الكنبوري يستعرض توازنات مدونة الأسرة بين الشريعة ومتطلبات العصر    "وزارة التعليم" تعلن تسوية بعض الوضعيات الإدارية والمالية للموظفين    مسؤول فرنسي رفيع المستوى .. الجزائر صنيعة فرنسا ووجودها منذ قرون غير صحيح    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    "حماس": منفذ الطعن "مغربي بطل"    الكاف : المغرب أثبت دائما قدرته على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة يقلب الطاولة على بنفيكا في مباراة مثيرة (5-4)    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    "سبيس إكس" تطلق 21 قمرا صناعيا إلى الفضاء    الحاجب : تدابير استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد (فيديو)    ارتفاع عدد ليالي المبيت السياحي بالصويرة    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    "البام" يدافع عن حصيلة المنصوري ويدعو إلى تفعيل ميثاق الأغلبية    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    تركيا.. ارتفاع حصيلة ضحايا حريق منتجع للتزلج إلى 76 قتيلا وعشرات الجرحى    التحضير لعملية "الحريك" يُطيح ب3 أشخاص في يد أمن الحسيمة    لمواجهة آثار موجات البرد.. عامل الحسيمة يترأس اجتماعًا للجنة اليقظة    الحكومة: سعر السردين لا ينبغي أن يتجاوز 17 درهما ويجب التصدي لفوضى المضاربات    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الانخفاض    تركيا.. يوم حداد وطني إثر حريق منتجع التزلج الذي أودى بحياة 66 شخصا    وزارة التربية الوطنية تعلن صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور الأساتذة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    مطالب في مجلس المستشارين بتأجيل مناقشة مشروع قانون الإضراب    اتخاذ إجراءات صارمة لكشف ملابسات جنحة قطع غير قانوني ل 36 شجرة صنوبر حلبي بإقليم الجديدة    توقيع اتفاق لإنجاز ميناء أكادير الجاف    مجلس المنافسة يكشف ربح الشركات في المغرب عن كل لتر تبيعه من الوقود    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    هل بسبب تصريحاته حول الجيش الملكي؟.. تأجيل حفل فرقة "هوبا هوبا سبيريت" لأجل غير مسمى    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    المجلس الحكومي يتدارس مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة    ندوة بالدارالبيضاء حول الإرث العلمي والفكر الإصلاحي للعلامة المؤرخ محمد ابن الموقت المراكشي    المبادلات التجارية بين المغرب والبرازيل تبلغ 2,77 مليار دولار في 2024    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    مطالب برلمانية بتقييم حصيلة برنامج التخفيف من آثار الجفاف الذي كلف 20 مليار درهم    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    انفجار في ميناء برشلونة يسفر عن وفاة وإصابة خطيرة    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    إيلون ماسك يثير جدلا واسعا بتأدية "تحية هتلر" في حفل تنصيب ترامب    ترامب يوقع أمرا ينص على انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية    ترامب: "لست واثقا" من إمكانية صمود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    المغرب يدعو إلى احترام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    دوري أبطال أوروبا.. مواجهات نارية تقترب من الحسم    ياسين بونو يتوج بجائزة أفضل تصد في الدوري السعودي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    القارة العجوز ديموغرافيا ، هل تنتقل إلى العجز الحضاري مع رئاسة ترامب لأمريكا … ؟    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتبت موضوعاً عن قضية «تيمورالشرقية» وسمعت أنه أثار استياء الحسن الثاني
بداية سيئة للغاية مع الطيب الصديقي وفوجئت عندما أورد اسمي في إحدى مسرحياته
نشر في المساء يوم 16 - 08 - 2010


الحلقة السابعة :
عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب.
كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه.
من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدار البيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات.
اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدار البيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل.
في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل.
طلحة جبريل
(صحافي سوداني مقيم في المغرب)
[email protected]


وماذا عن عبد الله البقالي، الذي يشغل حاليا منصب رئيس تحرير «العلم». هل كان يتردد على الجريدة أثناء اشتغالك فيها؟
-حتى غادرت «العلم» لم يكن عبد الله البقالي جزءًا من هيئة التحرير. المؤكد أنه كان يافعاً في تلك الفترة، وعلمت فيما بعد أنه كان طالبا استقلاليا ذهب إلى تونس لدراسة الصحافة. أتذكر أنه في إطار زيادة عدد المحررين، انضم إلى التحرير محمد الأحسايني وأحمد الطاهري، رحمه الله، وعمر الدركولي، ثم لاحقاً حمادي الغاري والبشير الزياني، لكن البقالي لم يأت إلى الصحيفة إلا بعد أن غادرتها.
