نقابات تعليمية تحذر من افتعال "أزمات وهمية" وتدعو برادة لاجتماع عاجل    الدار البيضاء-سطات تتقدم جهات المملكة على مستوى عدد السكان النشيطين    الشرطة الهولندية تلقي القبض على بدر هاري في أمستردام    كأس إسبانيا لكرة القدم.. برنامج الدور ربع النهائي    تسويق أدوية مهربة يطيح بعصابة إجرامية في مراكش    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب في 24 ساعة    سناء عكرود تعرض فيلم "الوصايا" عن معاناة الأم المطلقة    صحتك ناقشوها.. عرق النسا (sciatique): أسبابه/ أعراضه/ علاجه (فيديو)    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    المندوبية السامية للتخطيط: إحداث 82 ألف منصب شغل في المغرب سنة 2024    إسبانيا: بدء محاكمة روبياليس في قضية 'التصرف غير اللائق'    خيرات تدخل السايح إلى المستشفى    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    سكتة قلبية مفاجئة تنهي حياة سفيان البحري    مستحضرات البلسم الصلبة قد تتسبب في أضرار للصحة    أطباء مختصون يعددون أسباب نزيف الأنف عند المسنين    مزور يشرف على توقيع بروتوكولين لدعم مجال الصناعات المغربية    الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب يعلن عن خوض إضراب عام يوم الأربعاء المقبل    استئناف محاكمة أفراد شبكة الاتجار الدولي بالمخدرات التي يقودها رئيس جماعة سابق    وفاة سفيان البحري صاحب صفحة تحمل اسم الملك محمد السادس    أسامة صحراوي يتألق رفقة ناديه بالدوري الفرنسي    أمطار الخير تنعش الموارد المائية.. سد محمد الخامس بالناظور يستقبل كميات مهمة من المياه    تراجع أسعار الذهب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    مؤشر مازي يستهل التداولات بأداء إيجابي    الاتحاد العربي للثقافة الرياضية يحتفي برئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم ويمنحه جائزة الثقافة الرياضية العربية التقديرية لعام 2024    تفشي بوحمرون : خبراء يحذرون من زيادة الحالات ويدعون إلى تعزيز حملات التلقيح    حماية ‬الأمن ‬القومي ‬المغربي ‬القضية ‬المركزية ‬الأولى ‬    بعد توتر العلاقات بين البلدين.. تبون يدعوا إلى استئناف الحوار مع فرنسا "متى أراد ماكرون ذلك"    "لحاق الصحراوية 2025".. مغربيتان تتصدران منافسات اليوم الأول    تبون يقيل وزير المالية دون تقديم مبررات    بعد "بيغاسوس".. إسرائيل استعملت برنامج "باراغون" للتجسس على صحفيين وناشطين على "واتساب"    تبون: حذرت ماكرون من أنه سيرتكب خطأ فادحا في قضية الصحراء.. ومازلنا في منطق رد الفعل مع المغرب    أوكسفام: 1% من الأغنياء يسيطرون على 63% من الثروات الجديدة منذ جائحة كوفيد-19    جولة في عقل ترامب... وهل له عقل لنتجول فيه؟    الاتحاد الأوروبي يفرض قواعد جديدة لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي    ترامب يؤكد عزمه فرض رسوم جمركية على المنتجات الأوروبية    بوحمرون ‬يتسبب ‬في ‬حالة ‬استنفار..