"دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية        واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هايدجر في الدار البيضاء

ماذا تعني دعوة «هايدجر» يوم الجمعة (14/01/2013) إلى رحاب كلية الآداب ابن مسيك بالبيضاء؟ هل تفيد هذه الضيافة حدثا أكاديميا، أم هي ملء المدرج بالكلام؟
صحيح أن شعبة الفلسفة بالكلية دأبت على ترسيخ تقليد فلسفي في فضائها المتسع للأسئلة المقلقة سواء في رهانها على فتح بوابات مفكرين عرب، أو بترسيخ حوار أكاديمي بين أساتذتها وطلبتها والمكتوين بنار بروميثوس أو بالأحرى المكتوين بالراهن الفلسفي المغربي. لكن ما الذي يدفع الشعبة لاستضافة أحد المفكرين الأساسيين في تاريخ الفكر الفلسفي؟ ضيافة تفترض شروطها مثل ما تدعونا لقلب معارفنا وتجديدها. ليس لأن النص الهايدجري، نص متسع كما الغابة السوداء تماما بل للأسئلة التي طرقها هناك والآن. المسألة إذن تتخذ بعدا استراتيجيا للحوار عبر البحث عن سؤال التلقي لفلسفة هايدجر، سؤال يحيل إلى هذا الاتساع التأويلي لفلسفته. وهكذا تظهر لنا إمكانية إشاعة أسئلة الندوة، ليس لقراء الفلسفة وعشاق الحكمة، وإنما لعموم القراء.
افتتح الندوة الأستاذ موليم العروسي بأسئلته المستفزة والمقلقة، من قبيل الحديث على الفكر الهايدجري بدل ما تواضع التقليد الفلسفي على تسميته ب: «الفيلسوف». ليست هذه الملاحظة عابرة، تروم خلخلة تلقي هذا المفكر الكوني. ذلك أنه شكّل جسرا بين الفلسفة الحديثة والمعاصرة؛ هايدجر بهذا المعنى- يقول العروسي- قد انفتح على حقول وقارات لم نكن نهتم بها نحن الفلاسفة. بعد ذلك قدم مفتاح تسيير الجلسة للأستاذ عبد العالي معزوز الذي توقف عند عنوان الندوة « هايدجر وأثره الفلسفي في الفكر العربي»عبر ترحيبه بالأستاذين: عادل حدجامي وإسماعيل مهنانة، كما قدم اعتذار الأستاذ محمد سبيلا، دون إغفال كون هذا الأخير عرض عليه مجموعة من النقط لإدراجها في هذه الندوة الأكاديمية.
في تقديم الأستاذ معزوز لهذه الندوة، توقف عند بعض الدروب التي فتحها هايدجر لقرائه أي، في تلك العناوين الكبيرة التي مافتئ الدرس الفلسفي يعيد التفكير فيها من قبيل: « العلم لا يفكر...»، «حيث يوجد الخطر يوجد الحل «، «الميتافزيقا افلاطونية « « لا وجود لشيئ دون تسميته «، « اللغة مسكن الوجود»...
إن التوقف عند أي قولة هو إبحار فلسفي بامتياز، وهنا تكمن جدة مارتن هايدجر. والجدة هنا، لا تقاس بترف معرفي أو بموضة معرفية وإنما- حسب المتدخل إنصات للفلسفة، ودخول إلى شراكها المتعددة، مضيفا كون الأثر الخلاق لهايدجر في الفكر المعاصر حتى أضحى القول بأن هذا العصر هو عصر هايدجري، ذلك أن قوة هذا المفكر تتأتى من تناوله لمجمل قضايا الإنسان المعاصر ولأنه لخّص في فلسفته كل الفلسفات السابقة. كما أنه قام بتعليمنا كيفية التفلسف والتفكير في جميع العصور. وبمصاحبته لا نبتعد كثيرا عن الفكر الفلسفي القديم إذ جمع بين الفكر وبين آخر تجلياته، حيث حاور الفلاسفة القدماء كندٍّ لهم؛ أي في حوار منفتح ومتجدد مع كبار الفلاسفة، الأمر الذي خلق معجما فلسفيا خاصا به. هكذا أبرز المتدخل قوة هايدجر، لاعتبار بسيط هو أن الفيلسوف يفرض علينا تحيين أسئلته عبر التحاور معه، مثلما كان يفعل مع الفلاسفة القدماء انطلاقا من جعلهم معاصرين لنا، وبالجملة في جعل أسئلتهم الفلسفية تروم الإمتاع والمؤانسة.
