كثيراً ما نَسْتَكِين للمفاهيم السَّائِدَة، نَطْمَئِنُّ لِجَريانِها على ألسنَتِنا ونحن نتكلَّم، وبين أيدينا ونحن نكتُب، دون أن نُجَشِّم أنفُسَنا مَشقَّة السُّؤال بصددِ صلاحِيتها، أو قابِلِيَتَها لِعُبور الأزمنة، والأجْناس، أو أشكال الكتابة التي باتَتْ اليوم على غير ما كانت عليه قبل عصورٍ ليست ببعيدةٍ عَنَّا، فما بالُنا بما هو ناءٍ اليوم، لا نِصِل إليه إلاَّ في ما بَلَغَنا من كتاباتٍ، وشهاداتٍ، وأقوالٍ، أو ما ترسَّبَ في عُمْق وُجودِنا، هذا الذي أصْبَحْنا فيه في مواجهة سَيْلٍ هائلٍ من المعارف، ومن الاختصاصاتِ، ومن قنوات المعلومات التي لا ضابِطَ، ولا حَصْر لها؟. في كُلّ حقول المعرفة نعيش هذا الكَسَل، الذي هو، في جوهره، عائقٌ أمام قَلَقِنا، الذي هو الدّم الذي يُنْعِش فينا، وفي عقولنا، الحاجة إلى «تذكير النِّسيان» بتعبير فوكو. باتَتْ اليوم تَسْمِيَة «فِكْر» أو «مُفَكِّر» هي ما نتداوَله، ونُطْلِقُه بِسَخاء على كُل مَنْ جاؤُوا من حَقْل الفلسفة، أو كانوا، في أصلهم، طلبة فلسفة. فهل يعني هذا أنَّ الفلسفَةَ احْتَجَبَتْ، وتوارَتْ، وتركَتْ المِقْوَد للفكر؟ ثم ما الذي نعنيه بتسمية المشتغلين في هذا الحقل بالمُفَكِّرِين؟ هل معنى هذا أنَّهُم، هُم، بدورهم قَبِلُوا بهذه التسمية، وارْتَضَوْها كاختيار، أم أنَّهُم لَبِسُوها دون أن يَقِيسوها على مقاس ما يكتبونه، وما يقولونه، وما عندهُم من أفكار ومشاريع، أم أدْرَكُوا، قبل غيرهم، أنَّ زمن التَّفَلْسُف انتهى، وأنَّنا اليوم نُفَكِّر فقط، لأنَّنا نعيش على فكر، وعلى مفاهيم، ومشاريع أولئك الذين كانت الفلسفة في زمنهم تعني الاخْتِلاق، ونَحْت المفاهيم والأفكار، أي تَفْكِيرِها دون وَساطات، أي في الهواء الطَّلْق؟. هايدغر رأى أنَّ التَّسْمِيَة تَمَلُّك، ووفق هذا المعنى، مَنْ سَمَّى؟ وَمَنْ كانت له رغبة في أن يتَمَلَّك، وما الذي رَغِبَ في تَمَلُّكِه، حين جرَّد «الفلسفة» من «التَّفَلْسُف»، أو أفْرَغَها من فَتِيلِها، لتبقى سِلاحا بدون جَدْوَى، أو أنَّ رصاصَه أبيض، كما يُقال. صحيح أنَّ ثمَّة مِنْ فلاسفة الإغريق، وربما، حتَّى مَنْ كانوا قبل سقراط، هؤلاء الذين كشف نيتشه عنهم الحِجاب، تواضَعُوا أكثر من اللاَّزِم، ولَمْ يَحْتَمِلُوا التَّسْمِيَة، أو حاولُوا التَّفَلْسُف بعيدا عن التسميات، ولكنهم، في جميع الحالات، كانوا فلاسفة، بما وَضَعُونا فيه من مآزِق، وبما بَثُّوه فينا من قلق، وبما تَعلَّمْناه منهم من دِقَّة في تَصْوِيب نَظَرِنا، ومن تأمُّل، وبَحْثٍ، ووضع اليِقِين في آخر السَّطْر، ليكون الشَّكّ هو ما نبدأ به، قبل أن نصل إلى ما قد نعتبره ال»حقيقة» التي سَعَيْنا إليها. وصحيح أنَّ فوكو، وغيره، كانوا يُصَرِّحُون بأنهم ليسوا فلاسفة، ولكن، هل نستطيع نَفْيَ هذه التُّهْمَة عنهم، فهي لاصِقَةُ بهم، تأكُل منهم حياتَهُم، وستظل تُطارِدُهُم، حتَّى وهُم يغادِرون وُجودَنا المادي أو العيْنِيّ الملموس. وأستطيع، في هذا السِّياق، أن أتساءل مع المُتسائِلِين، ممن لا يستقرُّون على قَناعاتٍ مُطْلَقَة ونهائية، هل العروي، مثلاً، مؤرخ، أو مفكر، أو فيلسوف؟. والراحلون، محمد عزيز لحبابي، ومحمد عابد الجابري، وأيضاً من هُم على قَيْد الحياة، محمد وقيدي، عبد السلام بنعبد العالي، محمد المصباحي، سعيد بنسعيد العلوي، طه عبدالرحمان، هؤلاء، وغيرهم.. مَنْ هُم؟ هل هُم مُفَكِّرون أو فلاسفة؟ وما الذي يجعلنا نَضَعُهُم في صِفَةٍ، وننفي عنهم أخرى؟ ثم هل الفلسفة مرحلة تلي الفكر، أم تسبقه، أم هي تسمو على كل هذا، وستبقى، في زمننا الذي دخَلَتْ فيه «الفلسفة» الشِّعرَ والأدبَ، وأصبح الشَّاعر يُضِيء عَتَمات «الفيلسوف»، كما في وضع هايدغر، هي أعز ما يُطْلَب؟. نفتح الجُرْحَ فقط، ونودُّ، لو أنَّ الذين يعنيهم قلق التسمية، والتباساتها، أن يُضِيئوا لمن يُرافِقُونَهُم، أو يقرؤونهُم، بعض ما ساد من التباسٍ في شأن السؤال، أفلاسفة هُم، أم مُفَكِّرون؟ وما يكتبونه، وينشرونه، ما جِنْسُه، ما لَوْنُه، وما طَعْمُه؟. ثمَّة ما يكشف لحظات القلق والتَّوتُّر الذي انْتاب هؤلاء، ممن هُم من داخل البيت، لكن، ما الذي يقولُه غيرهم بهذا الشأن؟. حتَّى حين يَلْتَمُّ الجُرْحُ، فدائِماً ثمَّة ما يَدُلُّ على حُدُوثِه، أعني، ذلك الثَّلْم الذي يسكُن الجَسَد، ويَسْتَقِرُّ فيه إلى أن يتوارى الجَسَد بما يَحْمِلُه من شُقُوقٍ وتصدُّعاتٍ، أو يَسْتَحِيل، بالأحرى، إلى ترابٍ. حجاب التجربة أو لماذا لم نفكر بعد؟ ثمة سؤال محرج لنا نحن – المنشغلين بالفلسفة- ، سؤال يَقُضّ عقولنا المنبهرة بالتجارب الفلسفية الكونية، التي نجد أنفسنا مهتمين بإنجازاتها الكبرى، منهمكين باستعادتها، فلا يبلغ أقصى جهدنا واجتهادنا سوى إعادة صياغتها، من غير أن تبلغ بنا الجرأة إلى ولوج عتبة تجربة التفلسف، بما هو عتبة الإبداع الفلسفي؟. ربما تكمن علة هذا الأمر – في منظوري الشخصي- في ما أسميه «حجاب التجربة». فما معنى «حجاب التجربة»؟. يعبر «حجاب التجربة» عن وضعيتي التالية، بما هي وضعية- مشكلة -، كوني إنسانا ينتمي إلى جماعة الإنسانية وإلى أفقها الفكري وإلى تراثها العقلي الحالي، والذي أعي صيرورته عموما أو أعي جزءا من تجلياته في صيغ تجارب فلسفية بعينها، غير أني بالرغم من كل هذا التفاعل، لا أجرؤ على التفكير، بل على التفلسف. وضعيتي الحالية هي وضعية المنفعل الذي أقصى ما يفكر فيه، إنما هو ما ثم التفكير فيه سلفا، ومن ثمة فأنا ما زلت بعد مفصولا عن قدرتي على التفكير بما هو شكل جديد لتجربتي الروحية. حجاب التجربة يقلص قوتي على التفكير، فلا يجعل مني ككائن لم يفكر بعد سوى ذلك الباحث عن موضع لا يحقق سوى مهارتي في استقبال المفاهيم الفلسفية، دون أن أتمكن من تلمس طريقي نحو التجربة، نحو الفعل الذي ينتشل قوتي من نمط انفعالها أو تأثرها السلبي، ويفعل قدرتها على تجريب نمطها الفلسفي، بما هو نمط غير مسبوق من الإبداع. إذن «حجاب التجربة» هو ما يعبر عن موقف اللاتفلسف أو العجز عن التجربة الفلسفية، ثمة شيء ما يحول دون ولوج التجربة، يجعلني لا أقف سوى عند حدودها العازلة، وهو شيء يشبه إلى حد ما «حجاب التنوير» بما هو اكتفاء بما اكتسبته فقط من تعلُّم الأفكار الفلسفية، من غير أن أتمكن من تفعيل ما اكتسبته من موارد فلسفية في حل المشكلات التي ما تفتأ تتجدد باستمرار، أي المشكلات التي