ويكفي دليلا أوليا على هذا الإبحار الجميل في أوقيانوس الثقافة عند حسن بحراوي، هذا الانتقال أو الارتحال بين مرافيء الثقافة وسواحلها، متحرّرا من الحدود الجمركية – التخصّصية، ومُنْفتحا على أسئلة وعلامات ثقافية مختلفة ومؤتلفة، حساّسة وساخنة، مُنفتحا على هواء الثقافة الطّلق. وهو الأستاذ الأكاديمي المدجّج بالعُدّة والعتاد الجامعيين . وحسبنا أن نلقي نظرة أولية على عناوين أعماله ومنجزاته المطبوعة، ليتّضح لنا هذا الإبحار الجميل في أوقيانوس الثقافة: – بنية الشكل الروائي/ الفضاء- الزمن- الشخصية. المسرح المغربي، بحث في الأصول السوسيوثقافية. عبد الصمد الكنفاوي، سيرة إنسان ومسار فنان. حلقة رواد طنجة، دراسة ونماذج. فن ّالعيطة بالمغرب، مساهمة في التعريف. جدل الذات والوطن، بصدد السيرة الذاتية لعبد الكريم غلاب. أبراج بابل، شعرية الترجمة من التاريخ إلى النظرية. هذا إلى ترجماته الأدبية و التاريخية العديدة، ومقالاته الجادة عن السينما المغربية. وفي انعطافة إبداعية رائعة ، يطلع علينا حسن بحراوي بعمليه: النمر الفيتنامي (رواية)، أستوديو الجماهير ( مجموعة قصصية)، إضافة إلى بوحه الشعري بين الحين و الآخر، كمحطة خُلوة واستراحة، يعود فيها إلى الإنصات لوجيبه الداخلي والإفضاء بذات نفسه. وهكذا يبدو لنا حسن بحراوي مثقفا متعددا – قُزَحيا – مقتحما لخرائط الثقافة. مفردا جمْعا، أو جمْعا مفردا، سيّان. هكذا يبدو الرجل من صنف المثقفين الحداثيين القلائل، الذين تخطّوا جدران الأبراج العاجية، وتحرّروا من المعاطف الأكاديمية – اللاّنسونية . كما تحرّروا من بُهْرج اللباس و مظْهريته، و انخرطوافي زحام الثقافة ومعْمعانها وهوامشها أيضا.انخرطوا في غمار الحياة. إنه مثال المثقف البارتي ( رولان بارت ) المُبْحر في أوقيانوس الثقافة والعلامات الثقافية ، المُنْصت للّغات و الأصوات المختلفة، مما يمسّ الجسم الاجتماعي في الصميم، ويدخل في دهاليز وسراديب الذاكرة الثقافية. كل ذلك، بحسّ أدبي وعلمي حصيف ورهيف، ولغة نقدية ألمعية و لمّاحة .. كلما التقيت حسن بحراوي، تفتّحت أساريره وندّت على لسانه لازمة ٌودّية دائمة يستقبلني بها: ( أستاذنا ملاذنا). يقول ذلك تودّدا وتلطّفا، لكن بصدق نبيل وجميل. هذا على الرغم من أن المسافة الأدبية – الجيلية بيني وبين حسن، قاب قوسين أو أدنى. فأنا محسوب على جيل السبعينيات، وهو طالع مع طلائع الثمانينيات من القرن الفارط، رفقة جيل نقدي جديد، منقّح ومزيد، جيل سعيد يقطين وبنعيسى بوحمالة والبشير قمري .. على سبيل المثال. ولأول وهْلة أو طلْعة، لفتني وجذبني في كتابات حسن بحراوي، لغته النقدية السلسة الرشيقة، الممتعة المفيدة. لغة أدبية – علمية تستهويك، وتُغريك، وتذلّل أمامك مسالك النقد الصارمة – الوعرة، وتُزجيها لك قراءاته رحيقا سائغا للقارئين. إن لغة حسن النقدية، بلا غلوّ أو شطط ، من أرقى وأنقى لغاتنا النقدية . لغة أدبية – نقدية طليّة، لكنها مشحونة بالعلم و المعرفة. وجدير بالإشارة، أن حسن بحراوي طلع علينا نقديا في سياق هيمنة المناهج النقدية الجديدة، وبخاصة النقد البنيوي بترسانته المفاهيمية والاصطلاحية والإجرائية الصارمة الدقيقة، التي كانت تتوسّل أحيانا لغة الهندسة والرياضيات واللوغاريتمات.. لكن حسن الذي تشرّب النظريات والمناهج النقدية الجديدة، كان يُحسن ويُتقن استيعابها واستثمارها، ويخفّف من غلُوائها، ويبْصمها دائما ببصمته الخاصة ، بأسلوبه الخاص. وهو يعدّ بحق، من النقاد القلائل الذين يفقهون النصوص و يسبُرون أغوارها ويميزون بين غثها وسمينها، بلا لغَط نقدي أو منهجي. و في أطواء حسن بحراوي الناقد الباحث، يكمُن المبدع الشاعر، علما بأن انطلاقته الأولى كانت إبداعية. وقد سرّنا في الآونة الأخيرة، أن يُطلق سراح موهبته الشعرية من عقال، و يُرْسلها عبر نصوص شعرية شفافة نافذة وناقدة، تقع على أدق التفاصيل والصوروالخلجات. تحت عنوان (قصص شعرية)، نقرأ تمثيلا، النصين القصيرين التاليين: [ سعادة التمساح: يسود هدوء مريب على حديقة الحيوان القردة تغفو خلف القضبان والدبّ القطبي يشكو من الحمّى وحده التمساح يبتسم ببلاهة لعدسات المصورين]. [ بورصة: ما أقسى أن تستيقظ في الصباح على أصوات المرابين ذوي القبعات المدبّبة والرّبْطات المدلاة كأيادي الموتى وهم يتاجرون في الكافور و المشانق]. وأكيد، أن في ضمائرنا أشياء، لا يقولها إلا الإبداع. لا أريد أن أنهي هذه الورقة/ البورتريه ، دون الإشارة إلى مُفارقة ثقافية جميلة عند بحراوي. ذلك أنه قبل أن يكمل مساره التحصيلي- الجامعي ، قبل أن يلتحق أستاذا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ، كان أستاذا للّغة الفرنسية ، يقرّب تلامذته ويحسّسهم بجمالية لغة موليير. ولمّا بلغ سن الرشد اللغوي والثقافي بعد أن راوح بين عشق اللسانين ، لمّا أراد أن يحكّ جلده بظفره، لم يجد أمامه سوى لغة الضّاد، مسْكنا للوجدان وتعبيرا على اللسان. وفي هذا ردّ بليغ، على دعاة الفرانكفونية والعامية، غرباء الوجه واليد واللسان، لا هم في العِير ولا في النفير. ولا أخفي من بعد، سروري وامتناني بالصداقة الجميلة والطويلة التي ربطتني ووشَجتني بحسن بحراوي، الصداقة الأدبية والمهنية و الإنسانية. فقد جمعتنا رحاب كلية الآداب بالرباط، في عُروة جامعية وُثقى، ومع شلّة أنس وفكر متآخية. كما جمعتنا فضاءات مدينة الرباط، آناء الليل و أطراف النهار. والجميل دائما في حسن بحراوي ، أنه مُبحر في الحياة كنمر فيتنامي ، يسخر من الحياة عبْر أستوديو الجماهير.