تغنى الشعراء والمغنون بالحب والهوى وأخبار العشاق، ولم يراعوا في ذلك حدودا شرعية ولا تأثر العزاب والمراهقين لكلامهم، خصوصا إذا صاحبه غناء وفحش في الكلام ورقص ومعازف ونساء عاريات وفيديوهات تثير الغرائز، والحقيقة أن هذا الصخب ألغى معاني الحب الجميلة والعشق العذري الذي شاع زمان العفة والحياء والوفاء، وحلّ محله الزنا ولغة الجسد والتعري، فترى الشاب أول ما يلفت نظره في الفتاة مؤخرتها، فإذا صادف أجمل منها انتقل إليها، وهكذا تفننت النساء في هذا الزمان في إظهار مفاتنهن واجتهدن في التعري لعلهن يظفرن برفيق. عشق السلف ألف كبار الأئمة رسائل في الحب والعشق، منها على سبيل المثال كتاب "طوق الحمامة" للإمام ابن حزم وكتاب "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" للإمام ابن القيم وكذا كتابه "الداء والدواء"، وأصله جواب عن سؤال من ابتلي بعشق الصور، أما فتاواهم في هذا الشأن فأكثر من أن تحصى، عرّفوا الحب وذكروا المذموم منه والمحمود والمباح، ومنهم من اشتهر عشقه مثل الإمام داوود الظاهري صاحب مذهب في الفقه، وله مؤلفات في الحديث والتفسير والأدب؛ قال نفطويه : دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه، فقلت كيف تجدك؟ فقال : "حب من تعلم أورثني ما ترى"، فقلت وما يمنعك أن تستمتع به مع القدرة عليه؟ فقال: "الاستمتاع على وجهين: أحدهما النظر المباح، والآخر اللذة المحظورة، فأما النظر المباح فهو الذي أورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فيمنعني منها ما روي عن ابن عباس:(من عشق وكتم وكفّ وصبر غفر الله له وأدخله الجنّة)، وبسبب معشوقه صنف كتاب الزهرة، وجاءته يوما فتيا مضمونها: يا ابن داوود، يا فقيه العراق * أفتنا في قواتل الأحداق هل عليها بما أتت من جناح * أم حلال لها دم العشاق فكتب الجواب بخطه تحت البيتين: عندي جواب مسائل العشاق * فاسمعه من قرح الحشا مشتاق لما سألت عن الهوى هيجتني* وأرقت دمعا لم يكن بمراق وهذا عمر بن عبد العزيز وعشقه المشهور لجارية زوجته فاطمة بنت عبد الملك، وكانت جارية بارعة الجمال، وكان يطلبها من امرأته ويحرص لتهبها له فتأبى، فلما ولي الخلافة أمرت فاطمة بالجارية فأصلحت ثمّ أدخلتها عليه وقالت : يا أمير المومنين الآن طابت نفسي لك بها، فسأل عمر الجارية وقد ألقت ثيابها: من أين صرت لفاطمة؟ فقالت أغرم الحجاج عاملا له بالكوفة مالا، وكنت في رقيق ذلك العامل، فأخذني وبعث بي إلى عبد الملك فوهبني لفاطمة، فقال : شدي عليك ثيابك واذهبي إلى مكانك، فلما أتى أهلها وعزموا على الانصراف، قالت: وأين وجدك بي يا أمير المومنين؟ قال على حاله، بل قد زاد، ولم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات رضي الله عنه. وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة معروف وكانت تسمى "حبيبة رسول الله"، ولما سئل : أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة، قيل ومن الرجال، فقال أبوها. كيف تعامل السلف مع العشاق كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للعشاق ويقول "لم ير للمتحابين مثل النكاح"، بمعنى دواء العشق الزواج لمن استطاعه، أما الزنا فيفسد الحب ؛ وقصة الصحابي مغيث الذي كان يعشق زوجته لكنها لم تكن تبادله نفس الإحساس، فلما تحررت من الأسر فارقته، فكان يتبعها في الأزقة ودموعه تسيل على خديه. روى البخاري في صحيحه من قصة بريرة "أن زوجها كان يمشي خلفها بعد فراقها له وقد صارت أجنبية منه ودموعه تسيل على خديه، فقال النبي يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا؟ ثم قال لها: لو راجعتيه، فقالت أتأمرني؟ فقال إنما أنا شافع، قالت لا حاجة لي فيه ". قال ابن القيم :ولم ينهه عن عشقها في هذه الحال إذ ذلك شيء لا يملك ولا يدخل تحت الاختيار؛ ثم قال :"فهذه شفاعة من سيد الشفعاء لمحب إلى محبوبه، وهي من أفضل الشفاعات وأعظمها أجرا عند الله، فإنها تتضمن اجتماع محبوبين على ما يحبه الله ورسوله، ولهذا كان أحب ما لإبليس وجنوده التفريق بين هذين المحبوبين". وسار خلفاؤه بعده على هذه السنّة مع المتحابين، أبوبكر وعمر رضي الله عنهما، وإليك بعض ما جاء في ذلك: مر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته بطريق من طرق المدينة فإذا جارية تطحن برحاها وهي تقول: وهويته من قبل قطع تمائمي * متمايسا مثل القضيب الناعم وكأن نور البدر سنة وجهه * ينمي ويصعد في ذؤابة هاشم فدق عليها الباب فخرجت إليه، فقال ويلك أحرة أنت أم مملوكة؟ فقالت بل مملوكة يا خليفة رسول الله، قال فمن هويت؟ فبكت، ثم قالت بحق الله إلا انصرفت عني، قال لا أريم أو تعلميني، فأنشدت: وأنا التي لعب الغرام بقلبها * قتلت بحب محمد بن القاسم فصار إلى المسجد وبعث إلى مولاها فاشتراها منه، وبعث بها إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب، وقال هؤلاء فتن الرجال وكم قد مات بهن من كريم وعطب عليهن من سليم. وعن سعيد بن جبير قال كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إذا أمسى أخذ درّته ثم طاف بالمدينة فإذا رأى شيئا ينكره أنكره، فبينما هو ذات ليلة يعس إذ مر بامرأة على سطح وهي تقول : تطاول هذا الليل واخضل جانبه * وأرقني أن لا خليل ألاعبه فو الله لولا الله لا رب غيره * لحرك من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يصدني * وأكرم بعلي أن تنال مراكبه ثم تنفست الصعداء وقالت: لهان على عمر بن الخطاب ما لقيت الليلة، فضرب باب الدار، فقالت من هذا الذي يأتي إلى امرأة مغيبة هذه الساعة؟ فقال افتحي، فأبت فلما أكثر عليها قالت:أما والله لو بلغ أمير المؤمنين لعاقبك، فلما رأى عفافها قال افتحي فأنا أمير المؤمنين، قالت كذبت ما أنت أمير المؤمنين، فرفع بها صوته وجهر لها، فعرفت أنه هو ففتحت له، فقال هيه كيف قلت؟ فأعادت عليه ما قالت، فقال أين زوجك؟ قالت في بعث كذا وكذا.. فبعث إلى عامل ذلك الجند أن سرح فلان بن فلان، فلما قدم عليه قال اذهب إلى أهلك، ثم دخل على حفصة ابنته فقال: أي بنية كم تصبر المرأة عن زوجها؟ قالت شهرا واثنين وثلاثة وفي الرابع ينفد الصبر، فجعل ذلك أجلا للبعث. في دواء العشق مرّ بنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم ير للمتحابين مثل النكاح"، ولهذا حث الشباب على الزواج، فقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج"، وعلى هذا سار الفقهاء، قال ابن القيم عند قول الله تعالى ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ) :" فإنها لا تكمل لذة حتى يأخذ كل جزء من البدن بقسطه من اللذة، فتلتذ العين بالنظر إلى المحبوب، والأذن بسماع كلامه، والأنف بشم رائحته، والفم بتقبيله، واليد بلمسه، وتعتكف كل جارحة على ما تطلبه من لذتها وتقابله من المحبوب، فإن فقد من ذلك شيء لم تزل النفس متطلعة إليه متقاضية له فلا تسكن كل السكون، ولذلك تسمى المرأة سكنا لسكون النفس إليها ". لكنهم لم يعتبروا الزنا دواء للعشق، لأن الشعور بالإثم قد يأتي بنتائج عكسية على المتحابين فتنقلب المحبة إلى بغض وكراهية، بل أرشدوا العاشق في مثل هذه الظروف إلى الصبر والاحتساب، فقد سئل الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله بأبيات: يا