من الصعوبة أن يتحدث المرء عن حسن بحراوي، الإنسان والصديق والكاتب والباحث والأكاديمي ومحب الحياة... فبقدر ما تتعدد صوره وأشكال حضوره ومحطاته الحياتية والثقافية المضيئة، بقدر ما لا تسعفنا العبارة، للملمة تفاصيلها الممتعة، والتعبير عنها بما يليق بمقام هذا الصديق الكبير، وبوضعه الاعتباري، وبتجربته، الحياتية والثقافية، الغنية والممتدة فينا، ما يجعلنا اليوم أمام إنسان ممتلئ بالطمأنينة وبالحياة، ومقبل على ملذاتها وشهواتها، بمثل امتلائه، أيضا، بعشق القراءة والكتابة، في تعدد مجالاتها الفكرية والثقافية والإبداعية والنقدية، ما يجعل حضوره مضيئا ومؤثرا في مشهدنا الثقافي والأدبي، داخل الوطن وخارجه. لذلك، فأنا سعيد أن أتحدث هذا المساء عن حسن بحراوي، باعتباره، أولا، أستاذا لي، أسعفتني الظروف على أن أقترب من أفقه الإنساني الرحب ومن فضائه المعرفي المتعدد، بحيث لم يكلفني الزمن كثيرا كي أحظى بصداقته، دون قيد أو شرط... حدث أن تعرفت على الصديق بحراوي، قبل أن ألتقي به أستاذا لي بكلية آداب الرباط، عام 1982. يرجع الفضل في ذلك لأخي عبد الله، الذي كان يحرص على أن أرافقه، وأنا ما أزال تلميذا بالثانوي، لزيارة بعض أصدقائه بالرباط، في إطار شلة بديعة، تفرقت أواصرها اليوم، وكان حسن من ضمنها أعضائها النشطين. لكن علاقتنا تعمقت أكثر، بعد ذلك في المرحلة الجامعية، في حضرة مسرحية «الملك أوديب»، لتتقوى صداقتنا فيما بعد، وتزداد درجة حميميتها، إلى مستوى ارتفعت فيها عند حسن إلى مرتبة الأخ، بمكاني في البيت، وبكسكس الجمعة، وبفطور رمضان، وبممارستنا لرياضة المشي، وأيضا بلحظات سمو وانتشاء، تمتد، أحيانا، إلى أن يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الليل. لكن البداية الحقيقية لتعارفنا، كانت ذات مساء من العام 1990، لما زرت حسن بحراوي، بناء على موعد، في بيته بإقامة الصباح، حملت باقة ورد، وتوكلت على الله، دخلت البيت، فواجهتني، للوهلة الأولى، لوحات تشكيلية، اكتشفت أنها لحسن طبعا، فقليلون من يعرفون أن حسن بحراوي، يمارس، أيضا، الرسم والتشكيل، إلى جانب كتابة القصة والشعر. كم أسعدني أن تكون مجلة «آفاق»، أول دورية تحتضن إبداعه الشعري، كما احتضنته لآخرين قبله... ما أعتبره شخصيا مجرد رد دين صغير تجاه ما قدمه حسن لاتحاد كتاب المغرب، أليس هو المؤرخ الشرعي والوحيد لمنظمتنا... جلسنا بالصالون، وتسلمت نسخة من كتابه الرائد في مجاله «بنية الشكل الروائي في الرواية المغربية»، فإذا بي أمام ترحيب خاص من حسن، امتد إيقاعه إلى اليوم، لتجد نفسك، في كل مرة، أمام دعوات كريمة، ومحبات جميلة. حسن بحراوي، من أكثرنا ارتباطا بالتربة المغربية، وبالمخيال الشعبي المغربي، في أبعاده وتجلياتها وجغرافياته المختلفة، مثقف ذكي و»شيطان»، كما يهمس لي دائما الصديق بوخزار، عند حديثنا عن الحضور الثقافي لبحراوي؛ ذكي في التقاط تفاصيل اليومي المغربي وفي الانتباه إلى خصوصياته، لذا، تجده دائما تائها في أماكن معلومة، في الأسواق الشعبية، التي خبرها حسن على امتداد التراب المغربي، وفي الجوطيات، حيث تتسلل إلينا بعض الأشياء المفتقدة، وفي الحمامات الشعبية، حيث يستعيد الجسد حيويته من سهر الليالي، وفي الأحياء الشعبية، حيث ينتعش الرومانيسك الشعبي، وفي النادي حيث شلة الأنس والأدب والسينما...، أو في جلسات طرب مع العيطة وحجيب، مبتعدا بذلك عن الأضواء والبهرجة المصطنعة، ليعوضها بتلقائية اللحظة وبحميمية الأشياء والوجوه والأمكنة... مقتنيات بيت حسن تشكل متحفا دائما للأشياء النادرة، لن تجدها سوى في بيت حسن، وقد أتت على فضائه العام، هو المغرم بجمع التذكارات العجيبة، من المغرب وخارجه. تلك هوايات ونزوات، انقرضت اليوم، للأسف، وانمحت من ثقافتنا الشعبية، واختفت من سلوكنا اليومي، لكن حسن بقي وفيا لإغرائها، عاشقا لها ولتلك الروح الدفينة، بمثل وفائه لتفاصيل حياتنا الصغيرة، تلك التي أصبحنا نحن نتنكر لها مع كبر أوهامنا