إن التقديم الذي عرضه الأستاذ معزوز، ليس تقديما للندوة فحسب وإنما إضاءة لها عبر إضاءة دروبها وإنارة الغابة السوداء التي يعشقها هذا الفيلسوف رغبة في شحذ الطلبة والباحثين لقراءة هذا الفيلسوف الذي لا يتعب من قرائه، كأن فلسفته ترفض وضعها في المكتبة وإغلاق المعنى فيها.
عادل الحدجامي: تلقي المغاربة لفكر هايدجر:
انطلق الأستاذ من فرضية منحصرة في قياس التلقي الفلسفي الغربي بين المشرق والمغرب، حيث اعتبر المغاربة أكثر إنصاتا للفكر الفلسفي المعاصر، قراءة وترجمة وتأويلا. ولأن الأمر يحيل إلى مجال جغرافي بعينه، فإنه محور تلقي الفكر الهايدجري في مرحلتين رئيستين، وهما: مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي كمرحلة عرفت بتأسيس الدرس الفلسفي المغربي، من لدن كبار المفكرين كالأستاذ عبد الله العروي، والمرحوم محمد عابد الجابري. وإن كانا لم يلتفتا إلى مارتن هايدجر. كأن أسئلة هذا الأخير لا تدخل في صلب اهتمامهما،لاعتبارات متعددة أوجزها الباحث في مجموعة من النقط نتوقف عند بعضها من قبيل أن الهاجس الإديولوجي هو المحرك الرئيس لهذين المفكرين الكبيرين، كما أن المشروع النهضوي هو رافعة اهتمامهما الفكري، بل الأكثر من ذلك تتميز مرحلتهما الفكرية بشرطها التاريخي، والمتمثل في وظيفة المثقف، كمثقف عضوي، ملتزم بقضايا مجتمعه وأمته.
لا غرابة إذن أن يكون الشرط التاريخي لفكر الجابري والعروي محددا أساسيا لعلاقتهما بالفكر الفلسفي المعاصر (هايدجر مثلا)، فمن جهة إن تجربتهما هي تجربة صراع وصدام عنيفين مع الآخر الغرب كمستعمر، وبالتالي فحضور الآخر كمستعمر جسر للتفكير في وضعية الأنا المتأخرة تاريخيا. من هنا، ولهذه الأسباب جاء صمتهما عن هايدجر، ليس لأنهما لم يلتقيا به في المكتبة، أو بالأحرى لم يقرآ له، وإنما لأنه لم يدخل في مسار أسئلتهما كأسئلة إديولوجية تروم النهضة والحداثة.
لقد عرف الفكر الهيدجري تشويهات ومسوخا متعددة من لدن المفكرين العرب (مصر والشام خاصة)، ذلك أن الأساس في تلقين هذا الفيلسوف كانت وراءه حجب كثيرة وأهمها_ على الإطلاق_ حجاب جان بول سارتر، بمعنى أن تلقي هايدجر كان من وراء نظارات جان بول سارتر.
إن الأمر هنا مشروط بشيوع الفلسفة الوجودية السارترية، وعملية ترويجها في العالم العربي ( سهيل إدريس: مجلة الآداب البيروتية). مثلما تم تصنيف هايدجر في إطار فلسفة ملحدة مقارنة بأخرى مؤمنة. هذا التصنيف الذي أورده عبد الرحمن بدوي والذي أضحى يافطة يحملها كل من كان يرغب في الفلسفة مدة طويلة من الزمن العربي. إن انتشار هذه القراءات المشوهة لفلسفة هايدجر هو ما جعل الفكر الفرنسي ذاته يقوم بزعزعة أعطاب تلك القراءات التي شكلت عوائق أمام هايدجر. ليس فقط فيما قام به بوفري حسب المتدخل بل حتى تحرير هايدجر نفسه من الجامعة الألمانية أيام الحرب الكونية وما بعدها.
