أولمبيك أسفي يوجه شكاية لمديرية التحكيم ضد كربوبي ويطالب بعدم تعيينها لمبارياته    تصعيد جديد في صفوف الأطباء الداخليين يشلّ قطاع الصحة    هلال: تقييم دور الأمم المتحدة في الصحراء المغربية اختصاص حصري للأمين العام ولمجلس الأمن    زملاء وأصدقاء المدني يحتفون به "أستاذا عضويا" و"فقيها دستوريا" و"قامة علمية كبيرة" (فيديو)    أداء إيجابي يستهل تداولات بورصة الدار البيضاء    رغم ‬الجهود ‬الكبيرة ‬والأوراش ‬المهمة.. ‬معدلات ‬البطالة ‬ترتفع ‬في ‬المغرب ‬    فارق ضئيل بين ترامب وهاريس.. أمريكا تختار رئيسها ال47    الانتخابات الأمريكية.. نحو 83 مليون شخص أدلوا بأصواتهم مبكرا    هاريس في آخر خطاب لها: "كل صوت مهم في الانتخابات"    صاعقة برق تقتل لاعبا وتصيب آخرين أثناء مباراة كرة قدم في البيرو    القضاء يرفض تعليق "اليانصيب الانتخابي" لإيلون ماسك    المغرب ‬يحقق ‬فائض ‬المكتسبات ‬بالديناميةالإيجابية ‬للدبلوماسية    دقيقة صمت خلال المباريات الأوروبية على ضحايا فيضانات فالنسيا        آس الإسبانية تثني على أداء الدولي المغربي آدم أزنو مع بايرن ميوني    إلياس بنصغير: قرار لعبي مع المغرب أثار الكثير من النقاش لكنني لست نادما عليه على الإطلاق    القفطان المغربي يتألق خلال فعاليات الأسبوع العربي الأول في اليونسكو    وزيرة التضامن الجديدة: برنامج عمل الوزارة لسنة 2025 يرتكز على تثمين المكتسبات وتسريع تنفيذ إجراءات البرنامج الحكومي    حملة لتحرير الملك العام من الاستغلال غير المرخص في أكادير    كيوسك الثلاثاء | المغرب يواصل صدارته لدول شمال إفريقيا في حقوق الملكية        الفاطمي يسأل وزير التجهيز عن مصير الأسر المهددة بالإفراغ من المساكن المخزنية بالجديدة    ترامب أم هاريس؟.. إنطلاق انتخابات أمريكية حاسمة تهيمن عليها مخاوف كبيرة    بقيمة 400 مليون أورو.. المغرب يحصل على قرض لتوسيع ميناء طنجة المتوسط    استقرار أسعار النفط وسط غموض حول الانتخابات الأميركية    احتجاجا على الموقف السلبي للحكومة..نقابيو "سامير" يعتصمون أمام الشركة للمطالبة بإنقاذ المصفاة    ترامب يعد الأمريكيين ب"قمم جديدة"    هاريس تستهدف "الناخبين اللاتينيين"    استنفار أمني واسع بعد العثور على 38 قذيفة في ورش بناء    الهجوم على الملك والملكة ورئيس الحكومة: اليمين المتطرف يهدد الديمقراطية الإسبانية في منطقة الإعصار    تصفيات "كان" 2025.. تحكيم مغربي المباراة نيجيريا ورواندا بقيادة سمير الكزاز    على بعد ثلاثة أيام من المسيرة الخضراء ‮ .. ‬عندما أعلن بوعبيد ‬استعداد ‬الاتحاد ‬لإنشاء ‬جيش ‬التحرير ‬من ‬جديد‮!‬    افتتاح النسخة الثانية من القافلة السينمائية تحت شعار ''السينما للجميع''    «حوريات» الجزائري كمال داود تقوده الى جائزة الغونكور    نجم الكرة التشيلية فيدال متهم بالاعتداء الجنسي    ارتفاع درجات الحرارة في توقعات طقس الثلاثاء    مجلس النواب يصادق على مشروع القانون المتعلق بالصناعة السينمائية وإعادة تنظيم المركز السينمائي المغربي    دراسة: المغرب قد يجني 10 ملايير دولار من تنظيم "مونديال 2030"    نوح خليفة يرصد في مؤلف جديد عراقة العلاقات بين المغرب والبحرين    التساقطات المطرية الأخيرة تبعث الأمل في موسم فلاحي جيد    دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيام في «ضيافة» الشرطة.. وتهمة كادت تؤدي إلى شحننا في طائرة عسكرية إلى الخرطوم
الجوع في «مولاي إسماعيل» جعلنا نحتل السفارة السودانية في الرباط
نشر في المساء يوم 11 - 08 - 2010

عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب.
كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه.
من 12 يونيو 2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدار البيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات.
اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدار البيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل.
في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل.
طلحة جبريل
(صحافي سوداني مقيم في المغرب)

ما هو اليوم الذي اخترتموه لاحتلال السفارة السودانية؟
- لم أعد أتذكر ذلك اليوم أو تاريخه، لكن ما أتذكره جيدا أنه كان يوما من أيام صيف عام 1976. كان يوم عمل، لأننا طلبنا بعد اقتحام السفارة من الديبلوماسيين السودانيين أن يغادروا مبانيها، وقلنا لهم إنهم لن يتعرضوا لأي أذى. كنا قد خططنا لاحتجاز الرشيد نور الدين، السفير السوداني آنذاك، رهينة، وكان مفترضا ألا نطلق سراحه، ما لم نتلق وعداً بحل مشكلتنا مع الجوع. لكن الذي وقع هو أن السفير لم يأت إلى مكتبه ذلك اليوم الذي اقتحمنا فيه السفارة. ربما وصلته معلومات حول ما كنا بصدده.
ألا يبدو أن ما قمتم به يشبه إلى حد ما الأعمال التي يقوم به نشطاء الإرهاب؟
-لا أنكر أني كنت في فترة من حياتي مندفعاً وثائرا،ً لكن قطعاً لست «إرهابيا». لم أكن أستطيع ألا أبادر وأنا رئيس اتحاد طلاب وزملائي يتضورون جوعاً، خاصة عندما يكون هذا الجوع من صنع البشر وليس من صنع القدر.
ما الذي وقع بعد أن اقتحمتم السفارة السودانية؟
-حاصرت قوات الشرطة مبنى السفارة خشية وقوع انفلات. وعندما علم السفير السوداني بخبر الاقتحام، وكان في منزله، طلب من رئيس فرقة الشرطة (كان اسمه بناني وسيصبح لاحقاً مسؤولاً عن أمن البرلمان) أن يخرجنا بالقوة. أذكر أن الضابط بناني طلب منا بلغة آمرة إنهاء احتلالنا السفارة، لكن جميع الطلبة رفضوا أن يتحدثوا إليه، وطلبوا منه أن يتحدث معي باعتباري رئيسا لاتحاد الطلاب السودانيين.
وفعلا أخبرني بأن لديه أوامر بإخلاء المبنى، وهددَنا باستعمال القوة إذا لم نغادر. ومع ذلك، لم نستسلم لتلك التهديدات.
كان ردي عليه أن «ليس لك الحق في استعمال القوة ضدنا لأننا نخوض احتجاجا سلميا فوق أرض سودانية وفق الاتفاقيات الدولية، التي تقول إن السفارات تعد جزءًا من أراضي الدولة التي تمثلها». لم يتقبل هذا الرد، ورد باستغراب مصحوب بشيء من الانفعال «لا تتفلسف علي». كان موقف بعض زملائي، وأذكر من بينهم مامون عيدروس، أنه إذا كان علينا الخروج من السفارة فيجب ألا يحدث ذلك إلا بالقوة. واقتنعنا بهذا الرأي.
بعد ذلك، أعطيت الأوامر للشرطة بتنفيذ قرار الإخلاء ليجد كل واحد منا نفسه مجروراً مثل كبش إلى سيارات الشرطة المتوقفة في زنقة تيداس بحي حسان بالرباط حيث كان يوجد مقر السفارة.
