الشك هو أيضا من ضمن العناصر التي تمارس تفكيكها العنيف على الحقيقي، فالارتياب من مصداقية الشيء الناتج عن حضور شبهة ما ، بسبب حدوث تماه مع حالات مماثلة ، أو بسبب تضاعف الحاجة إلى الحذر من أجل توخي الحد الأقصى من التقنين و التأطير، يؤدي حتما إلى تفاقم حالة مزمنة من التشويش على المسار المعتمد في الذهاب إلى ما يعتقد أنه حقيقي . كما قطرة ندى ضائعة في دغل ليلي، أو فقاعة تائهة في أعالي المحيطات،تلك هي ‹›حقيقة الحقيقي›› التي ستظل موضوع سؤال وموضوع غواية، سواء بالنسبة للخطابات الفلسفية أو الإبداعية، دون أن يُفقدها تتالي الأزمنة، وتتالي القراءات، شيئا من جمالية التباسها وهي تراوح بين ظهورها المضلل، و بين احتجابها الواعد دائما بدُنُوِّ لحظة رفع الحجاب، التي ستظل مؤجلة باستمرار، بما يفسح المجال ودونما كلل، لحضور تصورات جديدة و مغايرة لمفهوم الحقيقي، والتي لا تكف عن ادِّعاء قدرتها على الإشارة إلى ذلك المكمن المحتجب، حيث دأبت حقيقة الحقيقي على الإقامة في حيز غامض منه. ولعل السر في استمرارية هذا الاحتجاب ، يعود إلى مجال اشتغالها الشبيه ب»حقل الإجهاض «الذي تتولى تدبيره «ديناميةُ المغالِط»ِ، باعتبارها أصلا أبديا وكونيا، يتميز بدوره الكبير في إحداث فوضى الالتباس، وفي تفكيك التركيز الذي يحاول التلقي أن يتموضع فيه، بما يؤدي إلى تصعيد دوار الغفلة، الفاعل في تحجيب شرط التعرف، و في انمحاء شرط التحديد، كي تظل بالتالي تلك القطرة اللآمرئية، في مأمن من أعين المتربصين بلحظة انكشاف حقيقة الحقيقي .ذلك أننا سنكون أمام هذا التساؤل، معنيين بتقليب دلالتها، بالنظر إلى ما يشوبها من التباس، خاصة و أنها ليست مجرد ذات، متميزة بمواصفاتها الدقيقة و المحددة التي لا تخطئها عين من يسعى إلى تمييزها بين ذلك الركام الهائل من ‘‘الذوات المزيفة‘‘ بالنظر إلى أن فعل إدراك حقيقة الحقيقي، يتوقف على طبيعة الإواليات الموظفة في تكريسها، والتي يمكن أن تلعب فيها الصدفة الاستثنائية دورا أساسيا، لا يمكن أن يكون رهن إشارتك دائما، أي فور تفكيرك فيه. غير أن ما يستبد باهتمامنا في هذا السياق، هو ذاك العنصر المتجلي في خاصية التلفظ ب «الحقيقي» الذي يستمد قوته وهيبته الإجرائية مباشرة من عامل الجهر بوحدته اللغوية المحيلة عليه في ذاته، حيث أن مجرد التلويح بها في وجه المتلقي، يكون سببا وجيها لتهيئته سيكولوجيا، كي يقتنع بالخطاب المتمحور حول الموضوع المعني بالحقيقي. فمجرد تلقيك لكلمة الحقيقي، سيغنيك عن بذل أي مجهود مفترض في البحث، بفعل استعدادك الطبيعي للاعتقاد بحقيقة ما صرَّح مخاطبك بأنه كذلك، وهو الاستعداد الذي يحرر المتحدث من الأشباه الطوفانية والمزيفة ،التي تَحُول عادة دون تعرفك على الصورة المقصودة والضائعة بين غابات متداخلة من الصور «اللاحقيقية « ، لأن الإشكال المركزي بالنسبة للكائن، يكمن في تخبطه، وفي تيهه المعرفي الناتج عن تشابه الصور المؤدية إلى حجب ما يمكن اعتباره الصورة الحقيقية، بالمفهوم الأيقوني للكلمة، باعتبار أن الأحداث والأفكار والأحاسيس والخطابات و الاهتمامات، وبقوة تعالقاتها الشبكية ،تأخذ إلى حد ما شكل صور