إن هذا التحرير من التأويلات المغرضة لهايدجر في فرنسا، هو الدافع الرئيس للالتقاء به مغربيا في مرحلة الثمانينيات إلى الآن، خاصة من لدن الجيل الجديد من الأساتذة، أو بالأحرى من الفلاسفة الجدد بالمغرب كالاستاذ عبد السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا. إن الاهتمام بهذين الأخيرين ليس تنقيصا من باحثين آخرين اشتغلوا على هايدجر وإنما لبيان فكرهما، إن لم نقل الاستراتيجية الفكرية لكل واحد منهما. وقد أشار عادل الحدجامي إلى الفروقات الموجودة بين الرجلين في تلقيهما لفكر هايدجر، والمتمثلة في الأساس الاستراتيجي الذي يؤسسه كل واحد منهما إن لم أقل إلى النظارات التي يحملها كل واحد. فإذا كان محمد سبيلا يروم مساءلة الحداثة وترسيخها، ويروم اكتمال الإديولوجيا، فإن قراءته لهذا المفكر تتسم بالتركيبية، وتنحو مسارا بيداغوجيا تتوخى منه تقريب المعجم الفلسفي الهايدجري للقراء العرب، وتلك هي جدة محمد سبيلا. صحيح أن مرحلة هذا الأخير في تلقي الفلسفة المعاصرة، لم تكن بدافع إديولوجي كأن هذا الجيل أراد التحرر من انكساراته التي سببتها الإديولوجية الماركسية والقومية وما إلى ذلك. هكذا انفتح هذا الجيل على فلسفة هايدجر كفلسفة تندفع نحو التقويض بالهدم.
في سياق آخر، يدخل الأستاذ بنعبد العالي كأحد الأساتذة الذين أسسوا الدرس الفلسفي في هذه المرحلة على الفلسفة الفرنسية المعاصرة، والتي شكل مارتن هايدجر أحد مؤسسيها. صحيح أن هذا الفيلسوف تمت قراءته بشكل جيد في فرنسا وليس في ألمانيا. لذا كانت قراءته لهايدجر تحليلية ترغب في استثماره في أفق آخرأي، في مساءلة المعيش والكتابة والاختلاف...إن اهتمامه إذن ليس بيداغوجيا كما سار عليه الأول وإنما هو اهتمام ينبني على يقوله دائما في الاتصال والانفصال، وفي كيف يكون هايدجر قريبا وبعيدا من.ا
بعد تحديد الفروقات الموجودة في تلقي هايدجر مغربيا عرض الأستاذ المتدخل إلى قراءة اخرى كما قام به محمد الشيخ، الذي وجد فيه امتدادا لمحمد سبيلا، سواء في الهاجس البيداغوجي أوالتركيبي. بينما ما قال به طه عبد الرحمن هو نوع من المصادرة على المطلوب كأن قراءة هذا الأخير لا تهمه فلسفة هايدجر بقدر ما تعنيه المسلمات التي اراد اثباتها، ولأنها كذلك فإنها قراءة خارج السياق بل وخارج الفلسفات.
يختتم الباحث مداخلته بإعادة التنبيه إلى كوننا في مشتل حقيقي للفلسفة ليس لأن هايدجر علامة فائقة في الفكر المعاصر، ولكن لكون فلسفته لازالت تستنبت تاويلات متعددة في القراءة والترجمة الآن ومستقبلا. كأن حياة هايدجر الفلسفية لها حيوية وفعالية كما سبينوزا تماما الذي لم يتم الاهتمام به إلا بعد موته سنوات عديدة، أوكما نتشه. إن حيوية كل فكر لا تقاس بما يقوله هذا الفكر، بل بالإمكانيات المتعددة التي يفتحها هذا القول. إننا فعلا أمام مشتل يستلزم الفلاحة وإعادة الفلاحة وتلك هي أهمية هذه الندوة أو هذا الدرس وهذا الحوار المتجدد، والمنفتح على الأفق اللامحدود ضدا على القراءة اليسارية والعلموية اللتين أساءتا الفهم لفيلسوفنا إن لم نقل أنه في موقع مهاجمتهما ومقاومتهما وتلك هي الخاصية الرئيسة للدرس الهيدجري.