أيها العالم ماذا ترى * في عاشق ذاب من الوجد من حب ظبي أغيد أهيف * سهل المحيا حسن القد فهل ترى تقبيله جائزا * في الفم والعينين والخد من غير ما فحش ولا ريبة * بل بعناق جائز الحد إن كنت ما تفتي فإني إذا * أصيح من وجدي وأستعدي فكتب رحمه الله تعالى الجواب : يا ذا الذي ذاب من الوجد * وظل في ضر وفي جهد إسمع فدتك النفس من ناصح * بنصحه يهدي إلى الرشد لو صح منك العشق ما جئتني * تسألني عنه وتستعدي فالعاشق الصادق في حبه * ما باله يسأل ما عندي غيبه العشق فما إن يرى * يعيد في العشق ولا يبدي وكل ما تذكر مستفتيا * حرمه الله على العبد إلا لما حلله ربنا * في الشرع بالإبرام والعقد فعد من طرق الهوى معرضا * وقف بباب الواحد الفرد وسله يشفيك ولا يبتلي * قلبك بالتعذيب والصد وعف في العشق ولا تبده * واصبر وكاتم غاية الجهد فإن تمت محتسبا صابرا * تفز غدا في جنة الخلد. في عفة العشاق جاء في الصحيح من حديث الثلاثة الذين أطبقت على باب غارهم الصخرة، فدعوا الله بأرجى أعمالهم، فقال بعضهم : " اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها فأبت حتى أصابتها فاقة وجاءت تقترض مني، فراودتها عن نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها، فلما قعدت بين رجليها قالت يا عبد الله: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فا فرج لنا من هذه الصخرة، ففرج الله لهم فرجة". وقال ابن أحمر بينا أنا أطوف بالبيت إذ بصرت بامرأة متبرقعة تطوف بالبيت وهي تقول : لا يقبل الله من معشوقة عملا * يوما وعاشقها غضبان مهجور ليست بمأجورة في قتل عاشقها * لكن عاشقها في ذاك مأجور فقلت لها وفي هذا الموضع؟ فقالت إليك عني لا يعلقك الحب؛ قلت وما الحب؟ قالت جل والله عن أن يخفى وخفي عن أن يرى، فهو كالنار في أحجارها إن حركته أورى وإن تركته توارى ثم أنشدت تقول: غيد أوانس ما هممن بريبة * كظباء مكة صيدهن حرام يحسبن من لين الحديث زوانيا * ويصدهن عن الخنا الإسلام. وعن رجاء بن عمرو النخعي قال: " كان بالكوفة فتى جميل الوجه شديد التعبد والاجتهاد، فنزل في جوار قوم من النخع، فنظر إلى جارية منهن جميلة فهويها وهام بها عقله، ونزل بالجارية ما نزل به، فأرسل يخطبها من أبيها، فأخبره أبوها أنها مسماة لابن عم لها، فلما اشتد عليهما ما يقاسيانه من ألم الهوى، أرسلت إليه الجارية: قد بلغني شدة محبتك لي، وقد اشتد بلائي بك، فإن شئت زرتك وإن شئت سهلت لك أن تأتيني إلى منزلي، فقال للرسول ولا واحدة من هاتين الخلتين ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) أخاف نارا لا يخبو سعيرها ولا يخمد لهيبها، فلما أبلغها الرسول قوله، قالت وأراه مع هذا يخاف الله؟ والله ما أحد أحق بهذا من أحد، وإن العباد فيه لمشتركون، ثم انخلعت من الدنيا وألقت علائقها خلف ظهرها وجعلت تتعبد، وهي مع ذلك تذوب وتنحل حبا للفتى وشوقا إليه حتى ماتت من ذلك، فكان الفتى يأتي قبرها فيبكي عنده ويدعو لها، فغلبته عينه ذات يوم على قبرها فرآها في منامه في أحسن منظر، فقال كيف أنت وما لقيت بعدي؟ قالت : نعم المحبة يا سؤلي محبتكم * حب يقود إلى خير وإحسان فقال على ذلك إلى ما صرت؟ فقالت : إلى نعيم وعيش لا زوال له * في جنة الخلد ملك ليس بالفاني فقال لها اذكريني هناك فإني لست أنساك، فقالت ولا أنا والله أنساك، ولقد سألت مولاي ومولاك أن يجمع بيننا فأعني على ذلك بالاجتهاد، فقال لها متى أراك؟ فقالت ستأتينا عن قريب فترانا، فلم يعش الفتى بعد الرؤيا إلا سبع ليال حتى مات رحمه الله تعالى". ذكر هذه القصة الإمام ابن القيم في كتابه "روضة المحبين".