هنا أذكر واقعة طريفة وقعت لنا ونحن في سيارة الشرطة، التي نقلت إليها مع زملاء آخرين. ارتاب رجال الشرطة في هوية زميلنا محمد حمو. لعلهم استغربوا كثيرا أن يحمل طالب سوداني اسما شبيها بالأسماء المغربية، لكنهم تأكدوا أن حمو سوداني وليس مغربياً. ونحن داخل سيارة الأمن في اتجاه وجهة غير معروفة، كان لاسلكي السيارة مفتوحاً. كنا نسمع حواراً بالفرنسية حول اعتقالنا. هنا سيطلب حمو، لا غيره، من الشرطي زيادة صوت اللاسلكي لنسمع ما يقال، فما كان من الشرطي إلا أن نهره قائلاً: «هل نسيت أننا رجال أمن وأنك معتقل ونحن لسنا في نزهة». لكن لابد من الإشارة إلى أننا لم نتعرض لأي عنف من طرف رجال الأمن.
إلى أين تم اقتيادكم بعد إخراجكم من السفارة؟
- لم يكن ممكنا أن نعرف الوجهة التي تم اقتيادنا إليها، لأننا كنا داخل سيارة بدون نوافذ ولم نكن نعرف إلى أين نتجه. كل ما أتذكره هو أننا دخلنا بناية من باب خلفي، لنجد أنفسنا نتسلق درجا قادنا إلى شقة صغيرة. كانت عبارة عن غرفتين ضيقتين ومرحاض، والأكيد أنها لم تكن تتسع لحوالي 27 طالبا.
لماذا جيء بكم إلى هذه الشقة؟
-لا أعرف. لكن أتذكر أننا قضينا اليوم الأول في الشقة وسط إجراءات أمنية مشددة، حيث كان رجال من «السيمي» يحرسون مدخل الشقة. لكنهم استغربوا عندما لاحظوا أننا نضحك ونلعب الورق، بل كنا غير آبهين بأننا محتجزون في مكان لا نعرف أين يوجد. كان ذلك في نهار رمضان، وكنا جميعاً صائمين.
بعد فترة استُدعينا واحداً تلو الآخر قصد التحقيق معنا، لكن رجال الأمن فوجئوا مرة أخرى كيف أن زملائي رفضوا مسألة التحقيق، وكانوا يقولون إن فلاناً هو المتحدث باسمنا. إزاء ذلك نقلت في سيارة إلى بناية سأعرف في ما بعد أنها مفوضية الشرطة الثانية في الرباط، لتبدأ عملية التحقيق معي حول تهم خطيرة للغاية.
ما هي هذه التهم الخطيرة؟
- في مقدمة التهم، التي واجهني بها عميد الشرطة، أننا قمنا باحتلال السفارة السودانية بتحريض من المخابرات الليبية، وقال إن لديهم معلومات تثبت هذه التهمة.
وهل الأمر كذلك؟
-أبدا، هذا غير صحيح على الإطلاق، لكن الذي جعل الأجهزة الأمنية المغربية ترجح هذه الفرضية، هو تزامن حركتنا الاحتجاجية مع تحركات أخرى انطلقت من نفذها معارضون سودانيون في تحالف كان يضم أحزابا معارضة يسمى «الجبهة الوطنية». ذلك التحالف كان وراء عمل عسكري ضد نظام النميري، حيث أرسل مجموعات مسلحة للاستيلاء على العاصمة الخرطوم، وكادت تنجح في مهمتها. أطلقت وسائل الإعلام السودانية الرسمية على تلك العملية اسم «الغزو الليبي»، وكانت تقول إن مجموعة من المرتزقة نفذوا العملية. والواقع أنهم لم يكونوا «مرتزقة»، بل معارضين سودانيين، تدربوا وتسلحوا في ليبيا. ولأن العلاقات بين المغرب وليبيا في تلك الفترة كانت متوترة إلى أبعد الحدود، فقد راج أن احتلالنا السفارة كان جزءًا من هذه التحركات. كما أن السفير السوداني دخل على الخط في هذه القضية، وقال إن حركتنا الاحتجاجية كانت لها صلة بالمحاولة الانقلابية في السودان ولم تكن بدوافع اجتماعية، مشدداً على أن العملية مقصودة من طرفنا على خلفية ما وقع في الخرطوم، وأننا قمنا بهذا التحرك في شمال إفريقيا لدعم الانقلابيين باحتلال السفارة للتمويه عما يحدث في السودان.
