الحلقة السادسة : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب. كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected]
هل صحيح أن عبد الكريم غلاب كان «شحيحا» وكان يعبر عن استيائه علانية من أي محرر جاءه من أجل الزيادة في أجره؟ -المؤكد أن عبد الكريم غلاب كان شخصاً صارماً في تعامله. كان هو مدير الصحيفة، وبالتالي المتحكم في القرار الإداري والمالي. شخصياً، لم يكن حظي معه سيئاً، ولم يكن مقتراً في التعامل معي، إذ لاحظت أنه لا يتضايق عندما أدخل مكتبه لطلب سلفة خصماً من راتبي، بل كان يحيلني على محاسب الصحيفة، لكنه كان يشترط ألا تتجاوز هذه السلفة سقفاً معيناً. كان تعامل غلاب معي يتسم بالمرونة عندما أطلب سلفة أو شهادة إدارية. عندما كنت محررا في العلم، كان عباس الفاسي وزيرا للسكنى، كيف كان حضوره وسط قياديي الحزب؟ -طوال فترة عملي في «العلم»، لم أسمع إطلاقا اسم عباس الفاسي يثار في أي قضية، سواء داخل الحزب أو الصحيفة، ولم أسمع أن الرجل كان مكلفا بقضية ما. كل ما كنت أعرفه عنه أنه محام كان يعمل في مكتب سي محمد بوستة في شارع علال بن عبد الله في الرباط، ثم أصبح وزيراً للسكنى عندما شارك حزب الاستقلال في حكومة أحمد عصمان. سمعت أنه عندما كان طالباً كان ناشطاً في «الاتحاد العام للطلبة» الموالي لحزب الاستقلال. كنت أعرفه من بعيد، لكن لم تربطني معه علاقة شخصية، ثم إنه بعد الوزارة سيصبح سفيراً في تونس، وبعد ذلك في باريس، أي أنه كان خارج المغرب، قبل أن يعود ويصبح أمينا عاماً لحزب الاستقلال، في حين كان المتوقع أن يكون محمد الدويري هو الأمين العام، بعد أن قرر محمد بوستة الانسحاب من الحياة السياسية، وهذه ملابسات لم أعرف تفاصيلها بدقة، لأنني كنت غادرت «العلم» بسنوات. ولماذا، في نظرك، أصبح عباس الفاسي أمينا عاما للحزب، رغم أن الرجل، كما تقول، كان مجرد شخص مغمور؟ -والله لا أعلم. التحقت بصحيفة «العلم» في أواخر 78، أي بعد مرور سنة على الانتخابات التشريعية التي جرت عام 1977، وتعرفت في تلك الفترة على جميع القياديين المؤثرين في الأجهزة القيادية لحزب الاستقلال، وهي الأسماء التي ذكرتها من قبل، لكن الثابت أن عباس الفاسي لم يكن له حضور لافت. وأنا لازلت أتذكر معظم الأسماء الاستقلالية التي كانت تتردد على مقر الصحيفة. هل تشعر بأنك مدين لجريدة «العلم»؟ -بالتأكيد، هي مدرستي التي تعلمت فيها الصحافة. يكفي أن أقول في هذا السياق إني لم أفهم دروب ومنعرجات السياسة المغربية إلا عبر «العلم». وكيف كانت تبدو لك، من داخل «العلم»، علاقة حزب الاستقلال بالاتحاد الاشتراكي؟ -كنت أشعر أن جوهر العلاقة بين الحزبين «خصومة» أقرب ما تكون أحياناً إلى «العداء»، وهذه طبيعة العلاقات التي تحدث داخل الأحزاب، التي يحدث فيها انقسام عمودي، كما وقع بين الاستقلاليين والاتحاديين. هذا «العداء» كان يتم تصريفه بطريقة هادئة في كثير من الأحيان، لكن في بعض الفترات يتحول إلى تراشق سياسي وإعلامي. حين يكون هادئاً لا يمكن أن تلمسه إلا إذا كنت قريباً من المطبخ الذي يصنع فيه القرار، سواء داخل هذا الحزب أو ذاك. سأروي في هذا السياق واقعة تترجم هذا العداء المستتر بين الحزبين. كان الكاتب أحمد المديني هو بطل هذه الواقعة. كان المديني يراسل مجلة «المستقبل» اللبنانية التي تصدر من باريس باسم مستعار هو «عادل السملالي». كان المديني آنذاك مسؤولاً عن الصفحة الثقافية في صحيفة «المحرر» لسان حال الاتحاد الاشتراكي، وحدث أن نشرت مجلة «المستقبل» تقريراً إخباريا فيه انتقادات حادة لحزب الاستقلال المشارك في الحكومة آنذاك. وأثار التقرير استياء شديدا داخل «العلم»، وأكيد داخل الحزب، وكدت أفصل من عملي لأن الاستقلاليين اعتقدوا أني هو «عادل السملالي»، ولم يكن ذلك صحيحاً. أتذكر أن عبد الجبار السحيمي كان مستاءً ودعاني إلى مقهى تسمى «مبروكة» تقع في شارع علال بنعبد الله قرب «العلم» وتداول معي الأمر، كما أبلغني المساري أنه مستاء جداً، وفي اعتقاده أيضاً أني كتبت ذلك التقرير الإخباري. وأظن أن السبب الذي جعل مسؤولي «العلم» يرتابون في الأمر ويعتقدون أني من كتبت التقرير الإخباري هو أنه سبق لي أن كتبت في أسبوعية «المستقبل» اللبنانية مقالا بتوقيعي نشر في ركن «رسالة محرر» المخصص لأفضل المقالات التي تتوصل بها المجلة، وكان مقالاً دافعت فيه عن الثورة الإريترية. أبلغني السحيمي بصريح العبارة «ما يجعلنا نعتقد أنك كاتب هذا التقرير أن لك علاقة مع مجلة «المستقبل» ونشرت لك مقالا في وقت سابق، ثم إنه لا يوجد صحافي مغربي باسم عادل السملالي». ولم يقف السحيمي عند هذا الحد، بل أضاف ملمحا إلى ترجيح فرضية طردي من الصحيفة عندما قال لي: «لا أضمن لك أن تستمر في العمل معنا بعد هذا المقال الذي نشر باسم مستعار في المستقبل». إذن وجدت نفسك في موقف حرج في هذه القضية. -بالتأكيد. في الحقيقة شعرت بالغبن، ودافعت عن براءتي من واقعة نسبت إلي ظلماً، وأذكر أني قلت للسحيمي: «لست صاحب هذا المقال ولا أعرف من كتبه ولا أعرف مسؤولي تلك المجلة اللبنانية، وهم أيضا لا يعرفوني، وكل الذي حدث أني أرسلت لهم مقالاً ونشروه»، لكن بدا لي أن السحيمي لم يقتنع بالحجج التي أوردتها. حينذاك ذهبت إلى العربي المساري، الذي كانت علاقتي به ودية وأحظى بثقته، ولازلت إلى حد الآن أعتبره أستاذي الذي تعلمت منه مهنة الصحافة، وشرحت له أنني بريء مما نسب إلي في هذه القضية وأقسمت ألا علاقة لي بذلك المقال، وكنت أتحدث إلى المساري وأنا أغالب دموعي لأني أحسست بأني ظلمت، وأني سأدفع الثمن في قضية لا علاقة لي بها، لا من قريب ولا من بعيد. ولازلت أذكر أني قلت للمساري «يا سي العربي أنا بريء، وإذا أردتم أن تطردوني، فأنا جاهز لتقبل القرار». وكيف عرفت أن الاتحادي أحمد المديني هو الذي حرر هذا المقال ضد حزب الاستقلال في مجلة «المستقبل»؟ -عرفت ذلك فيما بعد حينما غادرت «العلم». إذ بعد سنوات سألتقي مدير تحرير مجلة «المستقبل» الصحافي أنطوان عبد المسيح، الذي غادر «المستقبل» ليعمل في أسبوعية «الوسط» في وقت لاحق، وأنا أيضا عملت في تلك الأسبوعية لفترة معينة. التقيت أنطوان عبد المسيح في أصيلة، ورويت له القصة الكاملة لذلك التقرير، فأبلغني أن أحمد المديني كان يراسلهم بذلك الاسم المستعار لاعتبارات تتعلق بظروفه في تلك الفترة. هل كانت هيئة التحرير في جريدة «العلم»، في تلك الفترة، تضم أسماء صحفيات؟ -أبدا، كانت هيئة التحرير تخلو من العنصر النسوي، ولا أتذكر في هذا السياق أي اسم نسائي اشتغل معنا باستثناء سيدتين كانتا تعملان في الإدارة، وكانت هناك شابة مصححة، لم أعد أتذكر اسمها، عملت في الصحيفة فترة قصيرة. أعتقد أن خريجات معهد الصحافة، على قلتهن في تلك الفترة، كن يتجهن نحو الإذاعة والتلفزة، وكان العمل في الصحافة المكتوبة شاقاً والأجور متدنية. بمعنى أن هيئة التحرير كانت ذكورية مائة في المائة؟ - في تلك الفترة كانت مهنة الصحافة، خاصة الحزبية منها، مهنة للرجال فقط. ولهذا كان نادراً جداً أن تقرأ اسما نسائيا، سواء في «العلم» أو في أي صحيفة حزبية أخرى. كانت هيئة التحرير في «العلم» تتكون من عبد الكريم غلاب مدير الصحيفة، وكان هو الذي يكتب افتتاحياتها، كما كان يكتب عموداً في الصفحة الأولى بعنوان «مع الشعب»، وهو الذي كان يقرر في كثير من الأحيان المواد، التي تنشر في الصفحة الأولى. كان العربي المساري رئيسا للتحرير، وكان يكتب أيضاً الافتتاحية وركنا يومياً في الصفحة الأولى بعنوان «هوامش»، إضافة إلى أن بصماته كانت توجد في جميع الصفحات. في قسم الأخبار كان هناك عمر نجيب، وهو يتقن الإنجليزية والفرنسية، ووالده هو نجيب البهبيتي، الذي كان أستاذا في التاريخ. كان عمر نجيب يكتب صفحة أسبوعية بعنوان «حديث الثلاثاء» يخصصها للقضايا الدولية، والطريف أن عمر نجيب بدأ دراسة الهندسة أصلاً، لكنه تركها وامتهن الصحافة. وفي قسم الأخبار كان هناك محمد المهدي بناني وشاب آخر اسمه أبوزيد، توفي إلى رحمة الله. كان محمد بنيس يشرف على الصفحة الرياضية قبل أن يرحل إلى «الميثاق الوطني» في تجربة قصيرة ثم عاد إلى «العلم» من جديد، ولم يكن معه أي محرر آخر، بل مجموعة متعاونين. ومن المفارقات أن بنيس الذي هاجر إلى قطر بعد ذلك سيعمل معي في تجربة «المنعطف» القصيرة. كان هناك أيضا مصطفى السباعي، الذي ظل يعمل في تغطية الأخبار الوطنية والقضايا الحزبية، ثم التحق في وقت لاحق بإذاعة «ميدي 1». أما «صفحة المراسلات»، التي كانت تخصص للأخبار الواردة من الأقاليم، فقد كان المسؤول عنها هو الصحافي المحجوب الصفريوي. كان الصفريوي، رحمه الله، من المحررين الذين كانوا يتمتعون بكفاءة عالية جداً. كان شخصاً فريداً، يعمل في صمت، وكنا نسميه «بوذا»، ونستعين به كثيراً في الأمور اللغوية، حيث كان مرجعاً لغوياً، وكان يشرف على تصحيح كتب عبد