ما هي حكاية مفتشي الحزب مع الجريدة؟
-الشيء اللافت آنذاك هو الزيارات المتكررة لمفتشي الحزب للصحيفة. كانوا بالفعل بمثابة جهاز رقابة حقيقي على الخط التحريري، الذي ينبغي أن تسير عليه «العلم»، إذ كانوا يترددون باستمرار على مقرها لإبداء ملاحظاتهم للمحررين وتحديد بعض المواضيع التي ينبغي أن تولى لها أهمية خاصة، وهي مواضيع غالبا ما تكون في خدمة الأجندة السياسية للحزب. كان بعضهم يقطع مسافات طويلة ويتكبد عناء رحلة شاقة من مدن بعيدة ليزور مقر الصحيفة في الرباط من أجل نشر نشاط نظمه فرع الحزب في تلك المدينة أو من أجل نشر تعزية في وفاة شخص قريب أو متعاطف مع الحزب.
كان ميمون الأزماني محرر صفحة المراسلات يخوض معارك كثيرة مع مفتشي الحزب، إذ كان كل واحد منهم يريد أن تكون أخبار منطقته أو مدينته حاضرة وبارزة في الصحيفة. لذلك كان الأزماني دائما في حالة عراك مع أحد من هؤلاء المفتشين الاستقلاليين. ولم يكن يتحرج في العراك معهم لأنه استقلالي، ثم لعله كان يصعب عليه أن يدرج جميع أخبار المدن والأقاليم في صفحة أو صفحتين. كما أن بعض المفتشين كانوا يشترطون أن تنشر بعض الصور والمواد بحجم معين، وكانت هذه العملية غير ممكنة تقنيا لأن الصورة الأصلية تكون صغيرة الحجم وسيئة من ناحية الجودة، ولأن المفتش يصر على أن تنشر الصورة كما يريد، كان الأزماني يضطر أحيانا إلى إعادة تصوير الصورة الأصلية أكثر من مرة حتى تصبح جاهزة للنشر وفق الحجم المطلوب. كان ذلك يتطلب وقتاً، لأنه لم يكن هناك آنذاك جهاز سكانير، بل ماكينة تصوير كبيرة جداً وعتيقة على لوحات معدنية، وكانت هذه العملية تستغرق وقتاً وجهداً، ولهذا السبب كان الأزماني يبدو دائما مستاءً ومتوتراً. أما إذا حدث أن نسي نشر خبر ما بناء على رغبة أحد المفتشين، فإنه يتعرض لسيل من الانتقادات واللوم والعتاب. كان الأزماني، رحمه الله، عندما يفقد السيطرة على أعصابه يقول غاضباً «هذه مصيبة حقيقية. سأموت. لم يبقَ لي إلا يوم واحد في حياتي».
من الطرائف التي تحكى أن الأزماني كان يرمي هلالية فطوره في سلة المهملات ثم يعود للبحث عنها داخل سلة المهملات لالتهامها. ماهي وقائع هذه القصة؟
- (يضحك) سأحكي لك وقائع هذه المسألة كما كنت أعاينها مشهدا بمشهد. كان الأزماني يتناول كل صباح الفطور نفسه، أكيد قلة الامكانيات لم تكن تتيح سوى ذلك، كان فطوره، كما هو حالنا جميعاً، يتكون من كوب قهوة مع قليل من الحليب (قهوة مهرسة) وهلالية (كرواسة). كانت له، رحمه الله، طريقة عجيبة في تناول فطوره.
