عبد اللطيف الفيلالي، رجل خدم الدولة لمدة سبع وأربعين سنة، قضى الجزء الأكبر منها في الدبلوماسية. كان الرجل كتوما إلى درجة أن الصحافيين أطلقوا عليه لقب «جدار الصمت». اختار الفيلالي، في سابقة من نوعها في المغرب، أن ينشر الجزء الأول من مذكراته، هذا الكتاب الذي أثار اهتمام كل صناع القرار في المغرب .... حصيلة عهد الحسن الثاني: إيجابيات: برنامج تشييد السدود: قرار تشييد السدود في المغرب كان أفضل ما قام به الحسن الثاني، لكنه عندما اتخذ هذا القرار عارضه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لكننا تشبثنا بقرارنا وحاولنا إقناعهم بأننا بحاجة إلى هذه السدود من أجل تطوير فلاحتنا وإطعام ساكنة ما فتئت تتزايد يوما عن يوم. وتم بالفعل بناء الثلاثين سدا، حيث كان المغرب يهدف من وراء ذلك إلى جعل السكان القرويين يتمسكون بالبقاء في القرية، وخلق اقتصاد فلاحي. من جهة أخرى كان علينا منافسة إسبانيا في عدد من المحاصيل مثل الحوامض للحفاظ على مستوى صادراتنا. هذه السدود ساهمت أيضا في رفع إنتاجنا من السكر الذي يعتبر مادة مهمة بالنسبة إلى المغاربة الذين لا يكفون عن شرب كؤوس الشاي طوال النهار. حماية الثروات الوطنية: النجاح الثاني الذي حققه الحسن الثاني هو عندما حاول تطوير سياسة اقتصادية مستقلة. للأسف المسؤولون السياسيون لم يفهموا أو لم يبذلوا حتى المجهود اللازم لذلك. وأوضح مثال على ذلك هو ما حصل في مجال الصيد البحري، عندما كنت وزيرا للخارجية كانت مسألة حماية السواحل المغربية من استنزاف المراكب الإسبانية من أولوياتي. تحدثت إلى نظيري الإسباني عن الأمر فقرر الجنرال فرانكو أنه في غضون ثلاث سنوات سوف يوقف الصيد التقليدي على السواحل المغربية، لكن بعد ذلك دخلت إسبانيا الاتحاد الأوربي، وعوض أن يتفاوض المغرب مع إسبانيا أصبح مضطرا إلى التفاوض مع الاتحاد الأوربي. ولم يكونوا عادلين في مفاوضاتهم إلى درجة أنني اضطررت لأخبرهم أنه لن تكون هناك أيه اتفاقية صيد على السواحل المغربية. كان هذا قبل اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة سنة. لكن للأسف وقعت حكومة اليوسفي من جديد اتفاقية صيد بحري مع الأوربيين. فقلت لنفسي «هذا البلد لا يدرك ما يفعله، إنهم يقضون على الصيد البحري»، لكن ربما كانت هناك ضغوطات. سلبيات: 1 - سنوات البصري: سجل عهد الحسن الثاني عددا من الأشياء السلبية، خاصة على المستوى السياسي، حيث حدثت أشياء غير مقبولة بتاتا. لعل أبرز مثال على ذلك هو إدريس البصري، الذي ظل على رأس وزارة الداخلية لمدة عشرين سنة ظل خلالها الآمر الناهي في كل شيء. وعندما كنت وزيرا للخارجية وظهر مشكل الصحراء، تسبب في وضع كان بالنسبة إلي جنونيا. فقلت للحسن الثاني: «مشكل الصحراء من اختصاص الأممالمتحدة، ما علاقة البصري بالأممالمتحدة. إذا أردت أن يتدخل وزيرك في هذه القضية فلتعينه هو وزيرا للخارجية». في مشكل الصحراء، أهدر المغرب وقتا طويلا بسبب حماقات وأخطاء نظام الداخلية. كان من الممكن في ذلك الوقت تغيير أشياء كثيرة، حيث كان الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك حليفا قويا للمغرب. عندما طلب مني الحسن الثاني أن أكون وزيرا أول قلت له: «هناك تغييرات تفرض نفسها، خاصة وأن سلطات الوزير الأول محددة في الدستور، وهي مختلفة عن سلطات وزير الداخلية، وإذا لم يكن في استطاعتي أن أمارس سلطاتي كما يجب فسيكون من الأفضل أن تعين وزيرا أول غيري، فأنا لم أطلب أن أكون وزيرا أول». فما كان من الحسن الثاني سوى أن استدعى البصري وقال له في حضوري: «في ما يتعلق بسلطات الوزير الأول، من فضلك، لا تتدخل فيها بعد الآن، وإذا حدث مشكل بين وزير الداخلية وبين الوزير الأول، فليتم حل ذلك على مستوى المجلس الوزاري، وليس كما كان يحدث في الماضي». وبالفعل، لم يتدخل البصري في اختصاصاتي بعد ذلك اليوم. 