متشابهة من حيث الظاهر، برغم مما يتخللها من تنويعات لانهائية. ذلك أن الذات في خضم تدبيرها لفقْدٍ ما، وفي خضم احتداد حاجتها للعثور على ما تعتبره ضائعا، و معنيا بالاستعادة أو التملك، تصاب حتما بعمى الأشكال الذي غالبا ما يؤدي إلى الاحتجاب التام لما نتوهم أنه حقيقي، والذي لا نتوفر على معرفة تامة بملامحه وصفاته، لأن الملامح الأساسية لصورة الحقيقي تتجسد أساسا في الهيئة التي يُتلفَّظ أو تنكتب بها وحدته اللغوية، أما ما عداها فليس في الواقع سوى تكثيفٍ وتضخيم ٍ لما يحيط بها من هالات، كما أن هذه الملامح تتشكل من خلال الاستئناس العام والشامل بما تعتبره التعاقدات الثقافية والمواضعات الاجتماعية حقيقيا، و الذي قد يكون لسبب أو لآخر، بعيدا جدا عن جوهر الدلالة المطلوبة، حيث يتم إسقاط الحقيقي على شكلٍ، موضوعٍ، حدثٍ، أو خطابٍ غالبا ما يكون مُنَّزها بشكل تام عن الحقيقية، خاصة حينما يكون هدف الإسقاط هو تحديد الخط الفصل بين المتخيل وبين الواقعي، في سياق ذي طبيعة براغماتية تستدعي ضرورة القيام بهذا الفصل، باعتبار أن العادة جرت بإدراج كل ما ينتمي إلى الواقع في إطار الحقيقي، الذي يجب التأكيد على أنه من أكثر المفاهيم التباسا، وحساسية، خاصة حينما يوظف في مقامات جد حاسمة و مصيرية بالنسبة للأفراد أو الجماعات، كما هو الشأن بالنسبة للإشكاليات الفكرية والعقدية، وهو الحسم الذي تنعكس سلبياته أو إيجابياته على المسارات التي يتورط الكائن في اختيارها. وكما هو معلوم، فإن المستويات الدنيا للحقيقي، توظف عادة في السياقات العامة والمشتركة المتعلقة باليومي والمعيش، وهي السياقات التي يستمد منها قوته الإجرائية – بصرف النظر عن مصداقيتها أو عدمها- في عملية الفصل بين الواقعي والخيالي، لذلك يمكن القول إن الحقيقي بمثابة أداة محورية تُعتمَد في تعزيز موقف المتحدث، بما يحيل عليه الموقف من دلالات لها صلة بالبعد الاعتباري للذات المتحدثة، أو الكاتبة. من ذلك مثلا، تأكيد القوة الإجرائية لملكة الحكم ، وإثبات الكفاية التدبيرية ، و التمكن من ضبط وتوجيه مجرى الخطاب ،بما ينفي أية نية مبيتة للتدليس أو التمويه في تقديم الحقيقي، لذلك فإن المستهدَف بالتقديم، ليس هو الموضوع المعني بالتأطير، بل الذات المتلفظة، التي يتحول معها موضوع الحقيقي، إلى مجرد ذريعة لتأكيد «عبقريتها وتوازنها» وكل هذه العناصر تلعب دورا أساسيا و مركزيا ،في تضخيم حالة الالتباس المتعلقة بحقيقة الحقيقي، علما بأن الحد الأدنى من التصور المتواضع عليه، و الذي يكون عادة موضوع مساومات، غالبا ما يُستمد من النتائج المترتبة عن الأخذ به، أو تركه، وخاصة في ما يتعلق بالمعاملات العامة، حيث تتوافر كافة الشروط لتحقيق تفاهم مرنِ وسلس، لا يستدعي إثارة أي جدال أو نقاش، من شأنه إثبات أو نفي صفة ما من صفات الحقيقي، على أساس اندراج الموضوع المعني بالتعاقد- ربما- في حكم ما هو متعارف عليه عمليا ب «المسلمات» التي هي نوع من التأطير الموظف في تعميم غير قليل من المغالطات التي لا تحظى باهتمام الملاحظ، بالنظر إلى وقوعه تحت جاذبية «المُسَلَّمَةِ» التي تصرفه عن الاهتمام بما يتخللها من بياضات