كان الأزماني يجلس خلف مكتبه، وهو غارق وسط ركام من أوراق المراسلات، التي تأتي من كل أنحاء المغرب. كانت مراسلات مكتوبة كلها بخط اليد ويصعب أحيانا فك بعض خطوطها. كان المسكين عندما يفشل في فهم كلمة أو جملة، يتنرفز، ويرشف رشفة من كوب القهوة، ثم يقضم قطعة من «الكرواسة» قبل أن يرميها في سلة المهملات، وبعد ذلك يحاول إعادة صياغة المادة، التي أمامه بقلم من نوع «بيك»، إلى حد أنه كان في الغالب ما يثقب الورقة من شدة النرفزة، والضغط على القلم. لكنه سرعان ما يعيد البحث في سلة المهملات عن «الكرواسة» من جديد ليقضم منها قطعة أخرى ويرشف رشفة من كوب القهوة ثم يرمي الكرواسة مرة أخرى في سلة المهملات، وهكذا دواليك.
يعيد الأزماني هذه العملية أكثر من مرة دون أن ينتبه إلى من حوله، إلى أن ينهي فطوره. وكان ذلك يستغرق وقتاً طويلا. كان مشهداً مضحكاً، ونحن نراه يبحث عن قطعة «الكرواسة» في سلة المهملات بين الفينة والأخرى، بل حتى طريقة لباسه وهندامه كانت عجيبة للغاية، إذ كان يرتدي عادة سروالا واسعا مثل سراويل شارلي شابلن. ولأن السروال كان واسعا، فقد كان دائما مشغولا بتعديله بشده بحزام جلدي بال.
وكان رحمه الله ينزعج كثيراً إذا ضحك أي من الزملاء من هذه التصرفات.
كان هذا السيناريو يتكرر كل صباح، وكانت تلك طريقته في تناول فطوره، وهي طريقة في منتهى السوريالية. كنت شخصيا أمزح مع الأزماني عندما يبدو لي متوتراً: «هون عليك يا سي ميمون، لو كانت شركة أقلام «بيك» عرفت ما سيحدث لهذا القلم لما صنعته»، ويرد علي دائما بهذه اللازمة: «هؤلاء المفتشون والمراسلون سيقتلوني يوما ما».
كان الأزماني محرراً ممتازاً يتوخى الدقة في عمله، لذلك تراه طوال اليوم في محنة حتى يحول مراسلات ركيكة الى مواد صحافية رشيقة.
كان العمل في صفحة المراسلات متعباً للغاية، كما أن هذه الصفحة كانت تتسبب أيضا في بعض المشاكل، سواء مع عبد الكريم غلاب أو العربي المساري، فأحيانا تنشر بعض الأخبار في الصفحة دون أن يكون المراسل متأكداً من صحة المعلومات، وأحيانا يتصل استقلالي من مدينة ما، ليحتج بشدة على مسؤولي الصحيفة لأنهم لم ينشروا خبرا حول نشاط حزبي أو قضية محلية تحظى باهتمام الحزب في تلك المدينة.
أتذكر أن مراسلا اتصل يوما بالأخ ميمون الأزماني، رحمه الله، ووجه له تهمة خطيرة، إذ قال له: «أنت تريد أن تخرب حزب الاستقلال». وكان مرد ذلك أن الأزماني لم ينشر مراسلة من مراسلات المراسل المعني بالأمر، فرد عليه الأزماني بعصبية شديدة «يا أخي لو كنت أعرف كيف أخربه حتى نرتاح من أمثالك لفعلت». كانت هذه الوقائع تجري أمام حكيم الصحيفة محجوب الصفريوي، وكان غالباً ما يسعى إلى تهدئة الأزماني.
وكيف كانت علاقتك بمفتشي الحزب؟
-على الرغم من الشكوى الدائمة للزميل الأزماني، رحمه الله، من أولئك المفتشين، كنت شخصياً أجد فائدة في الحديث معهم. كنت من خلالهم أعرف بعض مشاكل المدن والأقاليم، وكان يعجبني فيهم ذلك «الولاء الأعمى» لتاريخ ورموز حزب الاستقلال. كانوا يحرصون على أن يظل الحزب سائرا على الخط الذي رسمه له زعيمه الراحل علال الفاسي. وأذكر من هؤلاء المفتشين عبد الرحمن احجيرة، مفتش حزب الاستقلال في وجدة، كما أسلفت، ووالد الوزير توفيق احجيرة، الذي كان يعطف علي عطفاً خاصاً ودعاني أكثر من مرة إلى منزله بوجدة. كان هناك أيضاً عبد الله بارزي، وأظن أنه كان مفتش الحزب في الخميسات. كان شخصاً ودوداً ولطيفاً.