‮ ‬    الصين: عدد الرحلات اليومية بلغ أكثر من 300 مليون خلال اليوم الرابع من عطلة عيد الربيع    النجمة بيونسيه تفوز للمرة الأولى بلقب ألبوم العام من جوائز غرامي    كأس العالم لكرة اليد: المنتخب الدنماركي يحرز اللقب للمرة الرابعة على التوالي    سيارة مفخخة تخلف قتلى بسوريا    نشرة إنذارية…تساقطات ثلجية وأمطار قوية محليا رعدية مرتقبة من الأحد إلى الثلاثاء    صدمة في غابة دونابو بطنجة: قطع الأشجار يثير غضب المواطنين    مداهمة مطعم ومجزرة بطنجة وحجز لحوم فاسدة    نبيلة منيب: مدونة الأسرة تحتاج إلى مراجعة جذرية تحقق العدالة والمساواة -فيديو-    المغرب واليمن نحو تعزيز التعاون الثنائي    أكادير تحتفي بالسنة الأمازيغية الجديدة بتكريم مايسترو الرباب لحسن بلمودن    الاتحاد العربي للثقافة الرياضية يمنح فوزي لقجع الجائزة التقديرية ل2024    ابن تطوان "الدكتور رشيد البقالي" ينال إعجاب علماء كبار ويظفر بجائزة عالمية في مجال الفكر والأدب    تحولات "فن الحرب"    الإرث الفكري ل"فرانتز فانون" حاضر في مهرجان الكتاب الإفريقي بمراكش    تطوان تحتفي بالقيم والإبداع في الدورة 6 لملتقى الأجيال للكبسولة التوعوية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دوائر تضيقُ حول تلقي الرواية العربية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 24 - 04 - 2019

بفعل الرمزية والانزياح تتكسر البُنى في الأجناس الأدبيَّة ، بما هما يعيدان إنتاج الواقع من منظور تفاضلي ؛ وفيه يتم تجاوز الرؤية التقليدية للإنسان وللفن وللعالم . وعلى ضوء ذلك ، فما كانت لدوحة الأدب ، باعتبار هذا الأخير فنا بامتياز ، إلا أن تتبنى هذا الكم الزاخر من التأويلات و التفسيرات ، لمختلف الظواهر النفسية والاجتماعية والتاريخية ، التي يتوسل بها الكاتب بغية إيصال مشروعه الثقافي إلى القراء والمهتمين . إن إعادة كتابة التاريخ روائيا ، مثلا ، يتم فيه الخروج عن جمود تقريرية الأحداث ، ونقلها في تسلسلها الزمني ، إلى سيولة المادة الحكائية ؛ و قفزها المستمر على الأقنوم السردي. وفي هذا يظهر مدى سعة صدر الأدب ، في احتوائه كل ما يؤرق الإنسان على مدى التاريخ .
تظل الرواية الجنس الأدبي القادر على خلخلة الظواهر الاجتماعية والنفسية والتاريخية ، فهي لا تكتفي بنقل الأحداث والتجارب فحسب ، بل تعيد تشكيل وعي جديد ، وتحسس بأهمية الإنسان ، كعنصر بنيوي ، في هذا العالم ؛ عن طريق تحريره من الأوهام ، وترسيخ نظرته الفنية للواقع . فعلى حسب القيمة الفنية والأدبية للمشروع الثقافي ، الذي يحمله الروائي و يؤمن به ، يستحق شرف التقدير والاحترام مادام الهدف و الرسالة ، التي يصْبو إليه الكاتب نبيلة ، يخدم بها الذاكرة الجماعية ، ويكشف بها عن علاقات تؤسس للوظيفة الجديدة للرواية ، التي جاءت بها الحداثة في الأدب .