أعترف بأني خشيت على نفسي وزملائي من تلك التهمة، ولم تكن تهمة هينة، خاصة أن عميد الشرطة حقق معي ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت أسئلته تركز على هذه القضية. لم أعد أعرف ما الذي ينبغي أن أقوله حتى أبرهن أن قضيتنا مرتبطة بالخبز والأكل، ولا علاقة لها بأي جهة سياسية، سواء في ليبيا أو غير ليبيا. المهم أن الأمور تعقدت أكثر ولم تكن وفق ما خططنا له، لكني بقيت متشبثا بأقوالي ورويت الوقائع كما هي دون زيادة أو نقصان. وكنت صادقاً في ما أقول. بعد الانتهاء من التحقيق معي عاد بي رجال الأمن من جديد إلى الشقة، حيث كنا محتجزين، وكم كانت مفاجأتنا كبيرة عندما أتوا لنا بوجبات الإفطار قبل آذان المغرب، إذ اعتبرنا هذا الأمر نصف انتصار في معركتنا ضد الجوع. لم تكن الوجبات رديئة مثل تلك التي تعودنا عليها في الحي الجامعي مولاي إسماعيل، بل كانت وجبات دسمة مغلفة في ورق مكتوب عليه «جوراند ووي»، وهو مطعم معروف في حي حسان بالرباط. كانت تلك الوجبات تتكون من «حريرة» و«شباكية» و«هلاليات» وبيض .
هل معنى هذا أن الأمور بالنسبة إليكم أخذت تنحو منحى الانفراج بعد هذه الوجبات الرمضانية؟
- ليس بهذا المعنى، لأننا حتى تلك اللحظة لم نكن متأكدين من أي شيء. لكن الأهم بالنسبة لنا هو أن مشكلتنا مع الجوع لم تعد قائمة بعد أن أصبحنا نتلقى وجبات يومية بدت لنا دسمة في تلك الأيام. أذكر في هذا السياق أن أحد زملائنا، اسمه سيف الدولة عبد المنعم، وهو الآن من المحامين المرموقين في السودان، كان سعيداً للغاية عندما رأى أننا نتوصل بوجبات الإفطار الرمضانية في وقتها المحدد، فاقترح علينا ألا نغادر هذه الشقة إلا مع بداية الموسم الجامعي الجديد. اعتقدنا بأن زميلنا يمزح، قبل أن يتبين لنا أنه جاد في اقتراحه. كان يقول: «حل مشكلنا يكمن في البقاء في هذه الشقة وليس خارجها» وكان أن اقتنعنا بهذه الفكرة، وقلنا طالما أننا نتناول وجبات طيبة من مطعم معروف، لماذا لا نبقى إذن في ضيافة الشرطة؟.
وأين توقف التحقيق معك؟
لم يتوقف التحقيق، بل ظل مستمراً. أتذكر أن عميد الشرطة سألني مرة عن أحوال زملائي المحتجزين في الشقة، فقلت له: «نحن مرتاحون وعازمون على البقاء في انتظار بداية السنة الجامعية». لم يتقبل هذا الجواب اعتقادا منه بأني أمزح، فرد علي بغضب «وش احنا كنتفلاو». ولأني لم أكن أيضا أمزح، فقد قلت له من جديد: «إني أقول لك الحقيقة، والحقيقة هي أننا نريد البقاء في الشقة إلى أن يبدأ الموسم الجامعي الجديد». لكنه احتد في حديثه وقال: «أنت تكذب في رمضان». لم أكن أختلق وأنا أدافع عن براءتنا من التهمة الثقيلة التي وجهت إلينا. أكثر من هذا، أذكر أن عميد الشرطة عندما تملكته سورة غضب بسبب أجوبتي، قال لي بانفعال: «أنا الذي أحقق معك وليس العكس»، وكنت قد سألته عما هو دليله بأن حركتنا لها علاقة مع ليبيا. لكن لابد من الإقرار هنا بألا أحد منا تعرض للضرب أو التعنيف، بل عوملنا معاملة عادية.
كم قضيتم من يوم في هذه الشقة؟
- قضينا في الشقة (المعتقل) قرابة أسبوعين. كنا نقضي ليالينا في ظروف سيئة، لأن الشقة ضيقة ولم تكن مساحتها كافية لاستيعاب 27 طالبا، لكن الأهم من هذا كله هو أن الوجبات الرمضانية (فطور وسحور) ظلت تصلنا بانتظام في ذلك «المعتقل»، والأكثر من هذا أنه لم يكن يهمنا أن نعرف هل نحن في حالة اعتقال قانوني أم احتجاز تعسفي.