لماذا كان ممنوعا عليكم أن تجروا حوارات مع وزارء في أحزاب سياسية أخرى؟
-نعم هذا صحيح. كان عبد الكريم غلاب صاحب هذه التوجيهات، فقد كان يطلب على سبيل المثال ألا نكتب أي حرف عن حزب التجمع الوطني للأحرار على الرغم من أن الحزبين يشتركان في حكومة واحدة يرأسها أحمد عصمان رئيس الأحرار. وإضافة إلى التجمع الوطني للأحرار، كانت تعليمات غلاب تقضي أيضا ألا نكتب أي شيء له علاقة من قريب أو بعيد بأنشطة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، خاصة أن «العداء» بين الاتحاديين والاستقلاليين في تلك الفترة كان في أوجه بعد قرار حزب الاستقلال الانتقال من المعارضة إلى المشاركة في الحكومة.
وماذا عن الدور الذي كانت تلعبه النقابة التابعة لحزب الاستقلال، وأقصد هنا الاتحاد العام للشغالين بالمغرب؟
- كان قياديو هذه النقابة الاستقلالية يترددون على مقر الصحيفة بانتظام، خاصة بعد احتفالات ومسيرات «فاتح ماي»، وكان نشر تقارير حول تلك المسيرات والاحتفالات يستمر أحياناً حتى يونيو.
لكن لابد من الإشارة هنا إلى أن الذي كان يهيمن على الساحة النقابية، في تلك الفترة، هو الاتحاد المغربي للشغل بزعامة المحجوب بن الصديق، وعندما تأسست الكونفدرالية الديمقراطية للشغل من طرف الاتحاديين، راحت تستقطب كثيرين. كانت النقابة الاستقلالية تسيطر على المصانع والمعامل الصغيرة وبعض المؤسسات في القطاع الخاص، وكان حزب الاستقلال إذا أراد أن ينظم تجمعاً جماهيرياً كبيراً يستعين بالنقابة لحشد الناس. كنت في بعض الأحيان أحضر تلك التجمعات، وكنت وما زلت معجباً بكلمات نشيد حزب الاستقلال الحماسي، الذي يبدأ بعبارة «الحرية جهادنا حتى نراها». كانت الأجواء التي تمر فيها احتفالات فاتح ماي في تلك الأيام غير الأجواء التي تمر فيها هذه الاحتفالات حالياً. أتذكر من بين شعارات الاتحاد العام للشغالين الطريفة شعاراً يقول: «الإنسان إنسان والدجاج دجاج»، في إشارة إلى أن العمال لا يمكن أن يعاملوا مثل الدجاج. عادة ما كانت مسيرة الاتحاد العام للشغالين تقف أمام العمارة التي فيها مكاتب «العلم» و«لوبنيون» في شارع علال بن عبد الله في الرباط، ويهتف المشاركون هتافاً ما زلت أتذكره يقول: «لوبنيون والعلم.. النضال بالقلم».
من هم الكتاب والمثقفون الذين كانوا يترددون على جريدة «العلم» أثناء اشتغالك فيها؟
- لم يكن الأمر على هذا النحو، بل كان معظم الكتاب والمثقفين يتواصلون مع الصحيفة عبر الرسائل. كان عبد الجبار السحيمي هو الذي يتكفل بمهمة التواصل معهم، لكني كنت بين الفينة والأخرى ألتقي بعض الكتاب، أذكر منهم خناتة بنونة وحسن الطريبق ومبارك الدريبي وأحمد مفدي. لكني لم ألتق في تلك الفترة بمقر الصحيفة أي كاتب من الأسماء المعروفة بانتمائها إلى الاتحاد الاشتراكي، إذ كانت الحساسية كبيرة، والخصومة السياسية والفكرية على أشدها.
ولماذا في نظرك كان هذا الانغلاق تجاه المثقفين الاتحاديين؟
-أعتقد أنه كان صعباً أن تكون الصحيفة منفتحة في مثل هذه الأمور، لأنها ناطقة باسم حزب الاستقلال، وهي الصحيفة الوحيدة التي كانت تكتب ذلك إلى جانب ترويستها. لم تكن «المحرر» تفعل ذلك، وحتى «لوبنيون» لم تكتب ذلك.
كانت «العلم» أيضا قبلة للعديد من المسرحيين.