لقد قلنا إن محمد سبيلا اعتذر عن الحضور في هذا اللقاء الأكاديمي، إلا أنه قام بتكليف الأستاذ معزوز بتلاوة بعض القضايا في التلقي العربي لفلسفة هايدجر والتي أوجزها في النقط التالية: التشويه الذي أحدثه عبد الرحمن بدوي عبر تصنيف هايدجر في خانة الوجودية. كما رماه في درج الملاحدة علما أن سبيلا يرى أنه لم يكن كذلك لاعتبار بسيط وهو اهتمام الفيلسوف بالإلهي إلى حدود موته. بينما تضمن التشبيه الثاني ما قام به جلال العظم والذي اعتبر فلسفة هايدجر ردة في الفكر المعاصر لأنه ارتد - حسبه - على الماركسية. إن هذا التلقي الماركسي - حسب سبيلا - لم يعط لنفسه إمكانية بسيطة لمصاحبة النصوص الفلسفية لهذا الفيلسوف.
اسماعيل مهنانة: هايدجر فيلسوف الكينونة
كانت المداخلة التي شارك بها الأستاذ والباحث في الفلسفة اسماعيل مهنانة من الجزائر تريد لنفسها أن تكون تعريفا بالحدث الهام الذي شهده الفكر الفلسفي العربي المتمثل في صدور كتاب «الكينونة والزمان»، سنة 2011، ترجمة الباحث التونسي فتحي المسكيني. إذ إن تجاوز واقع التلقي المشوَّه والمشوِّه لفكر هايدجر هو ما يستلزم العودة حسب اسماعيل مهنانة إلى نصوص الرجل وإعادة ترجمتها كاملة، ورغم أن مجموع ما كتبه هايدجر يقارب ثلات مئة ألف صفحة، وهو ما يعني أن نشر أعماله محققة ومترجمة سيستمر حتى سنة 2030، فإن فكره مطوي في مجمله في كتاب «الكينونة والزمان» 1927، ولذلك ذهب الأستاذ إلى تفصيل القول في الكتاب، معتبرا أن طرق بوابة فكر هايدجر يمر عبر دروب خمسة هذا بينها:
تحليلة الدازاين DASEIN
هذه هي أولى المهمتين اللتين ينهض بهما الكتاب؛ ومقتضاها أن ما أنجزه هايدجر يبدأ من الفينومينولوجيا ويؤوب إليها وهو خصيم لها، وهي تطرح السؤال عن مدى استطاعتنا التخلي عن كل مانعتقده، وفي هذا التخلي نرجع الى السائل الذي يسأل عن موضوعات العالم. أي؛ الانسان. لكن، ماهو الإنسان؟ سيجيبنا أرسطو: إنه حيوان ناطق؟ لكن ما الحيوان؟ وما النطق؟ في تعريف كل واحد من هذه المفاهيم نجد أنفسنا غارقين في ماهيات، وبالتالي في الميتافيزيقا. لذلك يقترح علينا هايدجر تعليق ماهية التعريف حول الإنسان الذي يسأل، والاكتفاء فقط بقول إنه «الكائن- هنا» (Da - Sein ) بدون ماهية، أي إنه حضور فقط. وفي حضور هذا شأنه نجد أننا أمام لحظة الحاضر التي هي طي للماضي وللمستقبل، أي إننا أمام الزمن، لكن ليس بالمعنى الأرسطي حيث يبقى فيزيائيا في بنيته، تحدده آنات متسلسلة ومتجانسة، بل بمعنى أنه زمانية (Temporalité) غير متجانسة الآنات، تستدعي في لحظة واحدة، وفي الآن نفسه، الماضي والحاضر، وهو المعنى الذي صاغه هايدجر من التقليد الثيولوجي (أوغسطين). والزمانية هذه هي ما يخص الإنسان وحده لأنها تنبع من الاستباق الذي يجريه الإنسان لحدث الموت، مادام هذا الأخير هو الواقعة الأساس للوجود، فإذا كان هذا الأخير ينفتح على ممكنات عدة فإن العدم/ الموت هو الإمكانية الأساسية له، غير أنها ليست نهاية يقف عندها وجودنا في نقطة غير معروفة في المستقبل، بل هو حدث ملازم لنا في كل لحظة، وهو بذلك ليس واقعة نفسانية بل انطولوجية تتجلى في القلق (Angoisse) وتنبثق منها كافة الظواهر الأخرى، كالحرية مثلا.