تضعني مباشرة أمام محك التجربة. وضعيتي الحالية هي وضعية قصور فكري، فأنا لم أجرؤ بعد على التفكير. معنى ذلك أن التجربة الفلسفية تبدأ من حيث أتجاوز لحظة القصور، فأغدو راشدا يتفلسف. يتعلق الأمر بتحويل ضروري وجريء لسيرورة تعلم الفلسفة، يقتضي الدخول في مغامرة التفاعل مع الموارد الفلسفية، من أجل توظيفها باتجاه حل مشكلات عالم العيش، بحيث يغدو المعيش ذاته موضوع تجربة فلسفية. إذن فالمتفلسف هو من ينطلق من «المعيش» اللافلسفي، فيتناول هذا الوجود باعتباره موضوعا للتفلسف، فتصير الفلسفة اختبارا لما يعيشه انطلاقا من اليومي. غير أنه وهو يحيل هذا الاختبار إلى تجربة فريدة للتفكر، فإنه يدشن لأسلوب جديد في أفق الفلسفة. وهكذا فالتجربة كما يقول بلانشو بصدد باتاي، هي التفكير في ذاك الذي لا يفكر فيه. « الفكر يفكر أكثر مما يستطيع التفكير، في تأكيد يؤكد أكثر مما يمكن تأكيده، هذا الأكثر هو التجربة التي لا تؤكد إلا بزيادة التأكيد، والتي تؤكد، في هذا الفائض، بدون شيء يتوكد، وبالنهاية لا تؤكد شيئا، إنها تأكيد ينجو فيه كل شيء، وينجو هو نفسه من الوحدة. حتى إن هذا هو ما في وسعنا إعلانه بشأنها : إنها لا تُوحِّد ولا توَحَّدُ، ومن هنا تبدو أنها تؤدِّي بالأحرى من جهة المتعدد. وبفضل ما يمسه جورج باطاي «الحظ» : كما لو أنه لتأديتها، كان لابد، ليس فقط من محاولة تسليم الفكر للمصادفة، بل من تسليم أمرنا للفكر وحده الذي يرسل أيضا، في عالم مُوحَّد مبدئيا ومجرد من كل مصادفة، ضربة نَرد مفكرًا بالطريقة التأكيدية الوحيدة على مستوى التأكيد الصرف : تأكيد التجربة الداخلية. ولذلك يسمى باطاي التجربة بسفر نحو حدود إمكانات الإنسان. بإمكان أي امرء أن لا يقوم بهذا السفر غير أنه في حال قيامه به، فذاك يفترض نَفيْ السُّلط، القيم الموجودة التي تحد من الممكن، ومن حيث أن التجربة نفي لقيم ولِسلط أخرى، فإن لها وجود توكيدي يصبح هو ذاته القيمة والسلطة. يتطلب الأمر نوعا من الجرأة الضرورية التي تقتضي مقاومة ما نسميه «حجاب التفلسف» الذي يحول بين الإنسان وإمكاناته اللامحدودة في التفكير. ومن ثمة فالتجربة كما يقول بلانشو هي «هذه الضرورة، فهي غير موجودة إلا كضرورة، وبصفتها هذه لا تعتبر أبدا ناجزة، بما أن أي ذكرى لا تستطيع تأكيدها، وبما أنها تتجاوز كل ذاكرة، وبما أن النسيان هو وحده على مستواها، النسيان الهائل الذي يحمله الكلام». كما تجيب التجربة الجوانية، يقول باطاي عن «الضرورة التي أوجد فيها- الوجود الإنساني بمَعية أناي- بوضع كل شيء موضع تساؤل من غير هوادة. وهذه الضرورة لها دورها بالرغم من العقائد الدينية، غير أن لها نتائج أكثر شمولية من تلك العقائد. تضع الفرضيات القبلية الدوغمائية حدودًا للتجربة : فالذي يَعْلم سَلفا لا يمكنه الذهاب إلى ما وراء الأفق المعلوم». ما نتوخاه هو أن تقود التجربة نحو ما تمضي إليه، وليس نحو هدف معطى سلفا، أي أنها لا تقود نحو أي مأوى بل إلى موضع التيه، واللامعنى. فمبدأ هذه التجربة هو اللا- معرفة الذي تولد فيه وتدوم». يمكننا أن نؤول انطلاقا من «باطاي» المعرفة المعطاة سلفا بأنها عائق نحو التفلسف بما هو التجربة ذاتها، هذه المعرفة هي التي تضع «حجاب التفكير» فيما يمكن أن يفكر فيه، ومن ثمة فالتفلسف مغامرة تقتضي نسيان المعرفة الجاهزة بشكل قبليْ من أجل اختيار إمكانياتنا الفريدة في التفكير، فلا يمكننا أن نجرب الفكر، ونحن نقف عند حدود ما أنتجته أنساق المعرفة التي تشكل أفقا غدا مهيمنا على عقولنا. فالتجربة بما هي تفلسف تبدأ من حيث تُحفزنا اللامعرفة على اختبار إمكانية ما لم نفكر فيه بعد بوصفه حدا لم يَتعين بعد في المعرفة، حيث يولد تفكير جديد، وحيث ينتصب الفكر بوصفه موضع التجربة الذي يدعونا إلى اللحاق به كإمكانية وحيدة قوتنا من نسيج المعرفة المعطاة لنا والتي نستكين لها ولإنجازاتها ولكنها تصيرنا مسلوبي القدرة على استئناف طريق الفكر اللامتناهي. ذلك لأن المعرفة مَهْما انكشفت معالمها تظل هي علامة لا تشير إلى حد مكشوف، فهو ما يتعذر عن الحد، بوصفه لا محدودا ولا متناهيا في ذات الوقت، أما الجانب المنكشف فيه فهو ليس إلا معرفة، وما لا ينكشف هو الفكر بوصفه موضوع التجربة اللامتناهية. ومن ثمة نستطيع أن نقول بعبارة هيدغرية : لَمْ نفكر بعد. أي أن إمكانات الفكر تظل دائما غير قابلة للاستنفاذ، بما هي إمكاناتنا وهي غير مطابقة لهدف أو غاية، وما هو متوارٍ في الفكر محجوبا عنا ما يفتأ ينادي إمكانيتنا في تجريب قدرتنا على أن نفكر انطلاقا من صيغة تشكلنا في الوجود باعتبارنا أحوالا وكيفيات للوجود. وبما أننا لسنا مجرد ماهيات، بل أنماطا، فإننا بوصفنا كذلك نعيش في التجربة، ونعيشها بما هي توجه نحو ما يجب التفكير فيه، وما يجب التفكير به هو الذي يمنح كينونتنا بعد المستقبل والذي نمنحه بدورنا بعد الحاضر، بما أن تجربتنا هي التي قادته باتجاهنا. فنحن لن نغدو متفلسفين حقا إلا بقدر ما نتمكن من تجربة ما يجب التفكير فيه أي هذا الذي بإمكاننا اقتطاعه من سَديم الفكر اللامتناهي، هذا الذي يمنح لتجربتنا بعد التأسيس لأنماط متجددة في الفكر. إذن فهل سنستعيد تجربة الفكر التي من شأنها أن توقظ نمط الفكر في كينونتنا؟ أم أننا سنظل مجرد أنماط لتجربة الرأي أو الدوكسا، والتي لا تخلق منا سوى موجودات تدعي أنها كائنات مفكرة، في حين أنها ليست سوى كائنات منفكرة بالرأي ومألوف الاعتقاد؟. قناع الفيلسوف عادة يخشى الفلاسفة نعتهم بالفلاسفة. هل هو تواضع؟ أم خجل؟ أم قناع؟ كان فوكو لا يمل من القول: «أنا لست فيلسوفا. وإذا كانت الحقيقة هي مبتغاي فأنا رغم كل شيء فيلسوف». هذا التردد بدأ مع بدايات التفلسف لما قال فيتاغورس: «أنا لست صوفوص (حكيم) إنما أنا فيلو/ صوفوص (محب أو صديق للحكمة). تباعدت المسافة كما أرادها فيتاغوراس بين الآلهة (الحكماء/ الفلاسفة) وبين المحبين (الأصدقاء/ المريدين) تواضعا وتقلصت فيما بعد حتى أصبح الفيلسوف حكيما.. وضاعت المحبة، محبة المفهوم كالمثال والخير المحرك الأول أو تلاشت.. وأضحى الفيلسوف سفسطائيا يخطب ويحاجج ويرافع وينخرط في الشأن العمومي وبات الإنسان «مقياس ما يوجد وما لا يوجد» في الوجود. من هو الفيلسوف؟ هل هو ذلك الذي يعيد اجترار قول الفلاسفة؟ أم ذلك الذي يبحث عن المفهوم ويبدعه؟ أم هو الذي يقتحم الفضاءات ويقود الجماهير؟. في الأندلس انحاز الفيلسوف أبو الوليد بن رشد إلى مدرسة المفهوم «الوجود من حيث هو وجود»، واختار المشائية فلسفة «السماع الطبيعي» و»فصل المقال..»، وتحول السفسطائي إلى عالم للكلام (الحسن البصري وأبو الحسن الأشعري) بجداله، وسفسطته في صفات الله وعدله.. بعدها غاب الفيلسوف وأحرقت كتبه (محنة العقل) إلى أن ظهر في المغرب الحديث الفيلسوف محمد عزيز الحبابي. وكان لا بد من رتق قناع الفيلسوف بقناعات جديدة وجمة. لا مفر من تمثيل دور الفيلسوف والتلبس بأدواره. يشكل هذا الرتق، لا الترميق، وهذا التمثيل لا التقليد، كل المتن الفلسفي المغربي.. ما هي طبيعة هذا المتن؟ هل هو تاريخي أم تأويلي؟ إبداعي أم اتباعي؟ تشابكت في التاريخي أسباب تأريخ الفلسفة وتدريسها وتعليمها. وكان التفكير في تاريخ الفلسفة هو الفلسفة، كما كانت الخلاصات ومشاريع القراءات والأطاريح التأريخية هي هي، إلى حدود التاريخانية وتآلف التأويلي بالأكاديمي، وبات التحقيق في التراث فلسفة سمي تارة بالتأويلية والتداولية وأحيانا بالهرمنوطيقا.. ولما رجع الديني أو تراجعنا نحو الدين تفكيرا سمي «فلسفة الدين» وظهر حُذاءها جنس «علم الكلام» مرة أخرى.. هكذا في كل هذه الحالات كان قناع الفيلسوف يظهر في شكل المؤرخ تارة، والمؤول للفلسفة والعلوم الإنسانية تارة أخرى، والمدرس للفلسفة في الكثير من الأحيان . نحن في حاجة ماسة إلى الفيلسوف المبدع، صاحب المفهوم. كان يحلو لجيل دولوز أن يميز بين المهن وفق الصداقة والمحبة.. هكذا كان النجار صديق الخشب، والخزفي صديق الطين، والفيلسوف صديق المفهوم. من هنا تعريفه للفلسفة باعتبارها «إبداعا للمفاهيم». ذلك أن الفلاسفة الكبار يعرفون بما يبدعون من مفاهيم: أفلاطون والخير الأسمى، أرسطو والهيولى، ديكارت والكوجيطو، هوسرل والإبوخي، هايدجر والدازاين، نيتشه والعود الأبدي، ديريدا والاخت (لا) ف، دولوز/ غاتاري والجذمور وهلم جرا… ولا يتوقف إبداع هؤلاء الفلاسفة عند حد المفهوم الواحد، بل لكل واحد منهم العديد من المفاهيم والتصورات والتمثلات الخاصة به المميزة له. نحت المفهوم يتجاوز كفاية التفكير، ذلك أن الفيلسوف ليس مفكرا فقط.. كل من يكتب فهو مفكر لأن خاصية الإنسان التفكير «أنا أفكر إذن أنا موجود» كما قال ديكارت و»أنا أفكر.. حتى لو كنت مجنونا» كما أضاف فوكو.. فالجنون تفكير مغاير (فوكو، أرطو، نيتشه). كان تفكيرهم مختلفا، لكن ليس التفكير ولا المختلف والمغاير، هو الذي جعل منهم فلاسفة، بل قدرتهم على إبداع المفاهيم انطلاقا من تفكيرهم وتفردهم. وتلك المفاهيم ما هي في حقيقة الأمر سوى نوافذ فكرية وتمثلات تصورية لآفاق إنسانية جديدة مبتكرة ومكثفة، تستبدل اللغة العادية (العامية) أو المثقفة (الفصحى) بلغة الفلسفة بأسئلتها وإشكالاتها واستشكالاتها. لم يفكر الفلاسفة إلا في الأمور العادية واليومية حتى لا نقول المبتذلة. هكذا لم تخرج فلسفة نيتشه عن موضوع الجسد وميولاته والحياة وعيشها والحواس والإرادة. ولم يفكر فوكو إلا في السلطة، في السجون، في اللغة، في المصحات النفسية والإعلام.. كما لم يفكر ليفيناس سوى في الوجه والغيرية والهناك والأثر… واقتطعوا منها إبداعا مفاهيميا مائزا. للأسف ما زلنا في المغرب والعالم العربي نفكر من خلال الفلاسفة لا الفلسفة ونكتب تاريخ الفلسفة أو تاريخ العلوم، وما زلنا نتفلسف ضمن فلسفة الفيلسوف، أي ما زلنا نرتدي أقنعة الفلاسفة.. أما حان الوقت لإزاحة القناع قليلا؟ ويظهر الفيلسوف… من أجل فكر ساخر من الفيلسوف اليوم؟ أو من المفكر؟ سؤال يدعونا إلى أن نتأمل من أي فهم للفكر ينبغي أن نطرق هذه المسألة التي تتعلق بما يكونه الشيء في ماهيته والعالم قد اكتسحته التقنية؟ أمفكر أم فيلسوف أو سؤال دور المثقف، في إطار هذا العالم، قضية جوهرية بالنظر إلى الوضع الاعتباري المتبقي لسلطة الذات المفكرة أمام العصر. إذا ما طرحنا هذه القضية بإشراك مارتن هيدجر معنا في هذا التأمل سيقول إن «الخاصية الجوهرية للفكر… ما تزال محتجبة». بالنسبة لنا، كيف يمكن أن نفهم هذا القول أمام الكلام الكثير في الندوات والكتابات التي تنتسب إلى الفلسفة؟ هل معنى هذا أن اسم الفلسفة لا يعادل اسم الفكر؟. بالنسبة لهيدجر لا يمكن لماهية الفكر أن يختزلها هذا الذي نسميه عادة فلسفة. ذلك أن هذا المفكر يعادل بين الفلسفة والميتافيزيقا والأفلاطونية، فيما هو يميز بين هذه الأسماء، وهذا الذي ينبغي أن نسميه فكرا بالفعل. الفلسفة أو الميتافيزيقا أو الأفلاطونية، كيفية واحدة في التفكير لها منحدرها وتاريخها ومقولاتها المؤسسة لها. هذه الكيفية في التفكير شهدت على ميلاد «الإنسان العارف» أو «الفيلسوف» وكان معه ميلاد الغرب وما اعتدنا على تسميته فكرا غربيا. منذ بدايتها أسست هذه الكيفية في التفكير نفسها على نظريتين، هما نظرية المنطق ونظرية النحو، وعلى مقولة رئيسة هي مقولة النظر ترجمة للثيوريا. كما أسست فهما محددا للكتابة، ليضحى التفكير نظريا يشتغل بالمفهوم، وبهذا الفهم والاشتغال حصل اختناق للوجوس وتعبدت الطريق للتصحر الذي ندد به نيتشه. مع هذه التجربة الميتافيزيقية في التفكير، وطيلة مختلف عصور تاريخ هذه الميتافيزيقا، لم تعد الحقيقة تتراءى إلا من داخل شفافية المفهوم ووفق مبادئ نظريتي النحو والمنطق وقواعدهما. يعلمنا تاريخ الفلسفة أن هذه العصور الميتافيزيقية الكبرى التي أمست شارطة لما يكونه الإنسان في كل لحظة زمنية منها، قد تكلمت فيما قاله عباقرتها عبر المصطلحات التي ميزت كل واحد منهم، بدءا من الأب الروحي أفلاطون إلى فيلسوف مبدأ السبب أو من يعتبر أبا للحداثة الفلسفية، وبعدهما كانط وهيجل وآخر هذا الطريق فيلسوف المطرقة. مع هذا الطريق الجارف، بوصفه كيفية في التفكير رسمت الصنافات التي حددت أجناس الأقاويل ورتبتها بالقيمة والشرف، ليسير كل من يتعلم فعل التفكير مع هؤلاء العباقرة منجرفا في طريق واحد الاتجاه، لا يعرف سوى مقولة واحدة تعادل مقولة الفكر، وهي مقولة التمثل، كما يفهم أن المعرفة أداة لحصر حقيقة الموجود من أجل السيطرة عليه. ونحن نعرف ما ذهب إليه أب الفلسفة الحديثة من أن المعرفة، وبالخصوص العلمية منها، ستجعلنا سادة على الطبيعة باختزالها للواقع إلى مسألة تمثل تقوده قواعد المنهج. أما ما لا يدخل تحت سلطة التمثل فهو آخر الواقع، وسميه ما شئت مادام لا يقبل الموضعة. هذه الكيفية في التفكير ردت ماهية