ذات يوم من أيام الستينيات خرجت فلسطين من دواليب الخطاب الحماسي المتعدد الطلقات، لتدخل تاريخها الخاص، تاريخ صوتها المتفرد، تحت اسم حركة التحرير الفلسطينية «فتح»، وصار للقضية وجه، وإسم حركي وصوت: ياسر عرفات، الذي انتقل بالوجود الفلسطيني من مرتبة الحق المطلق إلى درجة الفعل الثوري، اليومي والإجرائي، فأعطى بذلك جسدا للروح الثائرة التي رفضت واقع التقسيم وترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ورفضت أن يطرد الفلسطيني من جغرافية أرضه إلى تاريخ شتاته. ولدت حركة «فتح» لتقود الصراع وتستمر على سكة المقاومة الفلسطينية، وفي رئيسها وقائدها اختزلت أسماء الرفض الأولى، من عز الدين القسام إلى أبسط ثائر ومزارع فلسطيني، في إشراقة الثورة الناهضة .. ومنذ ذلك التاريخ صار عرفات هو الإسم الحركي لفلسطين، والرقم الصعب الذي يتحرك بقوة الإصرار في حقل مليء بالألغام ... بسعة العالم. لم يكن من السهل أن يجد العمل الفلسطيني سيادته على قراره في عالم عربي يعتبر فيه الكلام عن فلسطين، والحديث عنها والدفاع عنها، بابا مشرعا للشرعيات السياسية والإيديولوجية. ولهذا كان من الصعب أن نتصور بقاء الثورة الفلسطينية بعيدة عن إغراءات التدخل وإغراءات الخطاب الذي يلغي التفرد الفلسطيني، من أجل فلسطين وسط غابة من الدبابات والانقلابات والمعارك. فكم مرة طردت الثورة، وكم مرة خرج الموت الفلسطيني من بنادق العرب، لا لشيء إلا لكي تظل الثورة سيدة دمها، وسيدة نارها؟ وفي كل ذلك، كان عرفات يحاول أن يجمع الأضداد، يجمع الملاك والشيطان عله يفوز بهامش قليل لمرور القضية أو لكي يتجسد مربع من حقول الجليل. عندما ذهب إلى العالم في الأممالمتحدة وفي يده غصن الزيتون، كان يحمل شجرة فلسطين المباركة لكي يعطي للعالم شجرة أنسابه في السلام والتعايش والحق. لم نفهمه أحيانا ... وكنا نصدقه دوما ! ولم نسايره أحيانا وهو يتحرك بين الألغام، كما يتحرك لاعب ماهر بين رقعات الشطرنج! لم نكن نفهم ابتسامته وهو وسط الجحيم، كأنما كان يستفز ما تبقى فينا من إنسانية وهو يطل من وراء حصار بيروت! وأحيانا كثيرة لم يفهم العالم قدرته على الخروج من الأنقاض... نظيفا! ألِف الرجل موت رفاقه وهم يتساقطون كالشجر، في العواصم والمطارات والمعسكرات، ولم يشك أو يتراجع. ألِف مشاهد القتل اليومية، وتحول الجسد الفلسطيني إلى مشهد يومي على شاشات العالم اللامبالية، وظل يؤمن بأن العالم لابد أن يصحو ذات ضمير ويسمع صوت الضحية . وبالرغم من التباسات كثيرة، وكثير من الثغرات في ضمير هذا العالم، لم ييأس منه، بل لم ييأس حتى من إنسانية الجلاد ومن إنسانية الذي يدعمه ومن خطر تبلد الحاسة الإنسانية البشرية... لقد شاهد العالم وهو يشاهده تحت نيران بيروت، ورأى العالم وهو يراه تحت أنقاض رام الله. وكان يرفع صوتا هادئا ليلوم الإنسان على تعطيل ما فيه من قدرة على مناصرة الحق.. لهذا كله كان عرفات متفردا، ويكاد يعيش على حدود الأسطورة. حتى الذين عابوا عليه الكثير مما لم يوافقوه عليه في السياسة، لم يشكوا في أن القليل من حبه للقدس يستطيع أن يجعل القضية تعيش مائة عام أخرى. وفي مواجهة عالم خارج من الاتفاقيات والمناورات والدسائس، كان يسأل دوما عن مكانة فلسطين، ويبحث لها عن مكان في كل دقائق الكون.. لا أحد يستطيع طرد عرفات من التاريخ، لأنه من صناعه، وعرفات ليس هو السلطة الوطنية في مفترق الطرق القاسية، بين ذكريات صبرا وشاتيلا ودير ياسين، ومصافحات أوسلو فقط، بل هو أيضا جزء من هوية فلسطين في نقطة التلاقي بين التاريخ والملحمة. لهذا لم يكن يجد نفسه غريبا في القتال كما لا يجد نفسه غريبا في السلام، أينما تكون فلسطين يكون. عرفات يرقد الآن في التربة المباركة لفلسطين، هوجزء منها وجزء من غدها. إن الرمز لا يموت، بل ينتقل إلى الحياة الأخرى لمعنى القضية، الخلود. (كلمة التأبين التي أبنت جريدتنا بها عرفات عند رحيله منذ 5 سنوات)