سؤالان يفرضهما واقع حال الثّقافة المعاصرة بشكل عامّ، وليس العربيّ أو الفلسطينيّ وحدهما، فثمّة كتّاب كثيرون يعانون من ضياع الشخصيّة، وأنّهم ما زالوا يبحثون عن طريقهم على الرّغم من كثرة مؤلّفاتهم، وحضورهم الإعلاميّ والثّقافيّ، المفتعل أحيانا، ولأنّ بعض هؤلاء الكتّاب ذوو يد طولى، حزبيّة أو مناصبيّة أو سلطويّة ثقافيّة. لعلّ ما يشجّع على هذا الافتراض ما يشاهده القارئ العربيّ من تنقّل الكتّاب ما بين الشّعر والسّرد والمقال السّياسيّ والقراءات النّقديّة «الانطباعيّة التّطفليّة الطّفليّة» غالبا، دون أن يُحدث هذا الكاتب أو ذاك بصمة حادّة في مجال معيّن، فمن المعروف أنّ كتّابا كبارا كانوا شعراء كبارا أيضا، فدرويش كتب النّثر الفنيّ بجماليّة عالية، وكتب المقال السّياسيّ والافتتاحياّت الأدبيّة- السّيوثقافيّة، وخاصّة افتتاحيّات مجلّة الكرمل على امتداد أعدادها التّسعين (صدر العدد تسعين بعد وفاة درويش، فكتب الافتتاحيّة الكاتب حسن خضر الّذي كان يشغل مدير التّحرير في المجلّة)، وكذلك فعل إميل حبيبي في افتتاحيّاته لمجلّة «مشارف»، وأنّ سميح القاسم كتب الرّواية والمقال أيضا، والكاتب اللّبناني إلياس خوري مواظب على كتابة المقال الثّقافيّ الأدبيّ في الصّحف، والأمر نفسه يقال عن الشّاعر الرّاحل فاروق شوشة الّذي استمرّ لعقود يكتب المقال الأدبيّ في مجلّة العربيّ الكويتيّة، بالإضافة إلى برنامجه الإذاعيّ المشهور «لغتنا الجميلة» في الإذاعة المصريّة، وغير هؤلاء كثيرون في الغرب والشرق، فكيف أدّعي ضياع شخصيّات الكتّاب والشّعراء تحديدا بتعدّد كتاباتهم؟ إنّ الأمر لا يتعلق فقط بطائفة من الكتّاب الحيارى الّذين لا تدري هل هم شعراء أم روائيون أم نقّاد، ودخولهم إلى حقول الأدب دون أن يكونوا راسخي الأقدام في حقل واحد يعرفون به، بل قد يمتدّ إلى شعراء مكرّسين في السّاحة الشّعريّة على ما سأورد بعد قليل. ما زلت أذكر ذلك النّقاش الحادّ مع أحد الأصدقاء فيما إذا كانت واحدة من الكاتبات شاعرة، وقد كنّا نعدّ لأمسية شعريّة، فحلفت بيقين العارف أنّها ليست شاعرة بل تكتب قصص الأطفال والرّواية، متجنّبا صفة الرّوائيّة، وصاحبي يصرّ على أنّها شاعرة وتكتب الشّعر، وبعد أخذ وردّ، وتمترس القناعات، استقرّ رأي صاحبي على أنّها شاعرة، مكتفيا بامتداح جمالها الّذي وصفه بالآسر، فضحكت وسكتّ متوقّعا كيف تدخل الجميلات محدودات الموهبة ومتواضعات الثّقافة إلى نوادي الكتابة بهذا الشّكل الجماليّ الجسديّ أوّلا وقبل أيّ اعتبار أدبيّ، وما أكثرهنّ! وربّما خصّصت لهذه الظّاهرة وقفة مستقلّة، فهي تستحقّ. أحاول الآن استذكار بعض الحوارات مع الكتّاب الّذين يكتبون الشّعر والرّواية، وربّما تاهت شخصيّاتهم بين هذين الجنسين، ففي حوارات متعدّدة مع الكاتب إبراهيم نصر الله بدت الرّواية مسيطرة على تلك الحوارات، وكانت