2 - التعليم: من بين الملامح السلبية لعهد الحسن الثاني هناك أشياء لا عذر لها، وهي مسألة التعليم. هناك ثلاثة ملايين طفل مغربي في الشارع. لقد عشت تجربة تونس في هذا المجال. الشيء الوحيد الذي طلب من بورقيبة بعد الاستقلال كان هو «أن يذهب أولادنا إلى المدارس، لا نطلب شيئا غير ذلك»، بعد ثلاث سنوات فقط لم يكن هناك طفل واحد في الشارع في تونس. مستوى الجهل الموجود في المغرب لا يمكن تقبله أبدا. هناك ملايين الأشخاص منذ الاستقلال إلى اليوم لم يروا أبدا المدرسة. الكثير من الوزراء تعاقبوا على وزارة التربية الوطنية لكنهم لم ينجزوا الشيء الكثير. جزء كبير من الوضع الذي نوجد عليه اليوم سببه الفساد، كان المغرب يخصص 26 في المائة من ميزانيته للتعليم، وهو مبلغ ضخم. لكن كان هناك وزراء فاسدون، وكان هناك فساد على مستوى الأقاليم، جزء كبير من تلك ال26 في المائة من ميزانية الدولة كان يذهب إلى جيوب بعض المسؤولين. عندما عينت وزيرا أول، كان من أولوياتي أن أجد وزيرا كفئا، ونزيها لحقيبة التربية الوطنية، وكنت أعرف شخصا يصلح لذلك هو السي بنمختار، والذي كان بالفعل وزيرا كبيرا في التربية الوطنية. الوزارة الأولى لم أكن أريد أن أصبح وزيرا أول، الحسن الثاني أرسل إلى السيد اكديرة ثلاث أو أربع مرات ليحاول إقناعي، فأنا لم أكن مقتنعا أبدا، لكن في النهاية كان علي أن أقبل. كنت أدرك أنني لن أمكث كثيرا في ذلك المنصب لأنني كنت أجر ورائي اثنتي عشرة سنة كوزير للشؤون الخارجية وأكثر من مليون كيلومتر من الأسفار عبر الطائرة. التناوب ذات مساء استدعاني الحسن الثاني ومعي إدريس السلاوي، وسألني إن كان المغرب بحاجة فعلا إلى تغيير، وبحاجة إلى جيل جديد من نساء ورجال، فقلت له: «جلالتكم على حق، يجب فعلا العمل على أن تتغير الأمور». بعد ذلك بشهر، كنت أنا وإدريس السلاوي جالسين إلى الملك فتناول الموضوع من جديد وقال لنا: «هل تعرفان عبد الرحمان اليوسفي؟»، فأجبنا: «طبعا نعرفه، جلالتكم». فسألنا: «هل تعتقدان أنه يجب أن يكون وزيرا أول؟»، فأجبته بأنه إذا كان فعلا يريد أن يحدُث تغيير في البلاد فيجب أن يصبح اليوسفي رئيس الحكومة». حينها قال لي: «إذن ستبقى إلى جانبه قليلا لتساعده على فهم الإدارة، ولن يستمر ذلك أكثر من سنة». وبالفعل بقيت. الحكومة تشكلت حتى قبل أن يعلم اليوسفي بأمر تعيينه. قلت للحسن الثاني: «يجب، مهما كان الأمر، مقابلة اليوسفي أولا وعرض اللائحة عليه». والتقيا بالفعل، وناقشا الأمر واقترح الملك وزيرين بينهما امرأة. في رأيي، الحسن الثاني لم يرد أن يرحل ويترك لابنه وضعا مضطربا، ولا يجب أن ننسى أنه ما بين تعيين اليوسفي ووفاة الحسن الثاني لم تمر أكثر من سنة واحدة، أعتقد أنه هكذا أراد الملك أن يترك الوضع قبل رحيله. كيف كان يعامل الوزراء بعد أحداث الصخيرات، تم تعييني وزيرا للشؤون الخارجية، بعد ذلك بخمسة أشهر كان على الملك أن يذهب إلى ورزازات لتدشين سد هناك، وأراد أن يكون جميع المسؤولين الدبلوماسيين حاضرين هناك. تم تدشين السد وتناولنا