الفكر إلى إرادة للمعرفة تتوسل بخوارزميات ومنطق وتقنية ليتكلم لغة الحساب الرياضي. كانت هذه الكيفية في التفكير تجربة للتيه والنسيان حصل معها احتجاب أو توار للخاصية الجوهرية للفكر. وهي المسألة التي جعلت الفكر المعاصر لا يقبل ما ذهب إليه مفكر التقنية في تصريح مستفز يفيد أن «العلم لا يفكر». وهو حكم مستفز بالفعل لأنه على الرغم مما حققته المعرفة العلمية من نتائج على مستوى السيطرة على الطبيعة وعلى الإنسان نفسه، فهذه الكيفية في التفكير لا تفكر. بهذا الموقف المتهم للعلم ستتحدد مهمة الفكر في تأمل ما حدث : «النسيان المتيه». تأمل ما حدث بوصفه ما يبعث على التفكير اليوم، ما فتئ ينادي منذ زمن بعيد لكي يتم التوقف من أجل إعادة التأمل فيما فعلته تجربة التفلسف، وبذلك يكون الفكر مُنْهَمِماً بالجهة التي يأتي منها النداء، الذي يفيد أن الإنسان لم يتعلم سوى كيفية في التفكير شكلت الخطر الأكبر على الفكر. الاستماع إلى هذا النداء هو ما يسعف على تعلم الفكر. وهو ما يفسر أن الفلسفة المعاصرة قد أخذت على عاتقها إعادة التأمل في مجموعة من المفاهيم التي تحولت إلى معتقدات بحكم الاستعمال والتداول بدون أية مساءلة. يمثل سقراط تجربة فريدة في تاريخ الميتافيزيقا بوصفه مفكرا متميزا. لقد واجه مصيره طيلة حياته إلى أن تم الحكم عليه بالقتل. ما يمنح التفرد لهذه التجربة في الفكر هو أنه لم يكتب. وهو ما يعني أن تجربة الفكر كانت مأساوية إلى درجة أن «اليد» لم تتمكن من الحركة من أجل الكتابة. ظل هذا المفكر متكلما فقط. لكن ما معنى الكلام هنا؟ إنه الحوار المفكر الذي يعتمد استراتيجية السخرية. ربما فطن الرجل بخبث الكتابة معتبرا إياها «ملجأ» كل من ينسحب هاربا من العاصفة. كان الفكر مع سقراط فكرا ساخرا هدفه الأساس هو خلق الارتباك في ما يبدو له «معتقدا» وليس مجرد فكرة لدى محاوره. يريد الفكر الساخر، باستراتيجية التسآؤل والمراوغة، إفقاد الثقة لدى كل من يعتقد في نفسه كائنا رصين العقل. الفكر مع التجربة السقراطية، إذن، فكر يسخر من وهم الحقيقة، يفضح شفافية الوهم، حاملا في يده مطرقة. لتعلم الفكر اليوم، والعالم قد اكتسحته التقنية، ينبغي تعلم الاستماع إلى مثل هذه التجربة المتميزة باستراتيجيتها في المساءلة. وهذا يقتضي التخلص، ولو مؤقتا، مما أصبح «مسكنا اعتياديا» في فهم هذا الذي ندعوه فكرا واللحظة لحظة تمام الميتافيزيقا. ذلك أن الإنسان المعاصر يكابد اليوم تراجيديا أسلوب في التفكير ذي «طبيعة كونية»Planétaire ، ذلك أن هذا الأسلوب الكوني في الإدراك والفهم والقياس والتقويم والانفتاح على الموجود أحدث انقلابا أنطولوجيا أصاب كل شيء، انقلاب لحق مفهوم العالم وماهية الإنسان ومفهوم الزمان والمكان ومفهوم المعرفة والكتابة والحقيقة، أو قل أصيب الوجود ككل. لقد أضحت «إرادة قوة» هذا الأسلوب الميتافيزيقي في التفكير «طريق السرعة الفائقة ذات الاتجاه الواحد « صوب تدبير كل شيء في إطار مخطط للتنميط شمولي L'Uniformité. لنأخذ المعرفة العلمية الدقيقة، اليوم، وهي سمة من سمات هذه الكيفية في التفكير، سنلاحظ أنها تشتغل بوصفها «إرادة قوة» ذات فعالية وتمكن وتأثير على الموجود ككل. وتتجلى ماهية هذا الأسلوب في التفكير في مختلف مناحي التدبير، في السياسة كما في الاقتصاد وتنظيم المدن والحدائق وتنظيم الأسرة والمدرسة … الكل يتحدث بالكلام الواحد من حيث مفاهيمه: نجد مفاهيم التقويم والترشيد وتقويم التقويم والتخطيط والحكامة معتمدين في ذلك على لغة واحدة، وهي لغة الحساب الرياضي. هناك ميتافيزيقا فاعلة ملثمة خلف تلك اللغة وذاك الأسلوب في الفهم والانفتاح واتخاذ القرار، إنها ميتافيزيقا السيطرة والتحكم. لغة هذه الميتافيزيقا هي النافذة الوحيدة التي تتراءى من خلالها الحقيقة. نقول مع هيدجر إن سيطرة هذا الأسلوب في التفكير ذي الاتجاه الواحد هو وجه من وجوه سيطرة ماهية التقنية. لكن أين تكمن خطورة هذا الأسلوب في التفكير؟ إنها تكمن في درجة الكونية، التي بلغها ليغدو عصرا من عصور العالم استحال الفكر معه إلى مجرد «اعتقاد». ذلك أنه بحكم انتشار الصورة الواحدة والفهم الواحد واللحن الواحد والخطو الواحد والذوق الواحد، نتابع بألم ما ينكشف في شكل أجندة لمخطط كوني يرسم تصميمه بمنطق الثكنة والعسكرة للبشر، في مختلف بقاع المعمورة، ليدمج الكل في النمط الواحد للإقامة والسكن. خذ أمثلة من الواقع اليومي، تأمل معي الكلام اليومي في مختلف الفضائيات، وفي كثير من الجرائد والمجلات، ألا يصاب صاحبي بهول الكارثة، كارثة انتشار التفاهة وأشباه الاستفسارات الآخذة في صنع «إنسان الاعتقاد»؟ تأمل معي كذلك اللغة اليومية لشعب شبكات «التواصل الاجتماعي» أو «الشبكة العنكبوتية» ما عسى المتتبع أن يلاحظ؟ انتشار لغة (SMS). تصادفنا كذلك منطوقات من قبيل: TKPas، و»هذه سلوكات»les Ados ، «وغدا سأذهب إلىla fac «، والأمثلة لا تحصى في هذا السياق. أمام هذا الوضع الذي نتساكن معه وكأنه طبيعة لغوية ثانية للإنسان المعاصر، كيف يمكن فهمه؟ إنها بالجملة سمة من سمات ماهية هذا الأسلوب الكوني الجارف الذي أغلق الطوق على الجميع. أمام هذا الوضع الأنطولوجي الذي انقلب مع هذا الأسلوب الكوني في التفكير، وضع أمسى فيه كل شيء بدون معنى ولا قيمة، إلى درجة الشعور بافتقاد إمكانيات الانفلات. ماذا عسى، من ناداه هذا العصر للانخراط فيه، أن يفعل؟ السخرية كاستراتيجة فكرية هي إمكان الفكر، أو هي الخلاص من عبء اللامعنى. هذا ما ينبغي تعلمه. تعلم الفكر الساخر بوصفه إستراتيجية مضادة لما فعلته الميتافيزيقا. إستراتيجية تنهض على أذن وعين تمكنان من الاستماع إلى هذا الذي هو آخذ في الانكشاف عصرا. أما السؤال الذي تنهض عليه إستراتيجية هذا الفكر فهو: ما الوجود الإنساني؟ وأين تكمن شعريته؟. لكن أين سنلتفت لكي نتعلم الفكر الساخر؟ الأين المعني هنا هو التربة أو الأرض التي استنبتت فيها بذور هذا الفكر. ويمكن أن نجمل ونقول إنها تربة «مأساوية» ما فتئت تواجه مكر الوجود باستراتيجية ساخرة ذات لغة متميزة، وهي لغة اللمح والإشارة المعينة عوض تجريد المفهوم. هذه اللغة هي التي يستعيد معها الإنسان ماهيته الإظهارية. لنسأل أهل هذه اللغة عن منحدر القول، وهم الشعراء والفنانون ومفكرو الرواية؟. الإظهار يستمده أهل هذه التربة من لغة «الرباة»، التي تحيل على ما هو غريب وملتبس ومقدس باللمح والرمز. تجربة الالتفات صوب هذه الجهة من أجل التعلم خبره عباقرة الفكر، وأذكر هنا تجربتين، تجربة المفكر الذي لازالت صحبتي له على الطريق، وهو مارتن هيدجر، من خلال الحوارات التي عقدها مع الشعراء، متسائلا عن ماهية الشعر، أو من خلال انفتاحه على الفن من خلال السؤال عن منحدر العمل الفني. وكذلك تجربة مفكر الرواية المعاصر، صاحب «فن الرواية» وحواره لكل من هيدجر وكافكا. من خلال هذه الصحبة، كيف يمكن أن نعرض لبعض ملامح الفكر الساخر؟. لقد بين هيدجر أن خاصية الفكر الجوهرية هي الشعر، وهي الخاصية التي تكلمت في فكر الإغريق الأوائل، نذكر هنا بارمنيد وهيراقليط وسوفوكليس. ذلك أن ينبوع القول أو تسمية الأشياء بالنسبة لهؤلاء التراجيديين واحد هو الاستماع إلى نداء الحقيقة بما هو انكشاف، أو إلى هذا الذي ينكشف من دون أن يحضر في شفافيته؛ لتسود الحيرة واللبس وألم المكابدة ولو تطلب الأمر العمر كله. لذا لم يكن الانفتاح على العالم أو قوله ممكنين سوى إشارة أو لمحا، باعتماد رمز «الرباة» والأسطورة. على نفس الدرب تمكننا تأملات مفكر الرواية، من خلال ما وقف عليه في «فن الرواية»، أو من خلال حواره لكافكا، من تعلم هذا الذي نفترضه فكرا ساخرا: نكتشف مع هذه التأملات أن الكتابة الروائية مشتل لتعلم إستراتيجية الفكر الساخر. ذلك أن مصاحبة كتابتهما الروائية للتمكن من الوقوف على الكيفية التي تم بها الإظهار، إظهار مفارقات الوضع البشري الذي يعيشه الإنسان الحديث مع بيروقراطية الدولة الحديثة. كان ذلك من خلال تسليط الضوء على وضعيات يشعر معها المرء الدرجة القصوى من العبث أو اللامعنى الذي بلغه الوضع البشري الراهن، وكأنه يكتب وما يحرك اليد هو السؤال التالي: ما معنى أن يعيش الإنسان ضحية هذا الوضع الذي أمسى فيه كل شيء بدون معنى ولا قيمة؟ ما معنى أن يعيش المرء وضعية «الضحية»، ضحية اتهام، هو نفسه يجهل سببه؟ أو ما معنى أن تكون منذورا، في يومياتك، لأن تثبت براءتك؟. لكي يفضح الروائي إحدى زوايا الإيروتيكا الحديثة لا يوظف كانديرا عدة التفكير بالمفهوم، وإنما يشغل إستراتيجية لعبة الشخوص الوظيفية، الشخوص التي ستلعب أدوارا لخدمة سياسة الفكر فيما هو منفتح على الواقع. من خلال خلقه شخصية أعطاها اسم «ألان» حاول أن يظهر وجها من أوجه ثقافة الحداثة يتعلق بسؤال الجنسانية في الغرب، من خلال إبراز حالة افتتان هذه الشخصية بالثقب المستدير جهة الصرة العارية، متوسطا جسد المرأة، فاضحا بذلك ما آلت إليه ماهية المرأة من تشييء واختزال مع ثقافة الحداثة. نعيد التساؤل من جديد، ونقول: هل من تحديد لهذا الذي افترضنا له اسم «الفكر الساخر»؟. إنه فكر مأساوي يشتغل باستراتيجية سقراطية مقاومة، فكر يركز انهمامه على فضح المفارقات والأوهام التي قد تتربص به هو نفسه، فيما هو منفتح على الواقع الإنساني. يخلق التَّماسُف بينه وبين بداهاته ومسبقاته، ناشدا النسبية في كل شيء. على أساس هذه العلاقة بالذات، علاقة التبصر يروم الفكر الساخر التخفف من «حقائقه». ذلك أنه على وعي بالسر الملثم الذي يكشف جبروته فيما هو يرنو إلينا بسكون طرف في خبث اللغة وشظايا الواقع الملتبسة. يعتمد الفكر الساخر استراتيجية السخرية: أمام وضع يسود فيه اللامعنى و»الدوخة»، ما يتبقى سوى لذة السخرية من كل أنانية مسرفة تدعي الامتلاء والثقة في النفس أثناء التحليلات والتبريرات والمحاججات. وهو ما يطل علينا جزء منه في لغة «الخبراء في كل شيء»، اللغة الممتلئة بالحقائق، وخاصة لغة «بهلوانات شاشات التلفزيون» الذين أصبحوا وجوها معروفة، يعرفهم المتتبعون ماذا سيقولون قبل الكلام، يتكلمون في جميع القضايا بالثقة المسرفة في ثقتها. لا يأتيك مما يتكلمون بصدده سوى الكلام تلو الكلام. يجد الفكر الساخر نشوته في انشغاله بإظهار مسألة جوهرية، وهي أن القوى التي تمنح الدفء للإقامة على الأرض العماد، هي في خطر. لذلك يولي اعتبارا أكبر للاستماع بوصفه قوة لشق الدروب من أجل الحوار العميق مع جوهر الأشياء؛ لتكون الكتابة مع هذا الفكر، شقا للتَّلْم من أجل ترك العالم، بمفارقاته وشظايا حقيقته يأتيان صوبنا. وبهذا تكون الكتابة استجابة لتوليد البارادوكس فيما هي تتخذ ما يبدو حقيقة موضوعا للتهكم بالمساءلة الساخرة. على هذا الأساس تتحدد سياسة الفكر الساخر، باعتبارها مقاومة تقتضي العمل ب»عين» عوليس وأذن هيدجر من أجل الاستماع إلى نداء هذا الذي لا اسم له، ورؤيته من خلال ما تلمح إليه إمبراطورية لغته المولدة للتدلال. لأجل ذلك ينهمم الفكر بانعتاق العين والأذن من صدى الأفلاطونية، التي اختزلت الإنسان في الحيوانية، لكي يتمكن الكائن المعني بالحقيقة، من جهة، من الاستماع ورؤية الجمال من حيث هو اختبار آخر لهذه الأخيرة، ويمكن للأرض من جهة أخرى، أن تكون قابلة للإقامة. كتابة الفكر الساخر، إذن، استراتيجية مقاومة، ليس في يدها سوى مطرقة السخرية التي تروم «التهكم» من وضع بشري يزج بالأفراد في وحدة قاتلة عبر فضح مختلف تمظهرات التنميط التي تهدد الوجود الإنساني المعاصر باختزاله في الصورة الواحدة والأخبار المكرورة والاستفسارات التافهة ومبررات دكتاتورية اللامعنى. وهو الوضع الذي يشعر معه المرء بالضيق والاختناق، بحكم أنه في ظل ذلك، يستحيل الحوار أو المحادثة. الفكر الساخر فكر الكتابة المضادة للألفة والتكرار، أو قل هي كتابة متمردة على مختلف تمظهرات الأقنعة الماكرة والعلامات الخبيثة، من أجل فتح المجال لقوى الحياة. المثقف والفيلسوف لنتساءل بادئ ذي بدء : من هو المثقف؟ ومن هو القيلسوف؟. نقصد بالمثقف ذلك الفرد المتمكن من الفاعلية الذهنية والمؤهل للتفكير والحكم على الأمور بشكل أمثل. وبصيغة أخرى، إنه المنشغل بالفكر والأدب والفن, والناقل للدلائل داخل مجتمعه. وبهذا المعنى يكون مراقبا لمحيطه بحكم امتلاكه لسلطة معنوية تتمثل في التفكير والبحث والتوجيه وفتح الغير على آفاق رحبة بكل مسؤولية وحرية اعتبارا لكونه خالقا للمعنى، ومنتجا للرأسمال الرمزي، ومروجا له. وما دام المثقف يحرك الفكر فإنه بالنتيجة يكون مناصرا للتنوير, والتقدم، وللعقل كقوة إدراكية فعالة في تقدير الأمور من هنا تباعده وانفصاله وانشقاقه، مثلما يرى عبد الكبير الخطيبي، وتضامنه مع كل إنسان ضد كل التناقضات الموضوعية لأن معياره الأسمى هو الحياة البشرية برمتها. غير أن ما هو ملاحظ اليوم هو بداية اهتزاز صورة هذا المثقف كصانع للمعنى جراء التحولات الهائلة التي فرضتها حضارة العولمة التي أزمت النظريات, والمبادئ، والنظم والمؤسسات، حيث أشاعت بتكنولوجيتها الرقمية : – ثقافة المتع الآنية. – النجومية السريعة والفرجة والإبهار. – أسطرة الرياضة، وبزنستها من خلال تحويلها إلى سحر جذاب. – الابتسار في الفكر والقول. -عبادة المال وتسليع العلاقات الإنسانية (…). فإذا كانت هذه العوامل، وغيرها كثير، قد ساهمت في تراجع مكانة المثقفين في مجتمعاتنا, وفي انصرافهم إلى ممارسة مهام الخبرة التكنوقراطية، فإن الفيلسوف كصديق للحكمة يظل متوقد الذهن ميالا إلى روح المغامرة الفكرية، مسكونا بهاجس استكشاف المعرفة وإعادة بنائها بشكل مسترسل عبر التساؤل والسؤال, والإنكار والانفصال، والشك والنقد بحثا عن فهم ممكن ومعنى مقبول للظواهر. أو لم يكتب ديكارت ما يلي : «إن المرء الذي يحيا دون تفلسف لهو حقا كمن يظل مغمضا عينيه، لا يحاول أن يفتحهما. ولا يمكن أن يقارن التلذذ برؤية كل ما يستكشفه البصر بالرضا الذي ينال من معرفة الأشياء التي تنكشف لنا بالفلسفة؟». وأغلب الظن أن حرية بهذا الشكل، في الرؤية ومنهج التفكير، لن تكون غير مزعجة للمؤسسة ولكل أشكال الانضباط، والتحنيط التي يسعى مناصرو الصنمية وحراس الحقيقة المطلقة إلى فرضها. وفي هذا الصدد أورد التوحيدي في مقابسات «لا» ما يلي : «إن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه ولا أخطأوه في كل وجوهه ، بل أصاب منه كل إنسان جهة، ومثال ذلك : عميان انطلقوا إلى فيل، وأخذ كل واحد منهم جارحة فجسها بيده ومثلها في نفسه، فأخبر الذي مس الرجل أن خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهة بظل الشجرة وجذع النخلة، وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته شبيهة بالهضبة العالية والرابية المرتفعة، وأخبر من مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه وينشره. وكل واحد منهم قد أدى بعض ما أدرك وكل ما يكذب صاحبه ويدعي عليه الخطأ والغلط والجهل فيما يصفه من خلق الفيل. فانظر إلى الصدق كيف جمعهم وانظر إلى الكذب والخطإ كيف دخل عليهم حتى فرقهم». وهو ما يحصل معه أن روح الفيلسوف هي روح غير مهادنة، متسلحة على الدوام بمعول يهدم ويدحض ويفكك الحقائق، مؤمنة بنسبية المقاربات، والنتائج، والمحصلات لأن الشك والسؤال يظلان معا محركين أساسيين لكل رغبة في المعرفة إنسانية كانت أو طبيعية. نور الدين محقق: أحب أن أصنف ككاتب وليس كروائي أو شاعر أو ناقد قال ل«المساء» إن الاهتمام بالآداب والفنون يمنح غنى ثقافيا للكاتب ويفتح رؤيته على آفاق الجمال وُلد الكاتب المغربي نور الدين محقق بمدينة الدارالبيضاء. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة محمد الخامس بمدينة الرباط. عضو "اتحاد كتاب المغرب"، و"الجمعية المغربية لنقاد السينما"، و"اتحاد كتاب الأنترنيت العرب"، بالإضافة إلى جمعيات ثقافية مغربية وعربية ودولية أخرى. يعمل حاليا أستاذا للغة العربية والثقافة العربية بمدارس البعثة الفرنسية بالمغرب، له كتابات عديدة منشورة في المغرب والمشرق، وأوروبا، تتعلّق بمجال التواصل الفني (مسرح، تلفزيون، سينما، إشهار، تشكيل) باللغتين العربية والفرنسية. نشر بالمجلات العربية التالية: مواقف، الآداب، كتابات معاصرة، فكر ونقد، الثقافة المغربية، عالم التربية، نزوى، ثقافات، العربي، وغيرها. ومن بين مؤلفاته باللغة العربية، في مجال القصة: "الألواح البيضاء"، و"وشم العشيرة"، وفي مجال الرواية: "وقت الرحيل" و"بريد الدارالبيضاء" و"إنها باريس يا عزيزتي" و"شمس المتوسط" و"النظر في المرآة" و"زمان هيلين". كما ألف بالفرنسية عدة دواوين، من بينها: "حديقة الرغبات"، و"عرائس البحر الأبيض"، و"أزهار الشرق"، و"كتاب ألف ليلة وليلة" في جزأين، و"طوق اليمامة"، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب النقدية باللغة العربية، منها: "نجيب محفوظ وشعرية الحكي"، و" شعرية النص المرئي"، و"شعرية الكلام الروائي"، و"السينما وشعرية الصورة"، و"أدونيس وشعرية الكتابة"، و"شعرية الكلام الروائي"، دون أن ننسى مشاركاته في العديد من الكتب النقدية الأكاديمية الجماعية، سواء المتعلقة بالدراسات الأدبية أو الدراسات الفنية. – تتبعتُ مسيرتك الإبداعية منذ بداياتها، ولاحظت تطورا هاما على مستوى الاشتغال، إذ انصب اهتمامك على أغلب الأجناس الإبداعية كالشعر والقصة والرواية والنقد التشكيلي والنقد السينمائي…، ما سبب هذا الاهتمام المتنوع؟ وأين تجد قدرتك التعبيرية ضمن هذا التراكم؟. ما قلتَه هنا صحيح، فقد كانت بدايتي الإبداعية مرتبطة أساسا بالشعر، وأظن أن هذا شأن معظم الكتاب والمبدعين في العالم أجمع، فالشعر يرافقنا منذ الطفولة ويظل ملتصقا بنا بشكل من الأشكال. لقد كانت محاولاتي الشعرية الأولى نابعة من الوجدان بشكل مباشر. فكلٌّ منا يهوى في البداية إذا كان مولعا بالآداب والفنون وقارئا جيدا للكتب أن يكتب الشعر، وأن ينبغ في عملية كتابته، فللشعر سحر لا يقاوم. ثم إن الكتابة الشعرية تكون مرتبطة بالعواطف في شكلها الأنقى، لاسيما في عنفوان الشباب، ثم تأتي الصنعة بعد ذلك. هكذا كتبت أول ما كتبت الشعر، بل انغمست في كتابته حتى عُرفتُ به بين أصدقائي قبل أن يعرف طريقه للنشر والذيوع عن طريق نشره في الصحف. وكانت قصائدي حول مدينة غرناطة علامة فارقة في اتجاهي الكتابي الشعري هذا. وخلتُ أنني نسيت الشعر، أقصد كتابة الشعر، حين جرفني حب المسرح، لاسيما حين انتميت إلى بعض فرق مسرح الهواة وشاركت في بعض مسرحياتها. وما أن ابتعدت عن المسرح، نظرا لظروف الدراسة، حتى عاد الشعر إليّ من جديد، فكتبتُ قصائد متنوعة حظيت بنوع من الاحتفاء وكُتبتْ عنها بعض الدراسات الجادة والعميقة من لدن مجموعة من النقاد الأدبيين. وقد صدرت لي لحد الآن ثلاثة دواوين شعرية، هي: «عاشق غرناطة العربي»، و»العابر في الليل إلى مدن النهار»، وهما ديوانان شعريان يحتفيان بالمدن بدءا بمدينة الدارالبيضاء فمدينة غرناطة ومدريد وباريس وروما ونيويورك، وهي مدن زرتها وشدتني إلى فضاءاتها الفاتنة. بالإضافة إلى ديوان «غادة الكاميليا»، وهو كما ترى يتناص على مستوى عنوانه مع رواية شهيرة للكاتب الفرنسي ألكسندر دوماس الابن، تحمل نفس العنوان. وتبعا لذلك، وكما في هذه