ازدواجيّة الشّاعر والرّوائي حاضرة، وكيف أثّرت الرّواية في لغة الشّاعر أو أبعدته عن الشّعر الّذي حقّق فيه إنجازات مهمّة على الرّغم من تواضع سوق الشّعر بعامّة وانفضاض المجتمع الثّقافيّ من قرّاء ونقّاد وناشرين عن الشّعر والشّعراء. يبين نصر الله لمحاوريه أنّه كتب الرّواية قبل الشّعر، ولكنّه نشر الشّعر قبل أن ينشر أوّل رواية كتبها، لقد كان يدافع عن روائيّته، وليس عن شاعريّته، وربّما شعر المرء أنّه يتأرجح بين الصّفتين، ويريد الاحتفاظ بهما، مع أنّه أميل للرّواية أكثر، وهذا واضح لأنّه بنى مشروعا روائيّا واضح المعالم، وسخّر إنتاجه الأدبيّ لهذا المشروع الّذي أطلق عليه «الملهاة الفلسطينيّة»، ويعمل عليه منذ سنوات، في حين ظلّ الشّعر يتيما في حضرته دون أن يشكّل مشروعا موازيا، وكأنّه تحوّل إلى مجرد دفقات شعوريّة ترفيهيّة ليس أكثر، ولعلّ هذا هو السّبب الّذي حدا بنصر الله أن ينشر مؤخّرا ديوانا من شعر الحبّ، وكأنّه يرمّم صورة الشّاعر في داخله، أو يحاول رثاء فنّ قد توفي فيه منذ رضي مفارقته إلى فنّ الرّواية، هذا الفنّ الّذي أضحى فرصة أكبر للثّراء الماديّ والشّهرة، وتمدّد السّلطة الإبداعيّة للكتّاب. لعلّ القارئ سيلاحظ مثلا أنّ أحد محاوريه، وهو يصوغ السّؤال بهذا الشّكل كان يرى تواضعه كشاعر: «لديك اشتغالات إبداعيّة متعدّدة إضافة إلى كتابة الرّواية، كالفنّ التّشكيليّ، والشّعر، كيف تستثمر هذه الفنون في نصّك السّرديّ؟» ألم تلاحظوا معي أنّ الشّعر لدى نصر الله في وعي المحاور ليس أكثر من هواية كالفنّ التّشكيليّ، بل إنّ الفنّ التّشكيليّ مقدّم على الشّعر، ونصر الله لا يُعرف أنّه فنان تشكيليّ لتتنازع هذه الصّفة مع صفة الشّاعر؟ إضافة إلى أنّ المركزيّة في السّؤال تدور حول الرّواية، وأنّ هذه المواهب الإضافيّة من الفنّ التّشكيليّ والشّعر مسخران لخدمة الرّواية. إنّ هذا الالتباس في شخصيّة كاتب وأديب معروف، تتنازعه صفتان كلّ واحدة تشدّه نحو الأخرى، ولم تعودا متعايشتين كما يريد الكاتب أن يقول حتّى لو مجّد الشّعر بإجاباته عن أسئلة أخرى يرى فيها «الشّعر عافية العالم»، فالحقيقة الّتي يراها القارئ العربيّ ضمور الشّاعر وتلاشيه، وإن حضر فحضوره هامشيّ لصالح الرّواية؛ فكم قارئا مثقّفا إلّا القلّة القليلة، يعرف دواوين إبراهيم نصر الله أو يعرف أنّه شاعر أصلا؟ في حين يعلم هذا القارئ أغلب روايات نصر الله، إن لم يكن كلّها، وقرأ معظمها وأعجب بها، ويسعى إلى الإقبال عليها واقتنائها، بل كم ناقدا توجّه إلى مسيرة الشّاعر إبراهيم نصر الله بقراءات ومراجعات نقديّة، بالقياس إلى تلك القراءات النّقديّة المتكاثرة حول عالمه الرّوائيّ المتعدّد والثّريّ، وخاصّة بعد منافسته على جائزة البوكر العربيّة ووصول بعض رواياته إلى القائمتين الطّويلة والقصيرة، وبعد فوزه بجائزة كتارا للّرواية العربيّة المنشورة؟ هذه حالة من حالات متعدّدة، في مسيرة الشّعراء، فكثيرون قد انقلبوا على الشّعر، وخانوه خيانة عظمى، وطعنوه في مقتل، وابتعدوا عنه وهو ينزف، فشاعر مثل المتوكّل طه، وهو معروف كشاعر يصرّ على أن يفارق صفته ليدخل السّرد، مزاحما الكتّاب على صفة الرّوائيّ، وربّما المنافسة أيضا على الدّخول إلى قوائم الجوائز العربيّة، فبعد أن أصدر المتوكّل رواية «نساء أويا» و»رامبير حفلة تنكّريّة»، وأخيرا «شهد النّار نصوص الجسد» يبتعد المتوكّل طه خطوة بعد أخرى عن الشّعر، وهو بذلك يساعد على ضياع شخصيّته الشّعرية الّتي عُرف بها، إذ كان صوتا شعريّا مقاوما معروفا في أوساط الدّارسين بهذا، ولم تخل دراسة أو مختارات شعريّة عن «شعر المقاومة في جيله الثّاني» إلا وللمتوكّل فيها ذكر. عدا أنّ شخصيّة المتوكّل طه الأدبيّة تعاني من ضياع مضاعف في أنّه انضم إلى «السّلك الأكاديميّ النّقديّ»، ما يعني أنّه أصبح منظّرا وناقدا يشتغل على النّظريّات أكثر من الإبداع، ويقوم بتقديم الكتّاب في حفلات توقيع الكتب، ما يجرّه ذلك إلى نوع من المجاملات المحسوبة عليه بكلّ تأكيد، وفي هذا تأثير كبير على طزاجة المبدع الفطريّة الّتي تحتكم إلى منطقها الخاصّ غير الخاضع للنظريات، بل إنّ كلّ تجربة إبداعيّة حقيقيّة تخلق شروطها النّقديّة الّتي تجبر النّقّاد على الانصياع لشروطها، وتجعلهم حيرى أمام هذا العمل الأدبيّ أو ذاك، وهذه المسألة تذكّر بظاهرة «الشّعراء العلماء» في التّراث العربيّ القديم، الّذين جاء شعرهم ضعيفا بالمقارنة بشعر الشّعراء، فكيف لك أن تقارن نقديّا بين شعر الشّافعيّ الفقيه الأصوليّ والفرزدق مثلا، أو بين شعر ابن حزم الأندلسيّ وشعر لسان الدين بن الخطيب؟ والمسألة ذاتها ما زالت محل طرح نقديّ معاصر في ذلك الأدب الّذي ينتجه الأكاديميّون، والصّعوبة البالغة في وصول أحدهم إلى إحراز إنجاز أدبيّ مميّز لأنّه سيظلّ مشدودا في لاوعيه إلى نظريّات تعلّمها، ولها سيطرتها المخفيّة على شخصيّته الأدبيّة بوجه عامّ، أدرك الكاتب ذلك أم لم يدركه. هذان نموذجان شعريّان مكرّسان في الشّعر قبل الرّواية، وهناك الكثيرون مثلهما، فما هي حال المتطفلين السّاعين إلى ممارسة أكثر من نوع أدبيّ وهم في بداية مسيرتهم الأدبيّة، فلا شكّ في أنّ هذه الإشكاليّة أكثر حضورا، لتساهم في ضياع الشخصيّة الأدبيّة أكثر فأكثر، لنرى كتّابا مفتّتين عديمي الشّخصيّة الأدبيّة فيما يكتبون، فلا هم شعراء ليعرفوا بالشّعر، ولا هم روائيّون ليعرفوا بالرّواية، وبالتّأكيد فإنّهم ليسوا نقّادا بارعين؛ ليعرفوا بالنقد، ولعلّ هذه الإشكاليّة ستساهم في انعدام الشّاعر الحقيقيّ، والرّوائيّ الفذّ والنّاقد الّذي يتربّع على عرش النّقد، كلّ في فلكه غير متنازع عليه في صفة الانتساب لواحد من الفنون التّجنيسيّة ليعرف بها، ويكون فيها علامة مميّزة.