عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب. كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب)
ما الذي فعلتموه بعد أن التقيتم زميلكم الفلسطيني غسان وزميله أمام مبنى «الستيام»؟ -اقترح علينا غسان وصديقه أن نذهب إلى الحي الجامعي مولاي إسماعيل للبحث عن غرف نسكن فيها قبل التفكير في أي أمر آخر. ذهبنا إلى هناك فالتقينا فؤاد الحسيسن، مدير الحي الجامعي آنذاك. كان حظنا عاثراً إذ لم نجد أي غرفة فارغة في الحي، والسبب يعود إلى أننا لم نأت إلى الحي الجامعي خلال الفترة المخصصة للتسجيل، التي تبدأ مع سبتمبر من كل سنة دراسية، وكنا قد وصلنا إلى المغرب في 16 نوفمبر 1975. لابد من الإقرار بأن سي الحسيسن كان لطيفا معنا ورق لأحوالنا البئيسة، إذ خصص لنا غرفة كبيرة في مباني الإدارة لنسكن فيها بشكل جماعي في انتظار خلو بعض الغرف في الحي الجامعي. تحولت الإقامة المؤقتة في العنبر إياه إلى إقامة شبه دائمة، وأثار سكننا في ذلك العنبر استغراباً وسط الطلبة، لأنهم لم يفهموا كيف أننا، ونحن 13 طالبا، نقيم مكدسين في عنبر واحد، ونحن في غاية السعادة بهذا الوضع. لكن ازدادت الأمور صعوبة عندما التحقت بنا مجموعة أخرى من الطلاب السودانيين للإقامة في ذلك العنبر، بعد أن عادوا إلى الرباط عقب المشاركة في المسيرة الخضراء، وأصبح عددنا في حدود 21 طالبا يسكنون في عنبر واحد. كان منظرنا لافتا للانتباه، لأننا كنا «ندخل ونخرج» في الغالب جماعات، ونتحدث بعامية سودانية، ونتواصل مع زملائنا المغاربة بالفصحى، إذ لم نكن نعرف كلمة واحدة بالفرنسية، فقد كانت لغتنا الثانية هي الإنجليزية. في وقت لاحق سنبدأ تعلم الفرنسية، لكن ذلك كان بعد مرور أشهر. أمضينا وقتاً طويلاً في محاولة التكيف مع بيئة اجتماعية مغايرة. والمؤكد أن سي الحسيسن يتذكر جيداً هذه الوقائع الطريفة، وكلما التقيته تطرقنا إلى تلك الأيام التي لا تنسى. بعد ذلك راحت إدارة الحي توزعنا بالتدريج على الغرف الفارغة، التي كانت أيضاً عبارة عن عنابر يسكنها 16 طالباً، وكانت تلك العنابر مقسمة الى أربع غرف، في كل غرفة يسكن أربعة طلاب. كان من رأي سي الحسيسن أن نسكن في العنابر التي يقطن بها طلاب الطب والعلوم، حتى نتعلم العامية ونلتقط بعض العبارات بالفرنسية، لكن يبدو أن زملاءنا المغاربة كانت تستهويهم طريقتنا في الحديث بالفصحى، وكانوا يتعجبون كيف نستطيع الارتجال بلغة فصيحة عبارات طويلة. وما هي الخطوة الموالية بعد التسجيل في الحي الجامعي؟ -الخطوة التالية كانت هي التسجيل في إحدى الكليات التابعة لجامعة محمد الخامس. لكن لا بد أن أشير هنا إلى أن الأمور بعد ذلك أخذت تسير بيسر، لأننا التقينا طلبة سودانيين من فوج سبقنا إلى المجيء إلى المغرب عام 1974، وقدموا لنا المعلومات الضرورية، وساعدونا في حل عدد من المشاكل المرتبطة بالدراسة في الجامعة المغربية، وتعريفنا بنظام الدراسة وبالكليات التي يمكن أن نسجل فيها. فضل جميع الطلبة من فوجنا التسجيل في كلية الحقوق لدراسة العلوم السياسية، في حين سجل طالبان في شعبة القانون، لكنني، مع زميل