لكن وضعيتنا ستعرف منعطفاً خطيراً بعد أن تأكد رسميا فشل الانقلاب العسكري ضد نظام جعفر النميري. والمؤشر على هذه الخطورة أننا سمعنا بأن جعفر النميري أرسل طائرة عسكرية إلى المغرب وأمر سفيره في الرباط بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية المغربية لترحيلنا إلى الخرطوم لنحاكم بتهمة التواطؤ مع الانقلابيين في السودان. كان ذلك سيعني حتماً السجن، بل ربما حتى الإعدام، لأن هناك آخرين أعدموا بالفعل في السودان بالتهمة نفسها.
بكل تأكيد، كان ممكنا أن نرحل بسهولة ونواجه مصيراً قاتماً. لماذا؟ لأنه في تلك الفترة، كان النزاع حول الصحراء على أشده، وكان يمكن للراحل الحسن الثاني، نظرا للعلاقة القوية التي تربطه بالنميري، أن يوافق على ترحيلنا، لكن حسب ما ما عرفته بعد ذلك أن الملك الحسن الثاني عندما وصله خبر وصول طائرة عسكرية سودانية من نوع «أنتنوف» إلى المغرب، بدا له أن تسليم طلبة سودانيين إلى النميري، قصد محاكمتهم في قضية انقلاب، مسألة في غاية الحساسية. ربما لهذا السبب تلكأت السلطات المغربية في الاستجابة لطلب ترحيلنا، وسمعنا في ما بعد أن الطائرة المشار إليها لم تستطع الهبوط في مطار سلا، وقيل إن تلك الطائرة ظلت جاثمة في مطار فاس فترة قبل أن تقلع في اتجاه الخرطوم. ولم نكن نملك معلومات مؤكدة في هذا الشأن.
أتذكر أن أحد مستشاري الملك الحسن الثاني عندما أجريت أول حوار مع الملك الحسن الثاني في يناير عام 1985 في القصر الملكي بمراكش، قال لي مشيراً إلى تلك الواقعة: «يا سي جبريل من المعتقل إلى القصر الملكي».
كيف عرفت أن الملك الحسن الثاني هو من حال دون ترحيلكم إلى السودان؟
-عرفت ذلك بعد سنوات من مسؤول في المحيط الملكي.
من هو؟
-المجالس بالأمانات. المهم أن المغرب لم يستجب لطلب جعفر النميري بعد أن اقتنع بأننا أبرياء من تهمة مساندة الانقلاب في السودان، بل لا أستبعد أن تكون السلطات السودانية هي التي طلبت إطلاق سراحنا بعد أن تأكدت بدورها من براءتنا.
هل تمت إحالتكم على محكمة بالرباط قبل الإفراج عنكم؟
- لا، أبدا، بل أبلغنا ذات يوم قبل مغيب الشمس بأننا سنغادر تلك الشقة إلى وجهة غير معروفة. وعند خروجنا من الشقة وجدنا سيارتين للشرطة، طلب منا الصعود إليهما. اخترقت السيارتان عدة شوارع، لكن لم يكن مسموحا لنا أن نرى الشوارع التي نمر منها، إلى أن توقفتا في مكان ما، ثم طلب منا أن نترجل منهما بعد أن قالوا لنا: «إن الأمر انتهى». كانت المفاجأة أن وجدنا أنفسنا داخل الحي الجامعي مولاي إسماعيل، وفهمنا أننا لم نعد معتقلين ولن يتم تسليمنا إلى نظام النميري.
بعد بضعة أيام وفي يوم العيد، استدعانا السفير السوداني لمقابلته في مقر السفارة، لكن حدث خلاف بيننا، إذ رأى البعض أن هذا اللقاء مع السفير قد ينتهي باعتقالنا من جديد والدخول في متاهات. في نهاية المطاف استقر رأينا على أن نذهب للقاء السفير مادمنا ندافع عن موقف نحن مقتنعون به، وهو ما يستلزم بعض الشجاعة في مثل هذه الظروف. عند وصولنا إلى السفارة، طلب منا السفير أن يستمع إلى كل واحد منا على انفراد. لكنه فوجئ بدوره بألا أحد من الطلبة استجاب لرغبته في الاستماع إلينا فرادى.