وفي سياق آخر ، كانت هزيمة حرب الستة أيام ، التي تكبدتها الجيوش العربية سنة 1967 ، حسب الدكتور شكري عزيز الماضي ، منعطفا تاريخيا خطيرا ، أدخل الرواية في عنق الزجاجة ، ووضعتها أي الهزيمة أمام لا يقينية العالم . وهذا نجم عنه تفسخ أيْديولوجي وحزبي ، عانت منه الأنظمة العربية ، مما انعكس بشكل قوي على جوهر الأدب . ومن أهم إفرازات المرحلة ، هو غياب الديمقراطية والحرية ، اللتين تعتبران دافعتان رئيستان نحو تأسيس خطاب روائي جديد ؛ بما هو يؤمن بالاختلاف و التعدد الذي يجئ بحجم الكون . فأنَّى لهذا الجنس الأدبي المدلل ، وزئبقي المزاج أن ينمو بشكل طبيعي في جو موبوء ، ومهيض الجناح ، وناقص الأكسجين ؟ بالموازاة ، كيف سيتكيف الخطاب الروائي مع
جفاء الواقع و تنطُّعه ؟ وإلى أي حد ساهم هذا الواقع في خلخلة و تخييب أفق انتظار القارئ العربي ؟
وفي الموضوع ذاته استحضرني كتاب « الأدب العربي و تحديات الحداثة « لعبد الله أبو هيف ، استفتى فيه كبار الروائيين العرب على ضوء سؤال جوهري ، مفاده هو : كيف ينظر الروائيون العرب إلى واقع الرواية العربية ؟
من بين الروائيين العرب الذين تم استجوابهم ، نجد : الطاهر وطار من الجزائر و مبارك ربيع من المغرب ويحيى يخلف من فلسطين وواسيني الأعرج من الجزائر … ففي أجوبتهم ركزوا ، تقريبا ، على عدم حصول التراكم الروائي الكافي ، الذي يسمح بإصدار أحكام قيمة على واقع الرواية في البلاد العربيَّة . وفي هذا ما يوضحه الروائي الطاهر وطار أن عُمرها كان قصيرا ، بالمقارنة مع تاريخ الرواية عند الغرب . ولعل ذلك يعزى ، حسب وطار ، إلى صدفة اكتشاف هذا الجنس الأدبي اللغوي ، كسائر الأجناس الأدبية الأخرى ؛ المسرح مثلا . فمن الطبيعي ، بل من البديهي أن تتحرك آليات الحفر و التنقيب العربيين ؛ من أجل تأصيل هذا الوافد الجديد ، أسوة بباقي الأجناس الأدبية الأخرى .
غير أن مبارك ربيع سلك سمْتا آخر ، في جوابه عن سؤال عبد الله أبو هيف . حيث ركز على ثنائية الناقد و الكاتب من جهة ، وعلى أهمية جنس الرواية في تشخيص الدّاء العربي من جهة أخرى ، مشيرا ، في جوابه ، إلى التطور المتسارع الذي سَلخ عنها أي الرواية عباءة التقليدية .
إلا أن الروائي الفلسطيني يحيى يخلف أكد على أن الرواية الفلسطينية ، والتي هي قسيم الرواية العربية ، فقدت بريقها و لمعانها ، وانحدرت انحدارا شديدا نحو اللاجدوى والانحطاط ، بل هوَت إلى مشارف الإسفاف والرطانة بفعل الظروف الصَّعبة ، التي يمر منها الشعب الفلسطيني ، حيث امتدت يد الغطرسة الصهيونية الغاشمة ، في بيروت ، إلى اغتيال أهم رموز الأدب الفلسطيني ، وعلى رأسهم صاحب رائعة « رجال في الشمس « ؛ غسان كنفاني . والتي ظلت ، فيها ، العبارة « لم لمْ تدقوا جدران الخزان ؟ « ماثلة في أذهان المتيَّمين بالفن الروائي العربي الهادف . إن لا حديث عن الفن الروائي العربي ، حسب يخلف ، في ظل تناسل النكسات و الهزائم العربية ، والانتقال بالمجتمع العربي نفسه من الصراع العمودي إلى الصراع الأفقي ، وفي هذا ما يوضح أن قمع الحريات العامة سببٌ مباشر في فشل المشروع الثقافي العربي .
