على خلاف جل الساسة في الحكومة كما في المعارضة، الذين فضلوا الصمت على رواية مذكراتهم، أقدم عبد اللطيف الفيلالي، الذي عاش ما يقرب نصف قرن متنقلا بين ديوان محمد الخامس ووزارة الخارجية والوزارة الأولى، على تدوين مذكراته في كتاب حمل عنوان: المغرب والعالم العربي».. مذكرات فاجأت الذين يعرفون الفيلالي ويعرفون تكتمه وتحفظه الشديدين... لقد خرج الرجل عن قواعد الصمت التي مازال اليوسفي وبوستة ملتزمين بها إلى اليوم. 47 سنة وأنا في خدمة الدولة والملك، منذ أن ضغط علي الحاج أحمد بلافريج في بداية سنوات الاستقلال لأترك دراستي في فرنسا وأسافر إلى نيويورك ملحقا بالبعثة الدبلوماسية الدائمة هناك وسني لا يتجاوز 25 سنة...»، بهذه الجمل يتذكر عبد اللطيف الفيلالي اليوم مسارا حافلا بالأحداث بدأه موظفا في وزارة الخارجية، وأنهاه وزيرا أول، حيث انسحب من الحياة السياسية بعد وصول اليوسفي إلى الوزارة الأولى في مارس 98... مازال الفيلالي يتذكر تفاصيل يوم لم ينسه في حياته. حكاها في لقاء صحافي ببيت ابنه فؤاد الفيلالي بالرباط أول أمس في إطار تقديم كتاب مذكراته. يقول الفيلالي بتلقائية: «لن أنسى في حياتي يوما من أيام سنة 1956، عندما توصلت برسالة، وأنا في نيويورك، من وزارة الخارجية التي كان يديرها الراحل مولاي عبد الله إبراهيم مع الوزارة الأولى.. تطلب مني الدخول إلى المغرب... جمعت حقائبي ودخلت، ففوجئت في اليوم الموالي بموظف من وزارة الخارجية يطرق باب شقتي في الرباط ويخبرني بأسى وعيون دامعة بأن مولاي عبد الله يطلب مني عدم العودة إلى وزارة الخارجية، أي أنه طردني»، يقول الفيلالي وهو يضحك، «فأجبته: ولماذا تبكي؟ إذا كان مولاي عبد الله لا يريدني في وزارته فسأبحث عن عمل آخر. أخذت ابني فؤاد في يدي، وكان عمره آنذاك 3 سنوات، ونزلت إلى شارع محمد الخامس أشم الهواء، وهناك التقيت بمولاي أحمد العلوي الذي كان ملحقا صحفيا آنذاك في القصر الملكي...»، ويقول الفيلالي عن مرحلة لم ينسها: «سألني مولاي أحمد عن تاريخ دخولي إلى المغرب وعن عملي، فقلت له إنني بلا عمل، فاليوم طردت من وزارة الخارجية. لم يصدق الخبر وطلب مني مصاحبته إلى القصر لإكمال الحديث. توجهنا –يقول الفيلالي- إلى مكتبه في المشور، وبعد مدة قليلة رأيت شخصا لم أكن أراه إلا في الصور، ولم أصدق أنني أمام السلطان محمد الخامس، فاستفسرت عن الأمر مولاي أحمد فقال لي: استعد للسلام على سيدنا. سلمت عليه بعدما قدمني له مولاي أحمد على أنني شاب من فاس وأن والدي هو أستاذ لمولاي يوسف والد محمد الخامس. عندها قال لي محمد الخامس -يقول الفيلالي- هل أنت ابن التهامي الفيلالي؟ قلت نعم، فسألني وماذا تعمل الآن؟ لم يتركني مولاي أحمد أجيب -يعلق الفيلالي- فقال لمحمد الخامس: اليوم فقط طرده مولاي عبد الله إبراهيم من وزارة الخارجية، لأنه سبق واعتذر له عن العمل في ديوانه، وأنه يفضل العمل كموظف في الوزارة على أي منصب سياسي. تأسف محمد الخامس لهذا الأمر وسكت برهة وقال لي: غدا تتسلم عملك الجديد في القصر، لقد عينتك مديرا لديواني... فوجئت بقراره وبقيت واقفا مكاني مستغربا وابني فؤاد في يدي، يقول الفيلالي، في يوم واحد أطرد من وزارة الخارجية وأعين مديرا لديوان السلطان محمد الخامس وعمري لا يتجاوز 27 سنة...». وعن أول الملفات التي باشرها في منصبه الجديد، يقول الفيلالي الذي أمسى حزينا على مستقبل البلد والعالم العربي: لقد طلب مني محمد الخامس أن أدرس مقترح الحكومة بإلغاء المنطقة الحرة في طنجة. وبعد أن قرأت الملف الذي أعدته الحكومة، قلت للسلطان إنني لا أرى صوابا في ما ذهبت إليه الحكومة، وأن طنجة مدينة مستقلة ولا داعي لإلغاء نظام المنطقة الحرة الذي جعل الأجانب من كل الجنسيات يسكنونها ويتاجرون فيها ويستثمرون... استغرب محمد الخامس لموقفي، واضطر إلى مجاراة حكومته واتباع رأي عبد الرحيم بوعبيد الذي كان وراء إلغاء المنطقة الحرة... بعد مدة، هجر الأجانب طنجة وأخرجوا رؤوس أموالهم إلى صخرة جبل طارق... فعم الفقر والتهميش المدينة. بعد ذلك –يحكي الفيلالي- التقيت ببوعبيد في سويسرا وسألته عن رأيه في نتائج قرار إلغاء المنطقة الحرة في طنجة... سكت برهة وقال لي: هناك قرارات خاطئة نتخذها في بعض الأحيان...». غدا يروي الفيلالي كواليس تعيين اليوسفي وزيرا أول...