وتزايد انتفاخ ريشنا.. هل حدث أن جمعتكم لحظة سفر ما مع حسن، داخل المغرب أو خارجه. أنا كان لي شرف ذلك، لكن احذروا السفر مع حسن، واطلبوه في الوقت نفسه، فكله مفاجآت وغرائب ومتع وفرح وانتشاء، بما ستولده لكم هذه الرفقة أو تلك، من حديث ذي شجون، سرعان ما سيصبح جزءا من معجمنا الذي نتداوله اليوم... وتلك حكايات قد يطول سردها... هذا على المستوى الإنساني العميق. أما على مستوى البحث والنقد، فمن المعروف، عن الأستاذ بحراوي، أنه باحث رصين ومتمكن، في مراهنته على المغامرة في البحث والقراءة. والمتتبع لكتبه ودراساته ومقالاته، سوف يلمس عن كثب أن المغامرة في طرق الموضوعات والأسئلة الجديدة، هي التي تشكل أفق السؤال الفكري والتحليلي في كتاباته وحفرياته، عدا كونه ناقدا وباحثا بامتياز، في مجال الثقافة، العالمة والشعبية. فمن بين اهتماماته النظرية والنقدية الأساسية، على سبيل المثال، كون حسن بحراوي، من أهم الباحثين والنقاد المغاربة، السباقين إلى قراءة المتن الأتوبيوغرافي المغربي، قبل غيره، ممن ارتبطوا اليوم بهذا الجنس الأدبي، نقدا وبحثا، متوسلا في ذلك بمرجعية نظرية ومنهجية وتحليلية حديثة، إذ يعتبر بحراوي أول باحث مغربي، تفاعل، بشكل لافت، مع «نظريات الأتوبيوغرافيا»، كما بلورها المنظر والباحث الفرنسي فيليب لوجون، في كتبه النظرية والتحليلية التأسيسية، وتحديدا في كتابة الشهير «الميثاق الأوتوبيوغرافي»، قبل أن يتعرف النقاد والباحثون، في المغرب وفي المشرق العربي، على لوجون، ويقبلوا على استثمار نظرياته ومفاهيمه في أبحاثهم، وفي تحاليلهم للسيرة الذاتية. ويمكن الإِشارة في هذا الصدد، إلى دراسة حسن بحراوي الشهيرة حول «أنساق الميثاق الأطوبيوغرافي»، المنشورة، في زمن متقدم، ضمن بحوث العدد 3 و4 من مجلة اتحاد كتاب المغرب «آفاق»، عام 1984. ولدراسة حسن بحراوي السابقة فضل كبير علي شخصيا، فهي الدراسة التي تفتق معها وعيي ومداركي، في مرحلة سابقة، على سؤال الأتوبيوغرافيا عموما، بل وحفزتني تلك الدراسة لحظتها، على اقتناء كتب فيليب لوجون التأسيسية، وأنا بفرنسا، في محاولة لتوظيف جهازها النظري والمفاهيمي، في تجربة جامعية للاشتغال على سؤال الأتوبيوغرافيا في المغرب، عام 1986. عدا، ذلك، يعرف الأستاذ بحراوي بترجماته الرصينة، والتي بلغ صداها المشرق العربي، فضلا عن كتبه وحفرياته في «أصول المسرح المغربي»، و»حلقة رواة طنجة»، و»فن العيطة في المغرب»، وكتاباته المضيئة لبعض ظواهرنا الثقافية والمحتفية ببعض رموز الثقافة والأدب والفن في المغرب: عبد الصمد الكنفاوي، وبزيز وباريز، وناس الغيوان، وبول بولز، والعربي العياشي، ومحمد المرابط، وبوشعيب البيضاوي، وفاطنة بنت الحسين، ومحمد بوحميد، وعبد الكريم غلاب، وغيرهم. وبذلك، يكون حسن بحراوي قد حدد لنفسه توجها مغايرا واستثنائيا في البحث والدراسة والتنقيب والحفر في الأصول والجذور، وفي الذاكرة والسير والمفاهيم والرموز، من منظور فكري ونقدي وتحليلي، يكاد بحراوي ينفرد به بين أقرانه، عبر انتباهه الذكي إلى مثل هذه الأسئلة والقضايا والموضوعات، غير المفكر فيها بهذا المستوى من التحليل والقراءة وإعادة الكتابة، فضلا عن دراسات أخرى متميزة لحسن بحراوي عن السيرة السجنية والرواية البوليسية والسينما في المغرب، وغيرها من أشكال الحضور، تلك التي تبرز حسن بحراوي باحثا متمكنا في مجال اهتماماته وانشغالاته الثقافية والنقدية، بما يعني، هنا، أن حسن بحراوي ما فتئ يشتغل، بتأن وذكاء، في إطار مشروع فكري ونقدي يكمل بعضه بعضا، ويمتد بعضه في بعض، من بين أجمل تجلياته وخصوصياته، كونه مشروعا يشتغل على البعد المغربي تحديدا، في صوره وتمظهراته المختلفة، الفنية والأدبية والثقافية والفكرية، خارج أية خلفية شوفينية، قد لا يستسيغها الشرط الثقافي العام اليوم. قدمت هذه الورقة في اللقاء الاحتفائي بالأستاذ حسن بحراوي، من تنظيم حلقة أصدقاء ديونيزوس، بأحد مطاعم الدارالبيضاء، بتاريخ 30 ماي 2014.