تقويض الميتافزيقا:
هذه هي المهمة الثانية لكتاب الكينونة والزمان وتتمثل إستراتيجيتها في التعامل مع الميتافيزيقيا الغربية ليس من حيث إنها مبحث في العلل، أو البداهات العقلية، بل من حيث كونها هي شكل الفكر الذي تمثله الغرب من أفلاطون (ق 4.ق.م) حتى نيتشه (ق.29)، أو قل هي براديغم الغرب في التفكير، وما يميزها هو نسيانها للكينونة مادامت تقوم على تأويل جوهري لها (فتسميها المثل مع أفلاطون، وإرادة القوة مع نيتشه، والروح المطلق مع هيجل... إلخ)، لذلك فمهمة الفلسفة تمثلت في تجاوز الميتافيزيقا، والخطو إلى ما بعدها. وليست هذه المهمة فيما يرى الأستاذ إسماعيل مهنانة ترفا فكريا ? وهو هنا يشير إلى واقعة النسيان التي طالت هايدجر من طرف المفكرين العرب في السنوات الثمانين من القرن العشرين- بل هي مهمة عضوية ونضالية، لكن ليس على الطريقة الماركسية، أو على طريقة الوضعية المنطقية ما دامت الميتافزيقا حسب هايدجر تراثا. والتراث هو ما لا يوجد خلفنا بل هو ما يقوم أمامنا؛ هذا ما يتجلى مثلا في الحداثة التي هي لحظة تاريخية فكرية أعادت تأويل الميتافيزيقا اليونانية على ضوء معطيات الفكر المسيحي، فكانت أنطوثيولوجيا onto-théologie من ديكارت حتى هوسرل الذي اكتملت عنده الديكارتية. فمع الحداثة وعت الإنسانية ذاتها بوصفها تحمل رسالة كانت شأنًا إلهيًا عندما غدت الذات [الترنسندنتالية] هي التي تؤسّس العالم. هكذا تمثلت مهمة الفلسفة حسب هايدجر في مراجعة ميتافيزيقا الحداثة من خلال مراجعة المفاهيم المؤسسة لحقولها (العقل، العلة، الروح المطلق التاريخ، التقنية...).
حوارات هايدجر مع فلاسفة الشك (نيشه، ماركس، فرويد).