الكريم غلاب بعد رقنها. لم يكن يغادر الصحيفة في مهمة صحافية على الإطلاق ولم يحدث أن سافر إلى خارج المغرب إلا مرة واحدة إلى ليبيا. كان رحمه الله حين يغضب، وهو أمر نادر جداً، يقول: «لو عملت في الجيش، لأصبحت اليوم جنرالاً». أعتقد أنه بدأ يعمل في «العلم» منذ منتصف الخمسينات، والمدهش أنه بعد سنوات من العمل في التحرير، طلب أن ينقل إلى قسم التصحيح. كان شخصا زاهداً، وهو من الذين تعرضوا للغبن. كان هناك ميمون الأزماني، رحمه الله، وكان شخصية لطيفة جداً، وظل سنوات يشرف على صفحة المراسلات والقضايا الحزبية، وكان على اتصال دائم مع مفتشي الحزب في جميع الأقاليم، وكثيراً ما كان يدخل معهم في عراك يومي، لأن مفتشي الحزب كانوا يحرصون على إبراز أي خبر له علاقة بمناطقهم، حتى لو تعلق الأمر بتعزية. وأتذكر أنه التحق بهم في مكتب المراسلات، كما كنا نسميه، شاب صغير السن اسمه بوجمعة أفزران. كان لطيفاً دائم الابتسامة، وهو الآن واحد من الصحافيين الذين يعملون في «ميدي 1». كانت الصفحة الأخيرة والملحق الثقافي تحت إشراف عبد الجبار السحيمي. كما أنه كان يكتب أعمدة جريئة، بعنوان «خواطر» و«أعترف أنني لا أفهم» و«بخط اليد». كان لا يتردد في كيل الانتقادات إلى وزارة الداخلية المهيمنة آنذاك، مما أكسب ذلك العمود رواجاً كبيراً. عملت مع السحيمي فترة، ومنه تعلمت الكثير. كما عمل في الصفحة الأخيرة عبد الحق الزروالي، لكنه سيغادر الصحيفة، كما أسلفت، حيث سيعمل في ديوان سعيد بلبشير، وزيرالثقافة في حكومة أحمد عصمان. كما كان يتعاون مع الصفحة الثقافية نجيب خداري، الذي سيلتحق بالصحيفة بعد ذلك محررا. وعمل فترة قصيرة في الصفحة الأخيرة طالع سعود الأطلسي، المكلف حاليا بمهمة في الهيئة العليا للسمعي البصري المعروفة اختصارا ب«الهاكا». ولم يكن للأطلسي أي ارتباط بحزب الاستقلال، بل كان معروفا عنه أنه ينتمي إلى منظمة «23 مارس»، التي ستحمل فيما بعد اسم «منظمة العمل الديمقراطي الشعبي»، وهو الحزب الذي ترأسه محمد بنسعيد آيت إيدر قبل أن يحل وينصهر في «اليسار الاشتراكي الموحد». أفهم من كلامك أن مسؤولي «العلم» كانوا منفتحين على جميع الكفاءات من مختلف التيارات السياسية، ولم يكونوا ينظرون إلى الانتماء السياسي للعاملين معهم بحساسية ما؟ - هذا صحيح، وأشير هنا إلى أن الانتماء السياسي للأطلسي كان معروفاً، لكن لم يكن أي مسؤول في الصحيفة يكترث لهذا الأمر. وهذه واحدة من ميزات «العلم» في تلك الفترة من الزمان. دعني أقول إن العاملين في«العلم»، الذين لهم ارتباط بحزب الاستقلال، كان عددهم قليلاً ،كانوا على رؤوس الأصابع، وكان القاسم المشترك بين محرري «العلم» هو أن الصحيفة جعلت منهم نجوماً. لا أخفي أنني تأثرت بهذه المناخات، وبقيت أعتقد أن الرهان المطلوب من أي مسؤول في أي صحيفة أن يصنع من محرريه نجوماً، وفي ظني أن الصحيفة، التي لا تصنع نجومها تحكم على نفسها بالفشل مهنياً. شخصياً