بعد حديث عبد اللطيف الفيلالي عن أسباب فشل دعوة التناوب الأولى سنة 94، أصبحنا أمام ثلاث روايات لهذا الفشل. الأولى تقول إن زعيم حزب الاستقلال امحمد بوستة هو السبب في إلغاء قرار التناوب الذي عرضه الملك الراحل على المعارضة، وذلك عندما تشبث بضرورة التخلي عن وزير الداخلية إدريس البصري، وإن الحسن الثاني غضب من بوستة فتراجع عن عرضه. والرواية الثانية تقول إن المستشار الملكي رضا اكديرة، الذي عرف بكرهه لحزب الاستقلال، هو من أوعز لبوستة بتقديم طلب إلى الملك بالتخلي عن البصري وقال له: «إن جلالة الملك مستعد للتخلي عن البصري إن تشبثت بهذا المطلب»... تقول هذه الرواية، التي يحكيها مقربون من اكديرة، إن هذا الأخير كان يرغب في وصول الاتحاديين إلى الوزارة الأولى وليس الاستقلاليين، وأنه رمى قشرة موز لبوستة، وأن هذا الأخير سقط في أعقابها، عندما غضب الملك منه فأجل التناوب. أما الرواية الثالثة، التي قدمها عبد اللطيف الفيلالي هذا الأسبوع في لقاء صحافي بمناسبة صدور كتاب مذكراته: «المغرب والعالم العربي»، فتقول إن الحسن الثاني لم يكن مهيأ للتناوب في 94 وإن حكاية البصري لم تكن سوى مشجب علق عليه السبب الحقيقي. يروي الفيلالي، الذي رافق الملك الحسن الثاني لمدة 40 سنة، أن هذا الأخير لم يفكر في التناوب سوى بعد إصابته بمرض لا شفاء منه... ورغبته في تمهيد الطريق لابنه من بعده... قصة التناوب بدأت من مصحة طبية في نيويورك، عندما أدخل الحسن الثاني، رغما عنه، إلى المستشفى بعد شعوره بالتعب أثناء حضوره احتفالات الذكرى ال50 لتأسيس الأممالمتحدة سنة 95... لما قاطعت الفيلالي وهو يروي كيف أقنع الملك بصعوبة بضرورة دخول المستشفى، وسألته عن المرض الذي توفي على إثره الملك... قال: «لا أعرف، هذا سر لم أطلع عليه»، ثم أكمل رواية ما حدث: «بصعوبة أقنعته صحبة إدريس السلاوي بضرورة الانتقال من الفندق إلى المصحة... وحتى عندما وضع بين أيادي الأطباء الأمريكيين كان يقول لي: أتعرف يا عبد اللطيف ماذا فعلت.. إنك أدخلت الحسن الثاني إلى المستشفى... هناك -يتذكر الفيلالي- اكتشف الأطباء المرض الذي سيقود ملك المغاربة إلى الموت أربع سنوات بعد ذلك... في 14 يوليوز عندما حضر إلى احتفالات العيد الوطني لفرنسا، شاهدته -يروي الفيلالي- في التلفزة صورة شاحبة، فقلت لزوجتي: الحسن يموت... في سنة 96، سيعين الملك وزير خارجيته وزيرا أول. رفض الفيلالي في البداية قبول المهمة التي عرضها عليه رضا اكديرة، ثم لما قبلها حاول أن يضع بصماته على منصب يعرف، قبل غيره، أنه «منحة من الملك». اشترط أن يفتتح خطاب البرلمان بالحديث عن ضرورة رد الاعتبار إلى الأمازيغية. فوجئ الملك الراحل بهذا الطلب، فقال له الفيلالي: والدي كان يعلمني وأنا صغير تاريخ المغرب، وهذا التاريخ يقول إن القبائل الثلاث الأولى التي حكمت المغرب كلها كانت أمازيغية. إذا سمح لي سيدنا –يروي الفيلالي- فسأفتتح كلمتي في البرلمان بالقول: نحن دولة عربية بربرية... فوجئ الملك بهذا الطلب، فقلت له –والكلام دائما للفيلالي: «مازال أمام سيدنا الوقت لتعيين وزير أول جديد... ثم لماذا تستغرب فزوجتك أنت شلحة... ضحك الملك وقال للفيلالي: أنا موافق، لكن احذر لا أريد مشاكل الآن... كان الفيلالي أول من رحب بدعوة عبد الرحمان اليوسفي إلى قيادة الحكومة في إطار التناوب، حيث فاتح الملك وزيره الأول في الأمر آنذاك في سنة 96، صحبة آخرين من مستشاريه حيث قال لهم: ما هو رأيكم في اليوسفي؟ فلما رأى دهشة البعض... طمأنهم قائلا: «أنا أسأل فقط، أدعوكم إلى التفكير». كان الحسن الثاني –يقول الفيلالي- يفكر، ليس فقط في اليوسفي، بل في مرضه الذي بدأ يقربه من القبر... في رمضان من سنة 97، كانت الفكرة قد أصبحت ناضجة في ذهنه. استدعى الملك الراحل مستشاريه مرة أخرى وسألهم. يتذكر الفيلالي الاجتماع ويروي: «افتتح الحسن الاجتماع بعرض حول الوضعية العامة في البلد... ثم طلب رأي الحاضرين في قرار دخول اليوسفي إلى الوزارة الأولى، فكنت من أول من أخذ الكلمة وقلت: دعوة اليوسفي إلى الوزارة الأولى خطوة سياسية مهمة وإشارة إلى شروع المملكة في التغيير. استغرب الملك قولي ورد: «كيف تقول هذا الكلام وأنت وزير أول». لقد استغرب الملك ترحيب وزير أول قديم بآخر جديد، لكن الفيلالي كان يعرف ماذا وراء هذا التناوب، لذلك كان من المتحمسين له... لما اتخذ القرار -يضيف الفيلالي- قال لي الحسن الثاني: لا تظن أنك ستذهب إلى بيتك عندما أعين اليوسفي في مكانك، ستبقى وزيرا للخارجية إلى جانبه، اليوسفي شخصية مهمة ولكن ليست له تجربة في الحكم. أجاب الفيلالي الملك بالقول: «أوافق يا سيدي بشرط ألا أبقى في هذا المنصب أكثر من سنة...». مرت سنة وشهر، وجاء محمد بنعيسى مكان الفيلالي، ومضت أشهر بعد ذلك وتوفي الحسن الثاني وشيخ الاشتراكيين يقف على يمين الجالس الجديد على العرش، حيث تحققت نبوءة والده في مصحة نيويورك.