بعد السنوات الثلاثين من القرن العشرين سيتحول النص الهايدجيري إلى حوار سرّي تارة وعلني تارة أخرى مع هؤلاء الفلاسفة الثلاثة الذين يقاسمهم صفة الفيلسوف ما بعد الهيجلي، الذي صار لا يأتي إلى الفلسفة إلا من خارجها. لقد كان حواره مع ماركس خفيا من خلا ل حواره مع كتاب: «العامل» لارنست يونجز حيث يصنع هذا الأخير مقاربة انطولوجية للمفاهيم الماركسية، ثم من خلال «رسالة في النزعة الإنسانية»1976،حول مفهوم التاريخية، ومع فرويد الذي لم يذكر اسمه في كتبه إطلاقا، لكن ذكره شفويا عندما أجاب إحدى تلميذاته التي ألحّت على سؤاله عن علاقته بفرويد قائلا: «نعم أنا فرويد». غير أن هذا الحوار كان معلنا مع نيتشه الذي كانت فلسفته تغنيه عن ماركس وفرويد، وتبرر صمته عنهما، لأنها تطويهما معا في بنيتها. وقد خصه بأبحاث مميزة منها كتاب تحت عنوان «نيتشه» في جزئيين، حيث يخرجه من التأويل البيولوجي النازي ليؤوله تأويلا انطولوجيا، ثم مقالةً بعنوان: «إله نيتشه « في كتاب: «دروب موصدة». وقد تبين لهايدجر، في قراءته لنيتشه، أن تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ العدمية، وهو ما تمثل في إشارة نيتشه إلى تلك الصدمة الأنطولوجية المعروفة بموت الإله. فكانت هذه الإشارة هي دافع هايدجر نحو التفلسف ونحو فتح ورش الميتافيزيقا /الفلسفة الذي سماه هايدجر تقويضا لها. وبذلك كان نيتشه حاضرا بقوة في فكر هايدجر (في فهمه للزمان، والموت، والحقيقة...). وقد تمخض عن مهمة التقويض هذه أن أشاح الفكر بوجهه عن مهمة إنتاج أطروحات أو يقينيات ومذاهب فصار انفلاتا منها وحذرا من جهودها. لقد صار إذن دروبا ومسالك له رفقاء وليس مريدين.
الأثر السري لفلسفة هايدجر:
تمثل الأثر الذي أحدثه هايدجر في الفلسفة والفلاسفة من بعده طريقا آخرا للاقتراب من فكره، وقد نجم هذا الأثر أولا من قوة فكره، وثانيا من نسجه لعلاقات قوية مع مفكرين آخرين خارج ألمانيا بسبب الحصار الأخلاقي والإعلامي الذي ضرب عليه بعد سنة 1933 بسبب تورطه مع النازية حتى إنه صار بفضل جون بوفري فرنسيا أكثر منه ألمانيا. كما أن أثره في الفكر الفرنسي كان قويا وهو ما تمثل في أعمال كل من بول ريكور ودولوز، الذي أنهى كتابه الاختلاف والتكرار بعبارة كلنا هايدجريون، ودريدا، وفوكو الذي صمت عن اسم هايدجر لكنه استثمره استثمارا مثمرا، والذي صرح لفرونسوا فال قائلا: «لم يؤثر علي فيلسوف مثلما فعل هايدجر». ولم يقتصر تأثير هايدجر على فرنسا وأوروبا وحدهما بل تجاوزهما إلى أمريكا واليابان.
دروب العودة التي فتحها هايدجر.
لقد فكر هايدجر في تاريخ الميتافيزيقا من منطلق العودة إلى منابعها، للتفكير فيما فكر فيه اليونانيون الذين صنعوا قدر هذه الميتافيزيقا، غير أن عودة هايدجر تختلف عن نظيرتيها لدى كل من هيجل ونيتشه. فقد عاد هيجل إلى اليونانيين بمنطق هووي يريد تملكهم من داخل ثقافة أوروبا أما نيتشه فقد عاد إليهم رومانسيا حيث أراد الوقوف عند الفكر لما كان يسجل بطولات، غير أن عودة هايدجر كانت أصيلة، يسميها الأستاذ إسماعيل مهنانة عودة نصية هيرمينوطيقية تريد تبيّن كيف تواشج تاريخ الوجود مع تاريخ النصوص لتوضيح كيف باتت نصوص القدماء تقطن نصوص المحدثين؛ بل إنه ذهب إلى التفكير مع اليونانيين فيما كان بإمكانهم التفكير فيه فلم يفعلوا.
هذه هي الدروب الخمسة التي يمكن أن نطرق بها فلسفة هايدجر حسب ما ذهب إليه الأستاذ إسماعيل مهنانة، والتي نستطيع بها استضافته بيننا، واستضافتنا عنده دونما تشوه أو تشويه لمواصلة ورش الفكر الذي نهض به مفكرون مقتدرون من عيار محمد سبيلا ومحمد الشيخ وفتحي المسكيني وعبد السلام بنعبد العالي وغيرهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.