لا أدري متى بدأ كل شيء في هذه المدينة وهي اصلا على شكل حاجب العين؟، لكني اليوم أعرف بل سأبوح لكم معشر العشاق على أن مدينة الحاجب كانت أول شاهد على الجمال وأول قاتل حين أثمر الحب وأيعن في آنٍ واحد. في قلب هذا الامتداد الأطلسي بالضبط، حيث تتعانق الجبال مع الأفق، وكأنني ولدتُ صغيرًا لا أفقه شيئًا عن الحب أو بالأحرى عما يسمونه حبا وأسميته عشقا خرج من قمقم هذا الحب، ثم كبرت كما يكبر جميع الأطفال لأدرك مع مرور الأيام في فضاء مغلق لكن لم يكن كذلك بالنسبة لي؛ اجل أدركت أن هذه المدينة لم تكن مجرد مكان، بل كانت قدرا مقدورا لا يوصف إلافي عش العشاق الأبرياء حينذاك، وكانت هذه المدينة المتمنعة، أول من حبتني الحب الجميل وأول من سرقته مني سامحها الله. كنت ولا زلت أتساءل إلى حد هذا العمر الذي فضحه الشيب عنوة، ترى في الحاجب أعلنت الميلاد الأول للحب؟ أجل، وحتى لا أكون ناكرا مثل عشاق هم ليسوا بعشاق لأنهم غالبا ما كانوا ولا زالوا يمسكون مكنسة بيد مثلوجة وبأخرى صورتي المقعرة.. الحاجب كانت الحب الأول كالمطر، لم أختر نزوله ولا اختارته محبوبتي التي يعجبني أن أشبهها بأرجوحة ميناء قديم وهي الاخرى ذبل جمالها إلى صارت مثل نخلة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وما دام البوح مثاقا كما صوره جيرار جينيت- Gerard jenet أعترف ثانية على أنني لم أختر كيف غمرني العشق الذابل في مدينة اطلسية غالبا ما اسميعا عروس أطلسية مطلة عل مدينة مكناس في بهاء، لكن العشق جاء حينذاك وانسكب على قلبي كأنه وُلد قبلي وكنتُ له فقط محطة انتظار..أجل محطة انتظار أثثته الأحداث في ثكنة عسكرية لم تعد تعرفني حين زرتها على حين غرة وكأنها هي الاخرى أجتثت من أكذوبة ازلية راسبوتينية، ومع يا حبيبتي الجاحدة لا اخفي على من كلمتهم وأنا في ضيافة ثقافية على أنني أحببتها والدمعة فضحتني كما أحببت شوارع المدينة دور الثكنة المتهالكة التي لا زالت عالقة بذاكرتي الموشومة، كما أحببت أيضا رائحة الأرض بعد المطر وعطر خليلتي البدوية الحضرية، وسعدت حين تنكرت لبدويتها وتبنت حضارة لم تخلق لها البتة، أجل يا من تعرفونني وقد قصصت عليكم ما بات عالقا بذاكرتي بعد نصف قرن أن هذا النثقف أحب أيضا غروب الشمس حين يسكب ألوانه فوق الجبال الشامخة. كنت وكانت وكنا معا صغيرين، لكن أعلم ما لا يعلم الكثيرون بما فيهم معشوقتي الغبية في زمن التفاهة أن الحب حين يأتي لا يسأل عن العمر، فقط ينفجر في القلب كبركانٍ أبديٍّ لا يخمد؛ ستكون كاذبة آن قالت معشوقتي أن الحب قد خمد عندها ورائحتي الطفولية الثكنية لا زالت رغما عنها ستسكن تفاصيلها؛ لست أعلم الغيب لكن الحب كشاف والا إسألوا زليخة ماءا فعل بها يوسف عليه السلام؟. حبنا لم يكن حبًا كالذي نقرؤه في الروايات على الأقل بالنسبة لي، ولم تكن هناك قصائد تُكتب ولا وعود تُقطع، عفوا كانت الوعود تشبه وعود عرقوب، كان حبًنا صامتًا، يفهمه الطريق وشعاب أقشمير، تعرفه الأرصفة، وتحرسه نوافذ المدينة الأطلسية