استدعاني السفير إلى مكتبه وسألني عن دواعي اقتحامنا لمبنى السفارة، وقبل أن أجيبه عن سؤاله طلبت أن أتحدث إليه ليس بصفته سفيراً، وإنما بصفته مواطنا سودانيا. واعتقد السفير بأني سأقول له شيئا ذا أهمية له صلة بوجود خلفية سياسية لحركتنا الاحتجاجية، لكنه فوجئ عندما قلت له بهذه الصيغة: «سعادة السفير أليس من العيب أننا في يوم عيد وما زلنا صائمين لأن ليس لدينا ما نأكله». وأضفت «ثم أليس من العيب أيضا أن يتصدق علينا المغاربة بوجبات إفطار خلال فترة اعتقالنا، في حين لم تكلف السفارة السودانية نفسها عناء السؤال عنا».أتذكر أن السفير تأثر كثيراً بما قلت له، وقال: «هذه المسألة بسيطة وسأحلها في أقرب وقت، لكنني أريد التأكد ألا أحد حرضكم للقيام بما قمتم به» . كنت أتحدث من موقع قوة إلى السفير، لعدة اعتبارات، أولها أن السلطات المغربية تفهمت ظروفنا ولم تعد فرضية ترحيلنا إلى السودان واردة، وثاني هذه الاعتبارات يتمثل في تماسكنا، وكان هدفنا أن ندفع في اتجاه مزيد من الضغط على السفارة، خاصة أننا في أيام عيد، ومن المهم جدا أن نخرج من اللقاء ببعض المكاسب. طلبت من السفير أن يتحدث إلينا جماعة وليس فرادى. وبالفعل، دخلنا جميعاً إلى مكتبه ودار نقاش سياسي طويل بيننا. وكان مما قاله لنا إن السفارة هي التي سددت وجبات إفطارنا وسحورنا.
ما هي هذه المكاسب التي خرجتم بها من لقائكم مع السفير؟
-عندما تأكد السفير أن احتلالنا السفارة كان بدافع مطلبي وليس بدافع سياسي، تقرر أن تصرف لنا منحة إضافية في عطلة الصيف، حيث يتقاضى كل طالب 800 درهم، وهو مبلغ مالي مهم في تلك الفترة، إضافة إلى منحتنا الأصلية المحددة في 400 درهم كل شهر. وكل حركتنا الاحتجاجية كان دافعها الحصول على منحة إضافية في الصيف.
كيف أصبحت علاقتكم فيما بعد بالسفارة السودانية؟
-أصبحت السفارة السودانية تتعامل معنا بحذر، لكن مع مرور الوقت عادت هذه العلاقة لتتأزم من جديد، خاصة بعد تعيين مسؤول أمني في نظام النميري ملحقا ثقافيا بالسفارة. وأذكر أن أول قرار اتخذه ذلك الملحق الثقافي، بعد بداية الموسم الدراسي، هو أنه طلب من وزارة تكوين الأطر إلغاء منحتي، بمبرر أني أخذت بطاقات أكل من مطعم الحي السويسي ووزعتها على الطلاب ولم نسدد قيمة تلك البطاقات، إضافة إلى أني حرضت الطلاب على احتلال السفارة.
وكيف أصبحت تدبر مصاريفك اليومية بعد إلغاء منحتك؟
- أصبحت ظروفي صعبة جداً، لكن أسجل لزملائي من الطلبة السودانيين باعتزاز موقفهم التضامني معي، حيث بادروا إلى جمع مبلغ 1300 درهم، وهو يساوي مبلغ المنحة التي كنا نتقاضاها كل ثلاثة أشهر.
لم أرض أن أكون عالة على طلبة معوزين مثلي، فذهبت إلى السفارة السودانية عسى أقنعهم بالتراجع عن قرارهم، لكن دون جدوى، ويبدو أن مشكلتي كانت أكبر من أن يحلها موظف في السفارة. قطْع منحتي جعلني أفكر في العمل، وهو ما سيقودني إلى عالم الصحافة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.