الانتفاضة الأولى قد حصدت 1200 شهيد فلسطيني، وفي يوم كثر فيه القتل توصلنا في الصحيفة بعدد كبير من الصور التي تجسد الفظاعات الإسرائيلية، التي ارتكبوها بحق الفلسطينيين، وكنت أريد نشر هذه الصور في الصفحة الأولى. وتصادف أن حصل فريق ويمبلدون على كأس اتحاد الكرة الإنجليزي في ذلك اليوم. ورغم انزعاجي الشديد، قرر رئيس التحرير عثمان العمير في ذلك الوقت أن ينشر الخبر في الصفحة الأولى بدل موضوع الانتفاضة. قال لي وقتها: «هذا خبر رائع يعطينا كثيرا من الأمل! تخيل لقد هزموا فريق ليفربول. إنها أشبه بهزيمة داوود لجالوت». لكن المفارقة أننا كنا قد ضيعنا نشر قصة داوود وجالوت في الأحداث التي تقع بين الفلسطينيين الذين لم يكونوا يملكون سوى الحجارة لمواجهة العدو الإسرائيلي المجهز بأحدث العتاد. بعد هذا الحدث قدمت استقالتي من الصحيفة - من كل قلبي- وغادرتها إلى غير رجعة. هذه المرة في 14 من شتنبر 1988. ولادة «القدس العربي» عندما قدمت استقالتي إلى صحيفة «الشرق الأوسط» كنت رجلا متزوجا وكان لدي طفلان ورهن عقاري يثقل كاهلي، ولكنني رغم ذلك قررت ألا أتسرع في الانتقال إلى وظيفة أخرى. توصلت في ذلك الوقت بعرض مغرٍ من جميل مروة، رئيس تحرير صحيفة «الحياة» اللبنانية، التي كانت انتقلت حديثا إلى لندن، ولكنني كنت أريد العمل باستقلالية وكنت أخطط لإصدار أسبوعية باللغة العربية. كان هدفي الرئيسي في ذلك الوقت خلق مشروع جديد يكون له وقع وصدى في عالم النشر العربي برمته. في أكتوبر من عام 1988، سافرت إلى الجزائر لحضور الاجتماع السنوي للمجلس الوطني الفلسطيني. وخلال إحدى فترات الاستراحة التي تخللت الاجتماع طلب مني وليد أبو الزلف، أحد أكبر أبناء عائلته والمؤسس لأول وأقدم صحيفة فلسطينية هي صحيفة «القدس»، أن يتحدث معي على انفراد. أخبرني وليد وقتها أن عائلته تريد تأسيس طبعة دولية من صحيفة «القدس» وبدأ في شرح تفاصيل خطتهم الرامية لإنشاء صحيفة عربية قومية مستقلة. قلت له «إنها أخبار جيدة» وأردفت قائلا: «سيحصل هذا قريبا إن شاء الله». وعندما ربَت على كتفه مطمئنا كنت سأمضي في طريقي. لكن وليد استوقفني قائلا: «عبد الباري، نريد أن يكون مقر الجريدة هو لندن». وأضاف «سوف يكون لديكم الكثير من الحرية في التحرير خارج الشرق الأوسط»، لكنني علقت وقتها بأن إقامة صحيفة في لندن سيكون مكلفا جدا»، غير أنه أكمل قائلا: « نحن نريدك يا عبد الباري أن تكون رئيس تحرير هذه الصحيفة!». رغم أنني أخذت وقتي في اتخاذ قراري النهائي حول هذا العرض، لكنني عموما لم أكن لأضيع مثل هذه الفرصة. كانت فكرة صوت حر للإعلام العربي خطوة شجاعة وجديدة طالما طال انتظارها. ورغم حقيقة أن الميزانية التي رصدت لهذه السابقة الصحفية – والتي كان من المقرر أن تحمل اسم «القدس العربي» – كانت ضئيلة إلا أن الطموح والتفاؤل والإيمان كان يفيض ليغطي على عجز الميزانية. كانت هناك بالتأكيد فرصة للنجاح، ولكنني أدركت أيضا أن فرص الفشل كانت تفوق بكثير فرص النجاح! كانت هناك ثلاث ساحات لصحف عربية كانت قد أرست أقدامها في الواقع الصحفي في لندن (حيث كانت بيروت قدت مركزها الإعلامي في العالم العربي بسبب الحرب). كان اثنان من هذه المنابر الصحفية قد أسسا في عام 1977، منهما مشغلي السابق – صحيفة «الشرق الأوسط» التي كان يملكها الأمير فيصل بن سلمان ابن حاكم الرياض، وصحيفة «العرب» التي كان يملكها وزير الإعلام الليبي السابق أحمد الهوني. وقد انضمت إلى هاتين الصحيفتين صحيفة «الحياة» اللبنانية في عام 1988 بعدما توقفت عن الصدور في بيروت 1976 بسبب الحرب الأهلية. وكانت «الحياة» مملوكة للأمير خالد بن سلطان رئيس هيئة الأركان وابن وزير الدفاع السعودي. كانت هذه الصحف الثلاث تهيمن على المشهد الإعلامي العربي في لندن. وبما أنها تتمتع بدعم مادي سخي، فقد كانت مقراتها تحتل بنايات راقية و كبيرة وكانت قادرة على دفع تكاليف تشغيل أحسن الكتاب وأمهر أطر الإنتاج. وبمقارنتها مع هؤلاء العمالقة الثلاثة، خرجت صحيفة «القدس العربي» إلى الوجود طفلا غير مكتمل النمو، ضعيفا واهنا. وتكهنت معظم أجهزة الإعلام العربية بأن هذه الصحيفة سوف تقضي نحبها بعد أشهر قليلة من الصراع على الحياة. كان المشككون في نجاح «القدس العربي» يتوقعون بشكل منطقي – محقين في ذلك – أن لا أحد من الكتاب المرموقين سوف يرضى بترك وظيفته التي يتقاضى منها أجرا مرتفعا ليشارك في مغامرة صحفية غير محمودة العواقب من هذا النوع. وليس هذا فقط، فقد توقع هؤلاء أنه سيكون من الخطير سياسيا على أي صحفي أن يشارك في صحيفة تنتقد الأنظمة العربية. فهؤلاء الصحفيون يخاطرون بعدم العمل في أي دولة أو جهة عربية بعد ذلك. لكن خطتي لإنشاء صحيفة «القدس العربي» لم تكن تحتاج كتابا صحفيين مشهورين أو متمرسين يكونون مكلفين على الصعيد المادي، بل كنت أريد للصحيفة أن تتميز بطابعها الخاص المستقل وقررت أن أفضل طريقة لإضفاء هذا الطابع هو العمل مع فريق عمل شاب وطموح يمكن تمرينه على العمل الصحفي بواسطة صحفيين آخرين أكثر خبرة في المجال. وبهذه الطريقة يمكننا تطوير الجريدة بشكل ذاتي وجماعي، بينما نصقل المهارات الفردية للكتاب الصحفيين الجدد. وسرعان ما وجدت مقرا للجريدة في مجموعة من المكاتب المهترئة في حي هامرسميث حيث مازلنا نعمل حتى الآن. كانت صحيفة «الحياة» أول صحيفة عربية أو ربما أول صحيفة في العالم تستخدم تقنية الحاسوب لوضع تصميم الصحيفة. و قد رأيت عندما أسسنا «القدس العربي» أن هذه الطريقة لم تكن فقط أسرع وأكثر فعالية فحسب، بل كانت أيضا أقل تكلفة من طرق الطباعة التقليدية.