لي يدعى محمد عثمان خليفة (هو الآن يعمل أستاذا جامعياً) اخترنا التسجيل في شعبة الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية. وبعد التسجيل في الكلية شرعنا في استخراج بطاقة الإقامة. أتذكر أنه واجهتنا مسألتان عندما ذهبنا إلى مفوضية الشرطة لاستخراج تلك البطاقة، الأولى عندما طُلب منا كتابة الاسم الشخصي والعائلي، ونحن في السودان ليست لدينا أسماء عائلية، حيث تتكون الأسماء في الأوراق الرسمية من الاسم الشخصي واسم الأب والجد ثم الجد الثاني، أي أسماء رباعية. والمسألة الثانية هي تاريخ «الازدياد»، إذ لم نكن نعرف ماذا تعني كلمة «ازدياد»، لأننا في السودان نستعمل مصطلح تاريخ الميلاد. والمسألة الأكثر تعقيداً، أن معظمنا لم تكن لديه تواريخ ميلاد حقيقية، بل تقديرية لأننا نتحدر من قرى لم تكن بها سجلات ميلاد حقيقية. شخصياً، وكما أسلفت، لا أعرف حتى اليوم الذي ولدت فيه، سواء تعلق الأمر باليوم أو بالشهر أو بالسنة، لذلك كنت في كل مر أستخرج جواز سفر جديدا، وأختار تاريخ الميلاد على مزاجي. ولماذا اخترتما الفسلفة؟ - اخترنا دراسة الفلسفة ليس لأننا خططنا للأمر من قبل، بل كان اختياراً عشوائيا ودون معرفة. كنت شخصياً أرغب في دراسة الأدب الإنجليزي إلى جانب دراسة اللغة الفرنسية كلغة تكميلية، وكانت أمنيتي في ذلك الوقت أن أعمل أستاذاً للأدب الإنجليزي في الجامعة، لكن شعبة اللغة الإنجليزية كانت تشترط دراسة لغة ثانية، أي لغة تكميلية، إما الألمانية أو الروسية، ويشترط أن يكون الطالب قد درسها في المرحلة الثانوية لمدة ثلاث سنوات. والمفارقة في هذه القضية أننا سندرس لأول مرة شيئا اسمه الفلسفة، لأن هذه المادة لم تكن مدرجة ضمن المواد التي درسناها في البكالوريا في السودان. هكذا سجلنا في شعبة الفلسفة واخترنا اللغة الإنجليزية كلغة تكميلية. كم قضيتم من الوقت في هذه الإقامة الجماعية بالحي الجامعي؟ -فاتني القول إن الإقامة الجماعية تسببت لنا في مرض جلدي كان الطلاب المغاربة يطلقون عليه «أمل حياتي» (الجربة أوالحكة بالدارجة المغربية). صحيح أن مدير الحي الجامعي فؤاد الحسيسن بذل مجهودات كبيرة من أجل إيجاد غرف لنا، وكان كلما فرغت غرفة ينقلنا إليها، لكنه لم يتمكن من ترحلينا دفعة واحدة من ذلك العنبر، الذي قضينا فيه أشهرا نعاني مرض «الحكة». وقد حدثت لنا بعض الوقائع الطريفة بسبب ذلك المرض، منها أننا كنا عندما ندخل العنبر نشرع جميعاً في «حك» أجسادنا بشكل جماعي، بل أحيانا كنا نلصق أجسادنا بجدران العنبر ونشرع في «حكها» بهدوء دون أن نثير انتباه الآخرين. كنا نخشى أن نصبح موضوعا للتندر والضحك من طرف فتيات الحي، حيث كان السكن مختلطاً، وكان ذلك في حد ذاته تجربة مثيرة، لأننا في السودان لم نعرف المدارس المختلطة. كنا نشعر بالخجل أن يقال إن في عنبرنا تنتشر «الحكة». أشرت في كتابك «أيام الرباط الأولى» إلى بعض الوقائع الطريفة التي وقعت لكم داخل الحي الجامعي بسبب عدم معرفتكم بالدارجة المغربية. ما هي بعض هذه الوقائع؟ -جهلنا بالدراجة المغربية وضعنا في مواقف طريفة، حين كنا نحاول أن نلتقط عباراتها. أذكر في هذا السياق الواقعة الشهيرة المتعلقة بضياع مفتاح الدولاب المخصص لكل طالب في الغرفة، حيث ذهبنا، نحن ثلاثة طلبة، ذات يوم إلى إدارة الحي الجامعي مولاي إسماعيل وطلبنا منهم تزودينا ب«سباط» جديد لكل واحد منا. تعجب موظفو الحي الجامعي من ذلك الطلب، وقالوا لنا إن إدارة الحي لا توزع «سبابط»، لكننا أقسمنا بأغلظ الأيمان بأننا شاهدنا الإدارة تمنح بعض الطلاب المغاربة «سباطا»ً جديداً لكل من فقد «سباطه» القديم. واحد من هؤلاء الموظفين، واسمه «بن عاشر»، اعتقد في البداية أننا نمزح معه عندما طلبنا «سباطا»ً جديداً، لكنه أصيب بالذهول عندما لاحظ أننا نتحدث بكل جدية، وقال لنا إن إدارة الحي لا توزع «سبابيط»، لكن يمكنكم شراؤها من المدينة. كان ردنا عليه «يا سيدي، نحن شاهدناك، أنت شخصيا، توزع «سبابط» على طلاب مغاربة، لماذا اذن علينا ان نذهب نحن لشراء «سباط» من المدينة». وكاد الموظف أن يطير صوابه عندما لاحظ أننا نقسم بأغلظ الأيمان «بأنه يوزع سبابط على الطلبة المغاربة». ويبدو أنه فهم المقصود عندما أخرج لهم أحدنا مفتاحاً، فانفجر ضاحكا عندما علم أننا نريد مفاتيح، وأن خلطاً قد حدث لنا بين كلمتي «ساروت» و«سباط». والكلمتان لا وجود لهما في العامية السودانية، وطبعاً في الفصحى. دعني أقول إن سي فؤاد الحسيسن مدير الحي الجامعي، الذي درس في مصر ويعرف جيدا السودانيين، أدرك بالفعل أن عامل اللغة قد يكون له تأثير سلبي حتى على مسارنا الدراسي، لهذا بادر إلى توزيعنا على الغرف التي يسكن بها طلبة كلية الطب والعلوم، والهدف من ذلك مساعدتنا على تعلم اللغة الفرنسية من هؤلاء الطلبة، الذين يستعملونها في تواصلهم اليومي. أذكر أننا كنا نتحدث إلى أولئك الطلاب بالفصحى، وكانوا كما أسلفت يضحكون كثيراً عندما يقول واحد منا لبعضهم «إني ذاهب في جولة إلى السويقة من أجل التبضع وشراء بعض الحاجيات الخاصة. لذلك قد أتأخر بعض الشيء فأرجو المعذرة سلفاً إذا اضطررت لإضاءة المصباح الكهربائي عند عودتي». كانوا في الغالب يطلبون منا إعادة ما قلنا، ونعيد بالفعل تلك الجمل الفصيحة ظناً منا أنهم لم يفهموا قصدنا، لكنهم في الواقع كانوا يريدون التفكه. كان من الضروري أن نتعلم الفرنسية لأن معظم الأساتذة المغاربة في ذلك الوقت كانوا يتواصلون مع الطلبة بهذه اللغة، كما أن بعض المواد في تلك الفترة لم تعرّب بعد. على سبيل المثال في شعبة الفلسفة، كانت لدينا مادة تدرس بالفرنسية هي مادة الإحصاء الاجتماعي. كنا نحضر تلك الدروس، لكننا لم نكن نفهم شيئاً، فيتكفل زملاؤنا بتلخيص الدرس لنا. ناقشنا هذا الأمر مع الكاتب العام لكلية الآداب والعلوم الإنسانية، الذي تحدث مع عميد كلية التربية من أجل أن تخصص لنا دروس لتعلم اللغة الفرنسية. وفعلا، سجلنا أنفسنا في كلية التربية لتعلم الفرنسية، لكن الوقت لم يسمح لي شخصيا بالانتظام في تلك الدروس، لكنني سجلت في ما بعد في المركز الثقافي الفرنسي في حي الليمون، في الرباط. وأعترف أن لغتي الفرنسية متواضعة جداً وما تعلمته في ذلك المركز كان هو رصيدي من الفرنسية، وعندما دخل أبنائي إلى مدارس البعثة الفرنسية صرت أعتمد عليهم في ترجمة وفهم الفرنسية. كان الطلبة المغاربة يطلقون عليكم لقب «جماعة سيبويه». ما هي قصة هذا اللقب؟ - هذا صحيح، كانوا من باب التفكه يطلقون علينا «جماعة سيبويه» لأننا كنا لا نتحدث إلا العربية الفصحى. و«جماعة سيبويه» لقب سارت بذكره الركبان وسط الطلبة، وأضحت كل تحركاتنا لافتة للانتباه، سواء داخل مقصف الحي أو وسط ساحته، ولم يعد يشار إلينا باعتبارنا طلبة سودانيين، وإنما باعتبارنا «أفارقة آخرين». وكثيرا ما سمعنا زملاءنا المغاربة يغالبون الضحك وهم يرددون فيما بينهم بصوت خافت «جماعة سيبويه قادمون» أو«جماعة سيبويه مروا قبل قليل من هنا». كنا لا نفهم لماذا تضحكهم طريقتنا في الحديث، قبل أن ندرك ذلك في ما بعد، عندما فهمنا بعض كلمات الدارجة المغربية. وهكذا مع مرور الوقت أصبحت عملية التواصل ممكنة مع الطلبة المغاربة. سيختارك الطلبة السودانيون ممثلا لهم. -اختارني زملائي في البداية مندوبا عنهم للحوار مع إدارة الحي الجامعي. وبهذه الصفة، كنت أتحرك لحل بعض المشاكل، التي كانت تواجهنا، سواء مع إدارة الحي الجامعي أو مع السفارة السودانية في المغرب. وتم تكريس هذه المهمة عندما أسسنا «اتحاد الطلاب السودانيين في المغرب»وانتخبت أول رئيس لذلك الاتحاد. كنت حينذاك طالبا في شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية؟. -نعم. كيف كانت علاقتكم مع تيارات الفكر اليساري التي كانت وقتها تكتسح الجامعة المغربية؟ - لم يكن الإطار النقابي المعروف باسم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وقتها موجودا داخل الجامعة، لأنه كان محظوراً. ما كان مسموحا به حينها هو تمثيليات تعرف باسم التعاضديات، وهي تمثيليات لم تكن تحظى بموافقة لطلاب لأسباب يمكن لزملائي المغاربة في تلك الفترة أن يشرحوها. كان الفكر اليساري هو السائد، ليس في جامعة محمد الخامس، وإنما في كل الجامعات المغربية والشارع المغربي والعربي أيضا. دعنى أقول إننا، كطلبة سودانيين، كنا نحظى وسط الفصائل الطلابية اليسارية باحترام وتقدير خاصين، لأن أصداء الحزب الشيوعي السوداني وشهرة زعمائه كانت قد سبقتا إلى المغرب، والحزب الشيوعي السوداني كان من الأحزاب القوية، ليس في السودان فحسب وإنما في كل إفريقيا، وكان يعتبر من أقوى الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث، إذ كانت له جماهيرية كبيرة ويضم شرائح واسعة من المتعلمين والمثقفين السودانيين. بيد أن هذا الحزب سيتعرض لنكسة كبيرة بعد أن نفذ انقلاباً ضد نظام جعفر النميري في يوليو عام 1971، وفشل ذلك الانقلاب بعد أربعة أيام، إذ عاد النميري إلى السلطة من جديد، وأعدم أبرز قادة الحزب، من بينهم زعيم الحزب عبدالخالق محجوب. هل لازلت تذكر بعض القيادات الطلابية اليسارية المعروفة حاليا في المشهد السياسي المغربي؟ - لم تعد الأسماء حاضرة في ذاكرتي، لكن الثابت أن الجامعة كانت تضم طلبة في معظمهم من اليساريين. كان هناك طلاب ينتمون لأحزاب أخرى، لكنهم كانوا أقلية. كنت أعرف طلبة اتحاديين وطلبة من التقدم والاشتراكية وطلبة يساريين من فصائل أخرى. وأذكر أن معظم الطلبة اليساريين كانوا يفضلون دراسة الفلسفة، لأن هذه الشعبة في نظرهم قريبة من معتقداتهم الفكرية، وربما كانوا يختارونها لأنها صعبة ومعقدة ويبدو الطالب الدارس لها غير عادي وسط الطلاب الآخرين. من هم الأساتذة الذين كانوا يحظون بشعبية وسط طلبة شعبة الفلسفة؟ - أذكر في مقدمة هؤلاء، المفكر الكبير الراحل محمد عابد الجابري. وأنا أعتز بأن الجابري كان واحدا من أساتذتي. لكن لابد من القول إننا درسنا على أيدي أساتذة عظام آخرين، ولازلت ألتقي بعضهم إلى الآن مثل المفكر المتصوف طه عبد الرحمن، وعلي أومليل، ومبارك ربيع، ومحمد إبراهيم بوعلو، ورشدي فكار، وعلي سامي النشار، وطه فرج، وعبد السلام بومجديل وعبد الرزاق الدواي والطاهر واعزيز، وبنسالم حميش، وعبد السلام بنعبد العالي، لكنني شخصياً كنت من المعجبين بالأستاذ نبيل الشهابي، وهو كندي من أصول فلسطينية. أنا فخور أيضا بأني كنت من الطلبة المتفوقين في هذه الشعبة، وكنت أحصل على نقط عالية. لكن ما هو أهم من هذا أني استطعت أن ألفت انتباه مثل هؤلاء الأساتذة الكبار إلى نبوغي وشغبي الفكري في هذه الشعبة وأنا شاب في مقتبل العمر، بل أكثر من هذا، شرعت، شيئا فشيئا، في التعرف على طقوس وعادات المجتمع المغربي وعلى مؤسساته الاجتماعية والثقافية والسياسية، لكن في الوقت نفسه كنت حريصا ألا أورط نفسي في أي قضية لها صلة بالشؤون الداخلية لبلد أنا مجرد ضيف فيه. كنا عموما،ً نحن الطلبة السودانيين، ننأى بأنفسنا عن أي أمر له علاقة بالوضع الداخلي للمغرب. وأتاحت لي رئاستي لاتحاد الطلاب السودانيين التعرف على كثير من القيادات الطلابية، مغاربة وفلسطينيين وعراقيين ومصريين. ستغادر فيما بعد الحي الجامعي قصد السكن في بعض الأحياء الشعبية في الرباط. - سكنت بعد الحي الجامعي مولاي إسماعيل فترة قصيرة في الحي الجامعي السويسي الثاني، وكان زميلي في الغرفة يدعى إدريس، نسيت اسمه العائلي. أتذكر أنه كان يدرس الأدب الفرنسي، لكن الأجواء في الحي الجامعي لم تعد تروقني، لذلك قررنا، نحن مجموعة تضم أربعة طلاب سودانيين، السكن في شقة في حي يعقوب المنصور في منطقة تسمى «جي 3» قبل أن نتنقل بعد ذلك إلى عدة أحياء أخرى، منها حي البريد وحي المحيط. ولا أنسى أننا كثيرا ما تعرضنا للطرد من هذه المساكن، والسبب هو أننا كنا نتأخر في أداء الكراء لأن المنحة الدراسية لم تكن تصل أحياناً في الوقت المحدد. أشير هنا إلى أننا عشنا ذكريات سيئة في حي المحيط، وسامح الله بعض السماسرة الذين أغرونا بالسكن في هذا الحي. قالوا إنه حي يطل مباشرة على شاطئ البحر، أي «سكن على الكورنيش» كما قيل لنا، قبل أن نكتشف أننا استأجرنا خربة حقيقية مع رطوبة عالية تسببت لبعضنا في مرض «الروماتيزم» ومصائب صحية أخرى. ولأن الأمر كذلك فقد اضطررنا إلى تغيير ذلك السكن وانتقلنا إلى حي آخر، بعد أن أصبحنا نعاني متاعب صحية. سبق أن قضيت قرابة أسبوعين من الاعتقال في ضيافة الأمن المغربي. ما هي قصة هذا الاعتقال؟ - واقعة الاعتقال تلك هي التي ستغير مجرى حياتي رأسا على عقب. وربما كانت هذه الواقعة هي التي قادت العبد لله إلى هذه المهنة، وأقصد مهنة الصحافة. في تفاصيل هذه الواقعة، أن معظم الطلبة السودانيين، خلال العطلة الصيفية، كانوا يسافرون إما إلى السودان أو إلى بريطانيا للعمل في الضيعات الفلاحية في الريف الإنجليزي، قبل أن يعودوا إلى الرباط عندما يبدأ الموسم الدراسي. شخصيا لم أكن أذهب إلى السودان أو إلى بريطانيا، وسبب ذلك، إضافة إلى عدم توفري على مصاريف السفر، هو أني كنت رئيسا لاتحاد الطلاب السودانيين، أي أن بقائي في المغرب مع اثنين أو ثلاثة من أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد كان يبدو لي واجباً، قصد تسوية بعض المشاكل التي كان يواجهها الطلاب. كانت العطلة الصيفية فترة عصيبة في حياة الطلبة الأجانب، خاصة الفقراء أمثالنا، لأنه خلال هذه العطلة تغلق الأحياء الجامعية أبواب مطاعمها ويتبخر ما تبقى في جيوبنا من آخر منحة دراسية. وهكذا وجدنا أنفسنا، ونحن قرابة 30 طالبا سودانيا، نتضور جوعا في شهر رمضان عام 1976. حاولنا أن نتغلب على الجوع من خلال التقشف في المعيشة وطهو بعض الوجبات البئيسة في غرف الحي الجامعي مولاي إسماعيل الذي سمح لنا مديره بالإقامة فيه تعاطفا معنا، لكن عندما نفد صبرنا قررنا أن نحتل السفارة السودانية بالرباط وألا نغادرها إلا إذا وعدنا السفير، وكان يدعى الرشيد نورالدين، وهو أحد رجالات الرئيس السوداني جعفر النميري حينها، بحل مشكلنا مع الجوع الذي أصبح مشكلة حقيقية. لكن لماذا احتلال السفارة السودانية؟ -لأننا اعتبرناها مسؤولة عن مأساتنا، إذ لا يعقل أن نموت جوعا دون أن تقدم لنا دعما أو مساعدة. دعني أتوقف هنا عند حادث وفاة السفير السوداني الرشيد نور الدين في المغرب. هل صحيح ما راج بأن وفاته يلفها بعض الغموض؟ - لست متأكدا من أية معلومة في هذا الصدد، لكن الذي تردد وقتها أن حادثة السير، التي راح ضحيتها السفير الرشيد نور الدين في منطقة «سيدي يحيى» بعد لقاء عاصف مع النميري، وكان قد جاء في زيارة رسمية للمغرب ونزل في فاس، كانت مدبرة. المؤكد ان الرشيد نورالدين كان ينتقد نظام النميري علناً ولم يكن راضياً عن سياسات ذلك النظام، خاصة أنه كان من العسكريين، وقيل إنه عين سفيراً في المغرب لإبعاده من السودان. لنعد إلى واقعة احتلال السفارة السودانية. من هو صاحب هذا القرار؟ - كنت أنا صاحب هذه الفكرة التي تحولت إلى قرار جماعي من طرف الطلاب السودانيين، الذين كانوا يعيشون آنذاك في الحي الجامعي مولاي إسماعيل في عطلة الصيف. كنا نعاني معاناة شديدة بعد أن تقطعت بنا السبل، وكنا نسمى الحي الجامعي آنذاك «تل الزعتر»، وهو حي في بيروت كان يقطنه فلسطينيون وحاصرتهم قوات الكتائب فترة طويلة. نزعتي النقابية لم تكن مرتبطة بمجيئي إلى المغرب، بل كان الأمر كذلك منذ كنت نجارا في السودان. أكثر من هذا، أستطيع القول إن نزعتي النقابية لم تفارقني طيلة مشواري المهني، ولا أدل على ذلك أني حملتها معي أيضا إلى أمريكا عندما تم انتخابي هناك رئيسا لاتحاد الصحافيين السودانيين بالخارج.