حاولت تطبيق هذه الفكرة في تجاربي اللاحقة. كان هناك أيضا قاسم مشترك آخر يجمع المحررين في صحيفة «العلم»، وهو أنهم كانوا «نجوماً مفلسين» يعانون ضائقة مالية مستمرة، لأنهم كانوا يتقاضون أجورا متواضعة، بل إن بعض الكتاب كانت أسماؤهم معروفة ولا يتقاضون أي سنتيم من الصحيفة، أما المتعاونون، أي الذين يعملون بالقطعة، فقد كانوا يتقاضون تعويضات بئيسة، إذ كانت كتاباتهم تحتسب بالسنتمتر. وكان هناك محاسب يدعى الركراكي رحمه الله يقضي يومه كاملاً وهو يقيس مساهمات المتعاونين بمتر من ذلك النوع الذي يستعمله الخياطون. كانت طريقة سوريالية. لكن على الرغم من ذلك كنا محظوظين، لأن الناس كانوا يعرفوننا من خلال الصحيفة، ولم يكونوا يعرفون أن أحوال «هؤلاء النجوم» تدعو إلى الشفقة. طبعاً بعض المحررين كانت لهم التزامات مالية تجاه عائلاتهم، ومنهم من تزوج وأصبح له أطفال، لكنهم كانوا يعيشون على الكفاف على الرغم من أسمائهم، التي كانت معروفة وسط عشرات الآلاف من القراء. هل تذكر بعض الأسماء التي مرت من «العلم» أثناء اشتغالك فيها؟ -عندما التحقت ب«العلم» علمت أن الكاتب إدريس الخوري كان يشتغل في قسم التصحيح قبل أن يغادر الصحيفة ويعمل في «المحرر». كانت الوظيفة بالنسبة إليه مجرد مصدر من مصادر الرزق، كما كان يكتب بين الفينة والأخرى في الملحق الثقافي. أذكر أيضا أني تعرفت على عبد القادر الإدريسي، الذي كان بدوره يعمل مصححاً، ثم غادر الصحيفة، لكنه عاد بعد ذلك ليشرف على الصفحة الإسلامية. كان إنسانا دؤوباً في عمله، صبوراً في أداء مهمته، ومحرراً كفئاً. لابد أن أشير إلى أن قسم التصحيح في «العلم» كان هو المدرسة الأولى، التي يحال عليها أي وافد جديد على مهنة الصحافة، وهذا الأمر في اعتقادي هو عين الصواب، حتى يكتسب المحرر الحد الأدنى من المعرفة والدراية بقواعد اللغة والأساليب الصحافية السليمة، لكن الظروف التي رافقت التحاقي بصحيفة «العلم» لم تسمح لي شخصيا بالمرور من قسم التصحيح لأنني عملت مباشرة محرراً في الصفحة الأخيرة. وكيف كانت «العلم» تحصل على أخبار الأقاليم والمدن؟ -كانت «العلم» تتوفر على أكبر شبكة من المراسلين في تاريخ الصحافة المغربية. وليس هناك مدينة أو منطقة نائية في كل جهات المملكة لا يوجد فيها مراسل يمثل الصحيفة. لهذا كان سهلا جداً أن نحصل على أي خبر من أي منطقة. كان محررو صفحة المراسلات مكلفين بتلقي الأخبار من هؤلاء المراسلين الموزعين عبر كل التراب المغربي. كان عملاً مضنياً، لأن المراسلين كانوا يطلبون المحررين بالهاتف على أن تحتسب المكالمة على الصحيفة. كان المحررون ينقلون تلك المراسلات عبر الهاتف، ثم يراجعون صياغتها، لذلك كثيراً ما تسمع المحرر يكرر على الهاتف «اختصر.. اختصر». وفي غالب الأحيان كان المراسلون يرسلون مراسلاتهم عن طريق حافلات شركة «ستيام». عندما أصبحت أشرف على الصفحة الأولى كل يوم أحد، كنت أتلقى أخبارا من