-هذا صحيح، وكان «العلم الفني»، الذي يصدر يوم الأحد، يجد إقبالاً كبيراً، وربما وجود عبد الحق الزروالي في الصحيفة لعب أيضاً دوراً هاما. كان من بين الذين يزورون الصحيفة بانتظام المسرحي عبد القادر البدوي. لكن لم يحدث أن التقيت بالطيب الصديقي، ربما كان يزور «لوبنيون». المؤكد أنني لم ألتقه في «العلم» وكان أول لقاء لي به له حكاية تروى. ذات يوم وجدت الزميل عبد القادر شبيه في مقهى «باليما» بشارع محمد الخامس، وكان هو المقهى المفضل للصحافيين والكتاب والمثقفين والمبدعين في الرباط. كان شبيه يجلس مع الطيب الصديقي، فدعاني للجلوس معهما. كان الطيب الصديقي يضع أمامه كتاباً حول الخط ويشتمل على رسوماته. وعندما جلست، تناولت الكتاب من فوق الطاولة ورحت أتصفحه. كنت أشاهد الصور ولا أقرأ النصوص التي كتبت بالفرنسية. لم يتقبل الطيب الصديقي هذه الطريقة في تصفح الكتاب، ولم يكن يعرفني، فالتفت إلى شبيه وقال بطريقته الساخرة «من هو هذا الحمار الذي يتفرج على النصوص ويقرأ الصور؟». كاد شبيه يسقط على قفاه من الضحك، وقال له «هذا شاب سوداني يعمل محرراً في «العلم». كان رد الصديقي: «آه، فهمت، هذا شخص من أولئك الذين يسكنون في الغابات ومساكنهم عبارة عن شجرة، وإذا سألت أحدا عن عنوانه يقول لك إنه يسكن في الغابة الفلانية من الجهة اليسرى في الشجرة الخامسة على اليمين». لم يقف الصديقي عند هذا الحد من السخرية اللاذعة، وإنما أضاف ساخرا مرة أخرى وهو ينظر إلى عبد القادر شبيه «كم مدة لم يستحم هذا الأخ؟» ثم تابع سخريته: «هل فعلا صحيفة «العلم» كانت محتاجة إلى قرد مثل هذا؟».
وماذا كان ردك على الصديقي وأنت تستمع إلى هذه السخرية ؟
-لم أعقب ولو بكلمة، وهذا من عادتي عندما أسمع شتيمة أو كلاماً مسيئاً. ألتزم الصمت.
كان شبيه يضحك بشدة. والواقع أن تعليقات الطيب الصديقي، على الرغم من أنها كانت جارحة وعنصرية، فقد كانت فعلا ساخرة جداً. وانتهت تلك الجلسة على إيقاع سخريته اللاذعة. لكن هذه الواقعة ستكون مدخلاً إلى علاقة صداقة متينة جمعت بيني وبين الطيب الصديقي، ولازالت مستمرة إلى يوم الناس هذا. ذلك أن الصديقي سيقدم لي بعد تلك الواقعة بسنوات اعتذاراً علنياً بطريقته الخاصة أمام جمهور مسرح محمد الخامس في الرباط أثناء عرض مسرحيته «بديع الزمان الهمداني». كانت المسرحية تتضمن مقاطع يقول فيها الطيب الصديقي عبارات مثل: «هل عرفتم القعقاع بن المقفع؟ هل عرفتم زهير بن أبي سلمى؟ هل عرفتم امرأً القيس، وعمرو بن كلثوم؟» وهكذا راح يردد أسماء وازنة من التراث العربي. وقبل أن ينهي ذلك المقطع صاح قائلاً: «وهل عرفتم طلحة جبريل؟».
صحيح أني لم أحضر تلك المسرحية، لكن حضرها بعض الأصدقاء، الذين نقلوا لي الواقعة، وكيف أن الطيب الصديقي ذكر متعمداً اسمي في مسرحيته. وفعلا، اعتبرت هذا الأمر التفاتة جميلة من الطيب الصديقي، بل تلقيت هذه الحكاية باعتزاز كبير، لأنه ليس بالأمر الهين أن يذكر الطيب الصديقي اسم صحافي في بداية مشواره المهني أمام جمهور عريض في مسرحية من مسرحياته التي طبقت شهرتها الآفاق. ولازال الصديقي يتذكر هذه الواقعة جيداً كلما التقيته. المؤكد أنني أكن له تقديراً ومودة، وهو يبادلني الشعور نفسه، وربطت بيننا علاقة صداقة متينة وقوية.