الرواية، فهذا الديوان يحتفي بالحب، لكن بطريقة ما بعد حداثية. إذ عكس هذه الرواية الرومانسية، يغوص في ثنايا الواقعي والافتراضي معا، ويؤسس عالمه الشعري بين حديهما. وقد كتبتُ قصائده على نمط الهايكو الياباني، لكن في شكل جديد، يبتعد به عن عالم الطبيعة ويجعله قريبا جدا من عالم المدينة. أما بخصوص باقي الأجناس الأدبية الأخرى التي كتبت فيها، فقد جرّتني الرواية إلى عوالمها المتعددة حيث وجدت أن تجربة الغربة التي عشتها، وأنا طالب في فرنسا، لم يكن بالإمكان الحديث عنها إلا سردا. هكذا كتبت روايتي الأولى «وقت الرحيل»، التي لاقت رضا من لدن القراء وكُتبت عنها الكثير من الدراسات النقدية من لدن مجموعة من النقاد والمبدعين المغاربة المعروفين مثل شكير نصر الدين ونبيل منصر ومحمد يوب وعبد الله باعلي وعبد المجيد العابد وسواهم. وقد ساعدتني على تطوير أدواتي السردية في مجال الرواية دراساتي الأكاديمية في هذا المجال تحديدا، فقد هيأتُ أطروحة دبلوم الدراسات العليا، ثم بعدها الدكتوراه، في مجال السرد. وقد توالت رواياتي بعد هذه الرواية الأولى، حيث نشرتُ «بريد الدارالبيضاء» ورواية «شمس المتوسط» ورواية «إنها باريس يا عزيزتي» ورواية «النظر في المرآة»، وهي كلها روايات وجدت أصداء طيبة لها، سواء في مجال الدراسات النقدية التي كتبت عنها أو في مجال البحوث الجامعية التي أنجزت حولها. وفي المجال السردي ذاته صدرت لي مجموعتان قصصيتان، هما «الألواح البيضاء» و»وشم العشيرة». الأولى صدرت عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، والثانية صدرت عن منشورات اتحاد كتاب المغرب. طبعا لم يكن هذا الاهتمام المتنوع بالمجال الأدبي وليد الصدفة وإنما جاء من خلال تواجدي في فضاءات ثقافية مهتمة به من جهة، ومن عشقي للقراءة والغوص في عوالم الكتب من جهة أخرى. أما بخصوص اهتمامي بالمجال الفني، فقد كنت ومازلت عاشقا للفن المسرحي، وكان لانضمامي لبعض فرق مسرح الهواة أثر إيجابي على تكويني فيه. وقد رافق هذا الاهتمام بالمجال المسرحي اهتمام آخر هو اهتمامي بالفن السينمائي بشكل عميق على غرار الكثير من أصدقائي ورفقاء دربي، حيث كنا في الغالب نذهب إلى السينما معا ونشاهد نفس الأفلام السينمائية ونتحدث حولها كثيرا، إن إيجابا أو سلبا. وقد حكيت ذلك في سيرتي السينمائية «طفل الحي السينمائي»، التي من المتوقع أن تصدر في كتاب يضم فصولها بعضها إلى بعض ويوحد رؤيتها في اتجاه أدبي/ فني يجمع بين التخييل الذاتي والسيرة السينمائية الثقافية بالخصوص. أما بخصوص الفن التشكيلي فهو اهتمام وجداني رافقني منذ الصغر وأشتغل فيه بشكل شخصي يرضي ذاتي ويفتح لي مجالا للتمعن في الذات ويطور أدوات اشتغالي الشعري أو الروائي. وقد كتبت في هذا الصدد كتابا فنيا يحتفي بالصور الأنثوية ويعيد تقديمها في شكل سردي- شعري منفتح على الفن التشكيلي من جهة، وعلى الفن الفوتوغرافي من جهة أخرى. هذا الكتاب هو كتاب «شجرة الغواية: جاذبية الجمال في الصور الأنثوية». هذه الاهتمامات التي قد تبدو متنوعة وربما متعددة، ما هي في العمق سوى اهتمام واحد بالآداب والفنون في عملية تكاملهما، وهو أمر نجده عند كل الكتاب الولعين بعالم التخييل. فقد كتب فكتور هوغو العديد من الروايات وبعض المسرحيات أيضا، كما كتب في فن المقالة أيضا، وقد برع شارل بودلير، وهو الشاعر الرائي، بالإضافة إلى الشعر، في الفن التشكيلي. وكان يكتب في الصحف بشكل مستمر، وقد كتب ألان روب غرييه في الرواية وأخرج بعض الأفلام السينمائية كذلك، وقل نفس الأمر عن مارغريت ديراس. كما كتب ميشيل بوتور الشعر بعد أن تألق في كتابة الرواية الجديدة والتنظير لها، وأغرم بالفن التشكيلي بشكل كبير. إن عملية الاهتمام بالآداب والفنون تمنح غنى ثقافيا للكاتب، وتفتح رؤيته نحو آفاق الجمال في اختلافه وتنوعه. وقد بدأنا نلاحظ هذا الأمر يظهر عند معظم المبدعين المغاربة، حيث بدأنا نشهد هذا التنوع يعلن عن حضوره بشكل كبير، فكثير من الشعراء المغاربة كتبوا روايات، وكثير من الروائيين أصدروا دواوين شعرية. كما أن اهتماماتهم بكل من مجالي الفن التشكيلي أو السينمائي صارت معروفة ومتداولة في الوسط الثقافي، وهي مسألة أساسية في جعل هذا التلاقح الثقافي بين الآداب والفنون يأخذ مداه الجدير به. – نعرف أن لكل جنس تعبيري آلياته سواء، تعلق الأمر بالمخيال أو بتقنيات الكتابة…، كيف يمكن للمبدع أن يفكر بمنطق الاختلاف في ظل أجناس أدبية وفنية متعددة؟ وكيف يمكنه أن يلبس جبة الكاتب والناقد معا؟ مسألة خصوصية الأجناس الأدبية والفنية غاية في الأهمية، فلكل جنس أدبي أو فني خصوصيته، رغم إمكانية انفتاحه على باقي الأجناس الأخرى المحيطة به. ذلك أنه في النهاية يخضع لقوانين الجنس الأدبي أو الفني الذي يعلن انتماءه إليه. من هنا فكتاباتي الشعرية تختلف حتما في بنائيتها الفنية عن كتاباتي السردية الروائية، منها أو القصصية. وهو أمر حتمي حتى وإن لم أسع إليه بشكل قصدي. وقد أوضح ذلك ميخائيل باختين بشكل عميق وهو يقارن بين الخطاب الشعري والخطاب الروائي في كتابه المعروف «جمالية الرواية و نظريتها». وإذا كان هذا الأمر متعلقا بنظرية الأجناس الأدبية الخاصة بمجال الإبداع تحديدا، فإن النقد والدراسة النقدية والبحث النظري أو التطبيقي في مجال الدراسات والبحوث العلمية المنطوية ضمن العلوم الإنسانية لها طابعها الخاص. فهي تخضع لشروط البحث العلمي وآلياته. ما كتبته في هذا المجال يسير وفق هذا الخط الأكاديمي الذي أحترم قوانينه وأكتب وفق مساراته. أما ما تعلق بكتاباتي النقدية الثقافية الأخرى التي أنشر البعض منها في الصحافة الثقافية، فهي تظل أيضا مرتبطة بالمجال الثقافي العام. وهي تسير في خط عملية التعريف بالكتب التي قرأتها وأعجبتني أو الأفلام السينمائية التي شدتني إلى عوالمها وحاولت أن أسبر أعماقها أو مشاهداتي لبعض اللوحات التشكيلية التي منحتني لذة الاقتراب منها. وهي دراسات بالرغم من انفتاحيتها تظل محكومة في العمق بالمنهج النقدي وخاضعة لشروطه. فلا يمكن للكتابة النقدية أن تحيد عن المنهج حتى في عملية انفتاحها على الرأي الشخصي. – على ذكر التشكيل، كيف ترى، كمتتبع أو كناقد تشكيلي، الوضع القائم في هذا المجال، بكل حيثياته، أي على مستوى الإبداع والنقد التشكيليين؟ وكيف ترى، كناقد سينمائي، واقع السينما المغربية؟ وهل استطاعت كل هذه الأجناس التي تشتغل عليها، كمثقف متعدد، بأن تواكب الواقع الاجتماعي المغربي بتحولاته؟ يعرف الفن التشكيلي، من وجهة نظري كمتتبع لما يقدم فيه من أعمال فنية، نهضة أساسية جديرة بالتقدير، فالفن التشكيلي المغربي له حضوره القوي في رحاب الوسط الثقافي المغربي. وقد كتبت حوله العديد من البحوث والدراسات، كما صدرت كتب عديدة عنه في هذا المجال، والبعض منها كتبه فنانون تشكيليون أنفسهم مثل نور الدين فاتحي أو شفيق الزكاري أو بنيونس عميروش أو بعض النقاد الجماليين مثل موليم العروسي وسواه. وهو فن جدير بأن يحظى بكل دعم، سواء كان ماديا أو معنويا. وقل نفس الأمر عن المجال السينمائي المغربي. فالسينما المغربية عرفت تقدما كبيرا على المستوى العربي، سواء من حيث عدد الأفلام السينمائية التي تنتج سنويا أو من حيث تطور الرؤية الإخراجية عند المخرجين المغاربة مثل فوزي بنسعيدي وحكيم بلعباس ومحمد مفتكر وطالا حديد وداوود أولاد السيد وغيرهم. كما أن الجيل الجديد بدأ يفرض ذاته في هذا الميدان أيضا. طبعا قد نختلف في عملية تقييم الوضع الثقافي والفني لكن هذه هي وجهة نظري. أما بخصوص مواكبة الآداب والفنون للواقع الذي توجد فيه فهي مسألة فيها نظر. فالفن، حسب تصوري، لا يسعى إلى إنتاج الواقع كما هو، وإنما يضع مسافة فنية بينه وبين هذا الواقع. وبالرغم من ذلك يمكن القول بأن هذه الآداب والفنون، وهي تسعى لتطوير ذاتها وآليات اشتغالها، تقدم بشكل من الأشكال الفنية سيرة للتحولات الاجتماعية التي عرفها ويعرفها الواقع المغربي في غناه وتنوعه. – هل هناك علاقة فعلية أو رمزية فيما تكتبه من خلال تعدد الأجناس؟ وكيف يمكن تصنيفك ضمن المشهد الإبداعي المغربي، خاصة أنه يصعب تحديد وضعك كمثقف يهتم بالنقد التشكيلي والسينمائي والشعر والقصة والرواية على حد سواء؟. إن كان الأمر هكذا بالنسبة لي فأنا أعتبره إيجابيا جدا، فأنا أحب أن أصنف ككاتب وليس كروائي أو شاعر أو ناقد فحسب، أي أن يتم تناول تجربتي الكتابية ضمن خانة معينة ليس إلا، ذلك أن الكتابة تزدهر في عملية تنوعها وانفتاحها على العوالم الأدبية والفنية التي تحيط بها. من هنا فعملية التصنيف يجب أن تتم من خلال دراسة الكتب التي تصدر للكاتب وليس من النظر إلى الكُتاب وعملية تصنيفهم بكونهم شعراء أو روائيين أو نقادا. إن تم الأمر بهذا الشكل فإنه سيحد من عملية التلاقح بين الآداب والفنون، وسنحد من حرية الكاتب إن كان ناقدا، بحيث لا نريده أن يكتب في مجال الرواية أو الشعر. كما يحد من حرية الروائي أو الشاعر بأن نطالبهما بالاهتمام ولو ضمنيا بجنس أدبي واحد حتى نستطيع تصنيفهما في خانته وننتهي من الأمر. في كل الآداب العالمية يصنف الكتاب في الخانة التي أضافوا فيها بشكل قوي. فقد عُرف فكتور هوغو بكونه شاعرا، رغم أنه كتب العديد من الروايات، كما عُرف ميشيل بوتور بكونه أحد أعمدة الرواية الجديدة، رغم كونه كتب العديد من الأشعار. ولكن مع ذلك تتم دراسة روايات فكتور هوغو كما تتم دراسة أشعار ميشيل بوتور على سبيل التمثيل وليس الحصر طبعا. وبالنسبة لي، إن كان لي أن أختار، وهذا ما لا أريده أو أسعى إليه، أحب أن تتم قراءتي إبداعيا كروائي منفتح على بقية الأجناس الأدبية والفنية، وفي المجال النقدي كمهتم بالمجال السيميائي السردي وباحث فيه، لأنه مجال تخصصي الأكاديمي الأصلي. وقريبا ستصدر لي كتب في هذا المجال تحديدا، كانت في الأصل أطاريح جامعية أنجزتها في إطار البحث العلمي الجامعي. – في ظل التراكم الذي تعرفه الساحة الثقافية والفنية المغربية من إنتاجات متعددة، هل استطاع النقد باختلاف مشاربه أن يواكب هذا التراكم، أم هناك تفاوت على مستوى المتابعة من حيث الكم والكيف؟ ثم ما هو نوع الخدمات التي قدمها النقد للإبداع المغربي بصفة عامة؟. استطاع النقد المغربي، لاسيما الذي أُنجز في رحاب الجامعات المغربية، أن يفرض وجوده على الساحة الثقافية العربية، وأن يحظى بالتقدير والاحترام، فهو نقد أكاديمي يلتزم بالشروط العلمية وفق أحدث المناهج العلمية المعروفة في أوروبا وشمال أمريكا. وفي هذا الصدد أنجزت أطاريح جامعية متعددة حول الأدب المغربي قديمه وحديثه. وهو ما ساهم في تقديمه بشكل علمي إلى الساحة الثقافية العربية بعد أن تحولت هذه الأطاريح الجامعية إلى كتب منشورة في كبريات دور النشر العربية. أما بخصوص النقد الأدبي أو الفني الذي ينشر في الصحافة فهو نقد يراعي نوعية المتلقي الذي هو هنا متلقي عام، ويحرص على جعله مطلعا على جديد المطابع أو دور السينما أو دور العرض الفني بمختلف تجلياته. وهو أمر أساسي ومطلوب. ومع ذلك، ونظرا لتطور الحركة الإبداعية المغربية، والذي نتج عنه تراكم مهم سواء في الميدان الأدبي أو الفني، أصبح من الصعب على النقد المغربي أن يتابع كل هذا الزخم الثقافي في حينه. من هنا أصبح لزاما على المبدعين أن يتابعوا إنتاجاتهم، وأن يحرصوا أولا على إيصالها إلى المتلقي، وهو ما نراه سائدا في أوروبا. عودا على البدء ساهم النقد المغربي في التعريف بالإنتاجات الأدبية والفنية بشكل كبير جدا، فكثيرا ما سعى المتلقي إلى قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم أو عرض فني انطلاقا مما قرأ عنه في الصحف أو في بعض الكتب. كما لا يمكن أن ننسى دور الإعلام المسموع أو المرئي في هذا المجال، فحضور الحديث عن الكتب في برامج ثقافية منح الكتاب حضورا قويا ودفع بالكثير من المشاهدين إلى اقتنائه وقراءته. كما أن برنامجا سينمائيا قد يدفع بالعديد من المشاهدين إلى قراءة الكتب النقدية المتعلقة بالمجال السينمائي ومشاهدة الأفلام السينمائية المتحدث عنها فيه. النقد الأدبي أو الفني أساسي وضروري في الرقي بالعملية الإبداعية بمختلف أنواعها وتجلياتها. وبالمناسبة أشكر كل الذين كتبوا عن كتبي وأناروا لي طريقي في هذا المجال الأدبي أو الفني. – إذن في ظل كل هذه المعطيات التي وردت ضمن هذا الحوار، ما هي المحطة الأخيرة التي ستستقر بها إبداعيا؟. لدي رغبات كثيرة في هذا المجال حتى لا أقول مشاريع، ومن بين هذه الرغبات التي أسعى إلى تحقيقها إصدار أطاريحي الجامعية، التي اشتغلتُ فيها على السرد العربي قديمه وحديثه وفقا للمنهج السيميائي، وقد وافقت بعض دور النشر العربية على القيام بعملية نشرها، وأنا الآن أشتغل عليها. من بين هذه الرغبات أيضا إصدار كتبي الإبداعية.