وجبة الغداء تحت الخيام، ثم عاد الملك إلى الرباط. بعدها حضر شخص من التشريفات الملكية وأخبرني أن مولاي حفيظ جاء من طرف الملك يريد رؤيتي لأمر طارئ. عندما ذهبت لرؤيته قال لي: «جلالة الملك كلفني بأن أخبرك أنه قد عين للتو الطيبي بنهيمة وزيرا للشؤون الخارجية»، فأجبته: «إذا كان قرر تعيينه فهذا جيد». عدت إلى الرباط، وأنا أقول في نفسي: «نحن في بلد الجنون، يحدث ما حدث في الصخيرات، يتم تعييني وزيرا للشؤون الخارجية، وبعدها بخمسة أشهر يتم تغييري ونحن بصدد التحضير لقمة إفريقية كانت ستعقد في المغرب، سوف أجن، لا أكاد أفهم شيئا». حزمت حاجياتي في حقيبتين واتجهت إلى الخطوط الملكية المغربية واستقليت الطائرة، وذهبت إلى البيت في باريس. هناك قلت لزوجتي: «السلام عليكم. لم يعد المغرب موجودا بالنسبة إلي». لم أكن أريد العودة إلى المغرب. كنت أحاول العودة إلى عملي الأول، أو مقابلة أصدقائي كلما سمح الوقت بذلك. في ذلك العهد لم تكن تقدم لنا تفسيرات. وعندما ذهبت إلى فرنسا، لم يحدث ولا مرة أن سأل الحسن الثاني نفسه، بعد يوم أو أسبوع أو شهر من غيابي: «ماذا حل بالسي عبد اللطيف؟ هل عاد إلى الشؤون الخارجية؟ أين هو؟»، بقيت على هذا الحال مدة سنة، لم يسأل أحد عن أخباري. بداية مشكل الصحراء وجد لي صديق عزيز عملا في أحد الأبناك، أخبرنا بالأمر في الصباح، وفي ساعة الغداء، اتصل بي أخي ليخبرني بأن والدتنا مريضة جدا، طلبت من صديقي أن يؤجل موعد العمل واستقليت أول طائرة في اتجاه المغرب. عندما وصلت تلقيت اتصالا في غرفتي يخبرني بأن شخصا من التشريفات الملكية يريد مقابلتي، جعلتهم يخبرونه بأنني غير موجود. حكيت لأخي ما حدث، فقال لي إنه من الأفضل أن أقابله. قابلت القادم من التشريفات الملكية وقلت له: «ماذا تريد؟»، فقال لي: «جلالة الملك يريد رؤيتك على الساعة السادسة»، عندما قلت لأخي إنني لا أريد الذهاب، قال لي: «لا يمكنك أن تفعل ذلك، عليك أن تذهب لمقابلته وتخبره بالحقيقة وبأنك وجدت عملا في باريس». ذهبت، وقابلت الحسن الثاني، كان يبدو من خلال ملامحه أنه مرتبك، فتساءلت في سري: «ما به؟» كنت أشرح له أنني وجدت عملا عندما وصل كريم العمراني، أخذ الحسن الثاني رسالة وأعطاها لكريم العمراني وطلب منه أن يقرأها جهرا. «جلالة الملك، إنه وبكثير من مشاعر الصداقة والود أكتب إليك هذه الرسالة، لأنني أعرف أنه بإمكاني الاعتماد على مساعدتكم. لقد قررنا أن نعطي الشعب الصحراوي حق تقرير مصيره. وأنا متأكد أن بإمكاني الاعتماد على مساعدتكم. إلى اللقاء، التوقيع، فرانكو باهاموند». حينها قال الملك لكريم العمراني: «إذن سأوقع ظهير تعيين الفيلالي سفيرا لنا في إسبانيا»، وقال لي: «إذن إن شاء الله، إذ لم يغمض لي جفن منذ البارحة، كنت أرى نفسي وجها لوجه أمام ذلك الحقير». وقلت لكريم: «كيف سأقوم بذلك؟ لقد قبلت العمل الذي عرض علي في باريس. أي طريقة هاته يعامل بها الناس؟». فقال لي كريم: «ليس بمقدورك أن ترفض، نحن مقبلون على حرب مع إسبانيا، وقد رأيت الحالة التي كان عليها الملك». عهد محمد السادس كما قلت مسبقا، لقد ابتعدت عن السياسة، إذن فأنا لا أعرف الوضع الحالي بالضبط. إنه ملك جديد وشاب، قرأت عنه بعض الأشياء في الصحف، عندما اعتلى العرش، عن تطور حقوق الإنسان وحقوق المرأة... الآن لا أعرف إن كانت هذه الأشياء لازالت مستمرة. في وقت معين، لم يكف عباس الفاسي عن الحديث عن دستور جديد على صفحات جريدة «لوبينيون»، واليوم ها هو قد أصبح وزيرا أول وليس هناك أي دستور جديد، في السياسة الخارجية يجب إعادة بناء علاقات جديدة مع أوربا، لم أعد أتحدث عن السياسة لكن ذلك يؤلمني أحيانا. إن مستقبل المغرب في نظري هو مع أوربا، ففي تاريخ المغرب فضلت جميع الأسر المالكة المغربية وحتى العلويون عقد اتفاقيات شمال جنوب واتفاقيات مع الغرب، سواء العرب أو البربر. الإسلاموية في المغرب أن يكون هناك تصاعد للإرهاب في المغرب هذا ممكن، والدليل على ذلك هو أحداث 16 ماي، والسبب في ذلك هو الفقر المدقع، لا يجب أن يبالغ الأوربيون والأمريكيون في ذلك. الأمر أكثر تعقيدا مما يعتقدون. الأمر يتعلق بأشخاص تحولوا إلى إرهابيين لأنهم لم يعودوا ينتظرون شيئا من بلدهم. الحي الذي كانوا يسكنون فيه، سيدي مومن، إنه مكان يعيش الناس فيه في ظروف حقيرة جدا. في ما يتعلق بالأحزاب الإسلامية، لو كانت لدي مسؤوليات اليوم لعملت على أن تجنب تسييس الإسلام، إذا أراد أحد ممارسة السياسة فليفعل ذلك في إطار حزب سياسي، وهذا موجود. - لم تأتنا أخبارك منذ بداية عهد التناوب. أين كنت وماذا كنت تفعل؟ < توقفت عن العمل منذ تسع سنوات، وذهبت للاستقرار في فرنسا. أولا لأنني لم أكن أملك بيتا في المغرب. كنت أتقاضى أجر موظف وكان يجب أن أصرفه على تربية أبنائي، وبالتالي لم أكن أملك ما أشتري به بيتا. في رأيي لكي يتملك موظف شيئا لنفسه فإما أن يكون من أسرة ميسورة أو أن يلطخ يديه بعمل غير مشروع... ولم يكن هذا ينطبق علي، لهذا انسحبت إلى بيت زوجتي في ضاحية باريس. - ما السبب في مجيئك إلى المغرب حاليا؟ < أنا أعود باستمرار، لكن هذه المرة جئت من أجل الترويج لكتابي الجديد. - هل ستعاود العمل السياسي؟ < عندما قررت الذهاب وودعت الحسن الثاني قلت له إنني ذاهب إلى فرنسا، لأنني لا أريد أن أمارس السياسة بعد اليوم. أولا لأنني كنت قد تجاوزت السن المناسبة لذلك، فقد عملت سبعا وأربعين سنة في خدمة البلاد، وأعتقد أن الوقت قد حان لكي أستريح. أقضي وقتي في القراءة وفي لقاء أصدقائي. - ما الذي دفعك إلى تأليف هذا الكتاب؟ < عندما يقضي الإنسان كل هذا الوقت في خدمة الدولة، عندما يكون وزيرا للخارجية مدة أربع عشرة سنة، ثم وزيرا أول، سيكون لديه بالتأكيد شيء ما يقوله للشعب المغربي. عندما حلت الذكرى الخمسون للاستقلال، ألقى الملك خطابا، وتوقفت الأمور عند هذا الحد، لدي انطباع بأن قلة من الناس فقط يمارسون فعل الكتابة هنا، في حين أنه من المهم جدا أن نقول كيف كان وضع بلادنا في ذلك العهد. ما الذي تطور، ما الذي تقهقر، وما الذي بقي في مكانه دون حراك في مغرب اليوم. وبشكل أوسع، أردت أن أحكي كيف عاش العالم العربي الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة. - عندما غادرت، هل غادرت وأنت تشعر بأنك أديت واجبك؟ < في السنوات الأخيرة التي كنت فيها وزيرا كان العالم يتغير، لم يعد هناك وجود للاتحاد السوفياتي ولألمانيا كما عرفناها، كانت أوربا تتكون، رغم أنها إلى حد اليوم لا توجد سوى على الورق. في ذلك الوقت، في السبعينيات والثمانينيات، حاولت، آخذا بعين الاعتبار وضع المغرب آنذاك حيث كان الملك الحسن الثاني ممسكا بجميع السلط، أن أفعل كل ما في الإمكان. مع نهاية الثمانينيات بدأت الأمور تتغير، نجحنا في إقناع من كانت السلطة بيديه أنه من اللازم خلق شروط أخرى للعمل، على المستويات السياسي والدستوري والاقتصادي. عن مجلة «version homme» ترجمة سناء ثابت