أما واسيني الأعرج ؛ قيصر الجيل الجديد في الرواية العربية ، الذي جاء بعد جيل الرواد من أمثال : الراحل حنا مينة و الطاهر وطار و محمد ديب و غائب طعمة فرمان ، ونجيب محفوظ وآخرون … فكان له رأيٌ آخرُ بخصوص واقع الرواية العربيَّة . حيث أكد
، في جوابه ، على مدى تشبُّت الجيل الجديد ، بما تتمخض عنه الدراسات الأدبيَّة الحديثة ، في الغرب ، لمواكبة الفعل الروائي ، من زاوية علاقة النص بالقارئ ، وأشكال تلقي النص السردي الحداثي . ويبدو في ما تقدم أن واسيني ، في جوابه ، كان يدافع عن الارتباط العضوي بما جادت به النظريات الحديثة ، في الغرب ، بخصوص تفكيك النص السردي إلى وحدات و عناصر داخل بنية مغلقة ، وعلاقتها بالمضمون الحكائي . فلا حديث عن رواية عربية ، مادامت بعيدة كل البعد عن المنطق الجدلي بين الشكل و المضمون . يقول واسيني « فالأزمة ، إذن ، ليست أزمة رواية بقدر ما هي أزمة مجتمع و تركيبة طبقية مفلسة ، ما تزال تمارس حضورها الاجتماعي ، حتى الآن و بشكل تعسفي « . والمشكلة ، هنا ، هي أن الإبداع الروائي لا يستطيع أن يقدم الأجمل ، إلا في ضوء فهم جيد و جديد لمكانيزمات العلاقة التي تؤلف بين الرواية و المتلقي ، مادام هذا الأخير كائنا لغويا بامتياز. و الحالة هاته ، سيظل عبد الرحمان منيف الراعي المتميز لهذه الآصرة ، التي تجمع بين طرفي الإبداع من خلال أهم رواياته ، سيما وأنه يحاصر المتلقي ، انطلاقا من الوصيد الأول لنصه الإبداعي ، ويجعله بين جنازتين ؛ مطرقة الزمان وسندان المكان . ففي روايته « الآن … هنا « الصادرة عن دار التنوير ، تُحلق الرواية في سماء عربية موبوءة وهَّنها الوجل وهدها الخوف من مصير معتم ، يسكنها القمع و التعذيب و انعدام الحرية ؛ ومن شدة الهول يصبح الإنسان مجردا من انسانيته . من هنا ، كانت السلطة القمعية تنشط في الاعتقالات ، و سحق الإنسان و الزجّ به في غياهب السُّجون .
إن الرواية بهذا البناء ، تصبح وثيقة شاهدة على التنكيل و السَّحل في تاريخ الأدب العربي. يقول عبد الرحمان منيف « اكتشفوا ذات ليلة ، أنني أصبحت قادرا على ترك العربة بمفردي واستعمال العكازين …» ، ولئن كان تعذيب الجسد يعتبر طريقا غير مُلتو أمام الجلادين ، نحو اعتراف طالع العريفي صديق الكاتب ، وهو الرجل البسيط بمواقفه وانتماءاته السياسية و الأيديولوجية ، قبل الزج به في غياهب سجون العمورية ، فإن إنسانية الإنسان تنتفي في جحر هؤلاء السَّيَّافين ، يقول عبد الرحمان منيف : « في وقت ما ، وحين بدأ جسدي يغادرني ، يتركني و حدي أصارع هؤلاء القتلة ، أخذوا يرشون على الماء . كنت أعود من المكان البعيد ، الذي وصلت إليه نتيجة الماء البارد ، نتيجة الماء الساخن ، إلى أن غبت تماما عن الوعي …» . تضعنا الوشائج أما اعتراف بعْدي ، بوجود ذات متلقية للخطاب الروائي ، بل متفاعلة تضرم النار في الهشيم . إن احترافية الكتابة الإبداعيَّة ، تجعل من الروائي قريبا ، يتحسس تنفس المتلقي ، بل يقلبه يمنة و يسرة بين بنانه كيف يشاء . فمن خلال لعبة الضمير ، الذي يلجأ إليها الروائي ، يستفز و يثير غضب المتلقي ، ويدفع به نحو المشاركة الفعلية في صناعة الحدث ، حتى يصبح للمتلقي موقف ، سيظل وشما لا يمحي أبدا .
يتجلى لنا ، في ضوء ما تقدم ، أن العملية الابداعية لا تبرح البتة دائرة التلقي . فعندما يبدع الروائي ، يكون قد فسح جسورا تواصلية مع القارئ ؛ لأن الإبداع خاضع للعملية النقدية وتحت إمارتها . فسواء تعرفنا على واقع الرواية العربية أو غير العربية ، أو حتى درسنا مختلف تلاوين انتماءاتها الاجتماعية و السياسية ، فلن يجدي ، ذلك ، نفعا إذا ما أهملنا واقع المتلقي ، أو تم التغاضي عن ظروفه المادية و الاجتماعية و السياسية ؛ لأن بالمتلقي يتم استكمال الدورة الإبداعية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.