التي تراقبنا بعينٍ صامتة، وكانت بالفعل لنا دليلا. لكن معشر العشاق على أقليتكم أعترف على أنه كما جاءت البدايات عفوية، جاءت النهايات بلا استئذان، ومات الحب الأول كما يموت الميتون، وكما تموت السنابل حين تحرقها شمس الصيف بلا رحمة، كنت على الأقل رخيما بقدر ما كانت المعشوقة تبحث لها عن بديل لانها كانت مجرد نافورة تبحث عمن يطعمها حبا عرضيا لكن ربما سيضمن لها هبة أسطورية، وجل النساء لا يهمن حين يحصحص الحق الا ما هو مادي ليس إلا.. هكذا بقي الحب يحملق في وجه الغياب، ومن يدري من كان صانع الغياب فينا، أبدا لم أكن أنا وبصمت أمي لا زالت تسكن مفاصيلي، ولا وقت لمساءلت الموتي لانهم أصلا لا يكذبون.. قالوا ويا ليتهم لم يقولوا: قد يموت الحب الأول، لكن المدينة لا تموت، تبقى هنا كما كانت، كأنها تسخر منا ومن حكاياتنا ولهذا أعود إليها مرات؛ إليها رغم كل شيء كما أعود لزيارة قبر أمي التي ماتت وارتاحت وبقي العشاق يموتون بالتقسيط، حاولت مرارا الهروب منها لكن عبثا كنت أحاول والحال أنني تركت هناك قلبي، والقلب دليلي معشر العشاق..، كنت أمني النفس واستحضر تضاريسها عساها تخبرني أنها تعلم أنني منها، وأنني لا أملك سوى أن أحبها حتى لو كانت هي من سرق مني أغلى ما كان لدي.. أصبحت أراها اليوم بشكل مختلف، لم تعد المدينة بدونها مجرد شوارع وبيوتًا وأشجارًا، بل أصبحت ذاكرة تمشي على الإسفلت، وأصبحتْ بالنسبة لي أنا الشاعر الذي آمن ما آمن به قيس حين حصحص الحق فخرج إليه أبا ليلى صاروا في وجهه: "..أجئت تطلب نارا أم جئت تشعل البيت نارا..؟ وتبقى تفاصيلة مدينة الحاجب تشبه قصيدة طويلة لا تنتهي. هناك في زواياها القديمة، على جدرانها، فوق تلالها، بين حنايا ناسها، هناك حيث عشت الحب الأول، ورأيت كيف يموت الحب، لأتعلم على الأقل أن بعض الأشياء لا تزول حتى لو غابت أو بالأحرى غيبت. أتساءل اليوم وبعد عمر طويل أتساءل: لماذا انتحر الشاعر خليل حاوي؟ أكيد حب صبرا وشتيلا هو من فعل به فعلته فبات من الشهداء، شهيد الحب الذي أي نعم يقتل؛ وإلى حد الآن لا أعلم إن كان الحب الأول قد مات حقًا، أم أنه بقي ساكنًا في مكان ما بداخلي، يترصدني كلما ظننت أنني نسيته. لكن ما أعلمه جيدًا أن حب الحاجب لم يمت، بل هو من يقتلني ببطء. يقتلني كلما عبرت طرقاتها، كلما شممت هواءها البارد، كلما رأيت الغروب من فوق جبالها، يقتلني كلما أردت أن أهرب فلم أجد مكانًا غيرها يؤويني. من حقي أن أتساءل ألف مرة ومرة وأولا وأخيرا: "..ربما لم يكن الحب الأول حب امرأة، بل كان حب المكان، حب الذكرى، حب اللحظات التي لا تتكرر. وربما أيتها الغائبة لم أكن أحبك وحدك، بل كنت أحب المدينة من خلالك، أو ربما كنت أراها المدينةَ في عينيها. لهذا حين رحلت، لم ترحل الحاجب، بل بقيت هنا، تحاصرني كلما أردت الفكاك منها، كأنها تعلن لي في صمتها أنها الحب الذي لا يموت، حتى لو مات كل شيء آخر. آنها سيرتي الحقيقية وليست طوباوية؛ إنها البوح الذي لا يتقنها إلا العشاق الحقيقيون..