المراسلين، وبصراحة لم أكن أرفض كتابة أي مراسلة، مما جعل هؤلاء المراسلين ينتظرون في كثير من الأحيان حتى يوم الأحد لإرسال أخبارهم. كان عملاً مرهقاً، لكني كنت أجد متعة في ذلك العمل. ولعل هذه المسألة هي التي عززت علاقتي بعدد من مراسلي «العلم»، على الرغم من أنه لم تتح لي فرصة الاشتغال في الصفحات الخاصة بمراسلات الأقاليم. إذ عملت لأول مرة، كما قلت من قبل، في الصفحة الأخيرة، ثم انتقلت إلى قسم الأخبار، وفيما بعد سكرتيرا للتحرير أشرف على الصفحات وأراجع مضامينها، وقد أضيف أو أحذف أشياء. كنت أنسق مع المطبعة في الجوانب التي تهم عملية تركيب الصفحات. وتولى هذه المهمة أيضا الصحافي محمد أديب السلاوي. كما عملت مع الأستاذ المساري في ملحق شهري ممتاز كان يصدر باسم «العلم السياسي». أشير إلى أن العمل في الصحيفة في تلك الفترة كان متعبا للغاية نظرا لانعدام الوسائل التكنولوجية، التي تساعدك على إنجاز مهمتك في ظروف مريحة. كانت المواد تتم طباعتها في ماكينات طباعية عتيقة تخرج الأسطر في شرائح الرصاص «الخفيف»، وهو أمر متعب جدا لأن العملية تستغرق وقتا طويلا في لصق الأسطر وتثبيتها في خاناتها المناسبة. كان المحررون يكتبون بالقلم والورقة، وتطبع موادهم في تلك الماكينات العتيقة، ثم بعد ذلك يتولى العمال تركيب أسطر الرصاص سطراً سطراً، أو ما يعرف بعملية التنضيد. هل كان لك «خصوم» في جريدة «العلم»؟ -أبدا. أعتقد أن أي شخص يكون له خصوم عندما تظهر عليه ملامح النعمة أو يتبوأ موقعاً، أما صحافيو تلك الحقبة الزمنية فلم تكن تظهر عليهم إلا ملامح البؤس، بل على العكس من ذلك تماماً، كنت أحظى بتعاطف الجميع. شخصياً، لدي تفسير لهذا التعاطف، ذلك أني لست مغربياً، فأنا بالنسبة للعاملين في الصحيفة مواطن غريب جاء من السودان ثم ضل طريقه نحو الصحافة. كان الجميع يعرف أني لا أذهب إلى بلدي لزيارة أسرتي، بسبب قلة ذات اليد، ولم تكن لدي موارد مالية لتغطية مصاريف السفر. كان الجميع ينظر إلى وجود سوداني في الصحافة المغربية باستغراب كبير، لكن لم يحدث أن أشعرني أحد بأني أجنبي. أتذكر أني كنت أحظى بتعاطف خاص من طرف أقدم «شاوش» في الصحيفة، كان اسمه عبد النبي، رحمه الله. ولأنه كان «كبير شواش» الصحيفة، فقد كان الوحيد الذي يدخل كثيراً على عبد الكريم غلاب في مكتبه، وكان يعرف متى يكون غلاب في مزاج رائق ومتى يكون مزاجه سيئاً. ولا أحد منا كان يقوى على الدخول على غلاب في مكتبه، لأننا كنا نخشى أن يكون في مزاج سيء، ولهذا كنا نستعين ب«الشاوش» عبد النبي لمعرفة الحالة التي يكون عليها مديرنا غلاب قبل الدخول عليه لطلب سلفة مالية. كان عبد النبي كلما وجد غلاب في مزاج جيد ينادي علي خلسة ويقول لي: «ادخل، مزاجه الآن جيد». رحم الله سي عبد النبي، كنت دائماً أمازحه قائلاً: «أنت أعظم شاوش في إفريقيا»، وهو فعلا كذلك، وحزنت كثيراً عندما سمعت بعد سنوات أنه توفي وغادر دنيا الناس هذه في هدوء.