كنت أحضر أيضا مسرحيات عبد القادر البدوي، التي كانت تعرض في مسرح محمد الخامس، وكنت أنشر حولها بعض الانطباعات في«العلم»، وأذكر من بينها مسرحيته ذائعة الصيت «رأس الدرب». من خلال «العلم» كذلك ارتبطت بعلاقة وطيدة مع الكاتبة خناتة بنونة، وهي تنتمي إلى حزب الاستقلال. كتبت مرة عن مجموعتها «النار والاختيار»، ونال ذلك المقال إعجابها، فجاءت من الدار البيضاء إلى الرباط لتتعرف على هذا المحرر الذي كتب ذلك الموضوع، وكانت تعمل وقتها مديرة «ثانوية الخنساء»، فتوطدت علاقتنا أكثر ودعتني إلى بيتها في إحدى المناسبات.
وماذا عن النساء القياديات في حزب الاستقلال؟ هل كان لهن حضور في تلك الفترة؟
- لم يكن للنساء الاستقلاليات حضور لافت إذا استثنينا الروائية خناتة بنونة، التي كان الجميع يعرفها، ومليكة العاصمي، وبالطبع زهور الأزرق، رحمها الله، التي كانت فعلا امرأة قوية داخل الحزب وتحظى باحترام كبير وسط الاستقلاليين، وكانت عضواً في اللجنة التنفيذية. بيد أن المرأة الاستقلالية لم يكن لها حضور قوي في تلك الفترة داخل الحزب، وهنا أتحدث عن آواخر السبعينات وبداية الثمانينات. عندما نلاحظ اليوم أن لطيفة بناني اسميرس ترأس الفريق البرلماني لحزب الاستقلال في مجلس النواب سندرك أن هناك تغييراً كبيراً قد 
حدث.
وكيف كانت جريدة «العلم» تتعامل مع الأنشطة الملكية؟
- حظيت الأنشطة الملكية دائماً باهتمام الصحيفة، وكانت الخطب الملكية تنشر كاملة على صفحاتها، لكن لا يمكن لي أن أعرف خبابا مثل هذه الأمور، التي كانت تحاط بنوع من الكتمان، ثم لا ينبغي أن ننسى أني كنت حينها محرراً مبتدئا ولا يمكن أن أقترب من قضايا لها حساسية خاصة تهم الوضع الداخلي للمغرب. كان اهتمامي مركزا على القضايا الخارجية، لكن سأعرف أن الراحل الحسن الثاني كان يهتم كثيرا بما ينشر في «العلم»، إذ عندما نشرت، كما أسلفت، موضوعاً في صفحة «آفاق دولية» حول «تيمور الشرقية» الراغبة في تنظيم استفتاء يقود إلى الانفصال عن أندونيسيا، أخبرني العربي المساري أن الصحيفة توصلت باحتجاج من جهات لم يسمها، وفهمت فيما بعد من هذه الإشارة أن محيط الراحل السحن الثاني اعتبر أن نشر مقال حول «تيمور الشرقية» مسألة محرجة، لأنه نشر في «العلم» الناطقة باسم حزب الاستقلال، الذي يقود أمينه العام امحمد بوستة الديبلوماسية المغربية، وفي تقديرهم فربما يستغل ذلك من طرف دعاة أطروحة الانفصال في الصحراء المغربية.
ويبدو أن الأمور في هذه القضية تعقدت أكثر، ووصلت إلى حد أن أحد المستشارين اتصل، بأوامر من الملك الراحل الحسن الثاني، بعبد الكريم غلاب، كما تردد وقتها وسط العاملين في «العلم». وفعلا، تأكد لدى الجميع أن مسؤولي الصحيفة تلقوا احتجاجاً من مستوى عال، لكن لم تكن لدي تفاصيل أو حتى معلومات يقينية حول هذا الاحتجاج. ولم أكن أعرف أن تقريراً إخبارياً حول جزيرة «تيمور الشرقية» يمكن أن يتسبب في تلك الضجة، لكن ذلك ما حدث نتيجة عدم إدراكي للتشابه بين قضيتي «تيمور الشرقية» والصحراء المغربية.

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.