وثغرات، قد يكون الانتباه إليها سببا مباشرا وموضوعيا في تفكيك بنية المسلمة، وهو بعض من الخلل الدائم والمستوطن في ملكة الحكم والتقييم، باعتبار أن المسَلَّمةُ هي أيضا أسوة بالحقيقي، تستمد سلطتها من منطوقها اللغوي والدلالي، ومن سريان مفعولها المتجذر في الوعي المجتمعي و ذاكرته، فنادرا ما يراعى في القضايا المتمحورة حولها، ما يمكن أن يطالها من تحول وتغير، بفعل ما يعتري تموضعاتها من تبدل داخل هذا السياق أو ذاك . ومن المؤكد أن‘‘ المسلمة‘‘ تتواطأ مع الحقيقي في ترسيخ الوهم بوضع اليد على الصورة الصحيحة الضائعة بين الصور المزيفة. من هنا يمكن القول، إن الدور الأساسي الذي تضطلع به مقولة الحقيقي، يتمثل أساسا في تثبيت وجهة نظر الذات تجاه موضوع ما، بمعنى أن الأمر يتعلق بحرص الذات على التمركز في محيطها، بتأمينها لموطئ قدم فيه ، عبر توظيفها لكافة العناصر الكفيلة بذلك، لأن تأكيد وإثبات الذات لمواقفها تجاه ما هي بصدد التفاعل معه، سياسيا أو إبداعيا أو مجتمعيا، هو الذي يمكنها من حظوة التموضع في ذلك المكان المثالي، الذي تطمح إلى حفر توقيعها عليه. ووِفْقَ هذا الطرح الملتبس دائما، سيكون الحقيقي هو ما «يتحقق فيه التكامل» المستوفي لكل عناصره، والمؤهل للارتقاء إلى مستوى متقدم، يخول له إمكانية القيام بمهام تعميم حالة الرضا أو حالة النفور. عدا أن هذا التصور لن يلبث أن يتداعى حالما يُستحضر على مستوى الفعل الإبداعي، المؤطر بقوة التخييل، حيث سيتضح لنا وبالملموس، أننا بصدد نسق مضاد ،يتمثل في تمركز السلطة التخييلية، التي تُزوبع هذه الثوابت، من منطلق تخصصها المتميز في إنتاج عوالم على درجة كبيرة من الواقعية، والتي تفوق واقعية الواقع الذي يستمد منه الحقيقي سلطته. وهو الإشكال ذاته المعبر عنه إلى حد ما في الأحلام، كما في الكوابيس ،حيث تُعاش حقائق أكثر حميمية ،وأكثر عنفا، من تلك المعيشة في اليقظة، وهو ما يساهم في تعتيم الإطار الطبيعي الذي توضع فيه عادة إشكالية الحقيقي، المقترن بحده الواقعي المعيش والمحسوس . ولعل مصدر الإشكال هنا، يعود إلى ذلك الالتباس القائم بين فضاءات الواقع وبين فضاءات الحلم ، والمؤدي إلى حالة مركبة من الخلط .أيضا، هناك معضلة الشك أو بالأحرى امتيازه الذي عودنا على إجهاض الكثير من الحقائق المعيشة واليومية ،فالشك هو أيضا من ضمن العناصر التي تمارس تفكيكها العنيف على الحقيقي، فالارتياب من مصداقية الشيء الناتج عن حضور شبهة ما ، بسبب حدوث تماه مع حالات مماثلة ، أو بسبب تضاعف الحاجة إلى الحذر من أجل توخي الحد الأقصى من التقنين و التأطير، يؤدي حتما إلى تفاقم حالة مزمنة من التشويش على المسار المعتمد في الذهاب إلى ما يعتقد أنه حقيقي، وكلها عناصر تُقوِّي من سلطة الجمالي، على حساب التقليص من سلطة الحقيقي، والتي يحدث وبفعل كافة الموانع التي ذكرناها، أن تنسحب لتفسح المجال إلى الجمالي الذي يملك القدرة على السيطرة التامة والمطلقة على المتلقي .إنه يستطيع أن يتسرب إلى إواليات المنطق والواقع والعقلانية كي ينسفها تماما، من أجل إملاء شروطه المحتكمة إلى إوالياتها المغايرة في تحديد حقيقة الحقيقي.