يأخذ المنتزه هنا شكل حدس وتكهن، باحتمال وصول نداء غامض قادم من إحدى الجهات المنسية في أرض الحروف. إنه النداء المتوقع حضوره دائما والذي ستكون ملزما بالإنصات إليه قبل أن يتحلل في فضاء الإنكار أو الإهمال، باعتبار أن ما يُتوقع حضوره،هو أحد الشروط الأساسية والمركزية لوقوع حدث انقلاب الكتابة على ذاتها، حيث يهجم ذلك الضوء المباغت على المكان، كاشفا عن ملامح حروف وانحرافات جديدة، مقبلة لا محالة على تشكلها في ثنايا السديم.بهذا المعنى يكون لحضور المنتزه/المتسع دلالة إشارةِ أرضِ الكتابةِ إلى انفتاحها على حيزها الاحتياطي المخصص لاستضافة توقعات حتمية، ترجُّ أسئلتها الأركان والأنحاء،كي تتنازل عن محدودية ما يتوزع عليها من رسوم ومقامات وكي تباشر معه متعة استقبالها للمزيد من احتمالات القول واختياراته، حيث تحضر بقوة ، إمكانية قلب وجهة المسارات ، وإعادة فتحها على أرضية منذورة لتعاقب التحولات. إن إقرار الكتابة بالحضور الضمني للمنتزه الكامن في تضاعيفها هو ما يمنح القولَ فرصةً استثنائيةً لاستشراف أكثر من كينونة وأكثر من وجود. إلى جانب تأقلمه الحثيث ليغدو ملاذها منتزهها، أو مختبرها الذي تستبدل به محنة الإقامة في الدائرة المكرسة بسلطة آلة التكرار. الإقرار بحضور المتسع أيضا، يبيح للآمتوقع، مداهمة سكونية الدائرة من أجل إحداث ذلك الشق الذي تتدفق منه العناصر في اتجاه بحثها عن إيقاعاتها الجديدة وعن بنيات وانساق واثقة -ولو مؤقتا -من إمكانية الظهور الملموس لمحتمل ملامحها. تنفرج أسارير المتسع وقد غدا منتزها آنا أو مختبرا، من قلب نزوع الكتابة إلى إحداث ذلك التأليب المتبادل بين الداخل النصي وبين محيطه الخارجي، بما يُحدث نوعا من الانفتاح القسري الذي يتشكل به ومنه فضاء المتسع، إذ بدون هذا التنابذ/التعاشق المتبادل، يتعذر الحديث عن علاقة تفاعلية بين الداخل والخارج، وبالتالي يتعذر الحديث عن متسع مُوَلِّدٍ لامتدادات الكتابة ، بعيدا هناك على حواشي النار، كما على حواشي الماء، حيث تتسع مساحة الاختلاف، كما تتضاعف حدود إنتاجية أنساق القول ولغاته. محو الافتراضي للطبيعي في رحاب المتسع ذاته، والمنبثق من ثنائية رؤيتين متكاملتين تبدو الطبيعة من وجهة نظر الكتابة على سبيل المثال لا الحصر وفي مادتها الخام كما لو كانت مقبلة على إعلان انسحابها من حيوية مشهدها العيني، بعد اقتناعها بهيمنة الافتراضي على اهتمامات الكائن، وبعد إحساسها بتحولها إلى عبء ينبغي تفاديه، وفي أحسن الأحوال، يُكتفى بملاحظته افتراضيا، حيث يبادر السؤال بالاستفسار عن عبث الوقوف قبالة هذا البركان، أو قبالة هذا البحر، مادامت ثمة إمكانية شبه حقيقية للإقامة في بطن الحوت، وتقليب باطن البراكين بيد جد باردة، ومرافقة الطيور الغريبة إلى مهاجرها المعلومة أو المجهولة. ذلك أن الطبيعي أمسى مطالبا بملازمة خلفية الصورة، بدل اكتساحه القديم لمجال الرؤية والاهتمام، سواء على مستوى الوظيفي أو الجمالي. هكذا ربما سنظل في حاجة دائمة إلى مفاهيم جديدة، قد تسعفنا في تأطير هذه الانقلابات المتوقعة، مادامت المفاهيم القديمة تظل أبدا محتفظة بسلطها القديمة، والقادرة على تكييف كل توجه طارئ مهما بالغنا في تحديثها. وما دمنا في سياق الإشارة إلى تلك العلاقة المتوترة القائمة الآن بين كل من الافتراضي والطبيعي، فإننا سنذكِّر بسلطة ذلك المفعول السحري، الذي تمارسه الحداثة على ساكنة أكوانها من خلال إحداثها لتلك الرجة العنيفة في سكونية الطبيعي كي يندمج رمزيا وجماليا ضمن الأفق الافتراضي الذي يبتلع بٍشَرهٍ قياسي كل الأجساد والأرواح المتطلعة إليه. وهي رجة تتحقق تباعا وفق تقنية مركبة، جوهرها التزييف وظاهرها التحميل السهل والمرن لما يتعذر تحميله أو تبادله بشكل طبيعي وتلقائي. وسواء أسقطنا على -التزييف/التحميل- هذا التوصيف أو ذاك فإنه يظل أحد الأسلحة الفتاكة والأنيقة التي توظفها سلط الحداثات الماكرة في صيغة جرعات تخديرية وبلسمية، كفيلة بترويض الأجساد والأذهان على التلذذ بفتنة تذويب الطبيعي في أتون الافتراضي. فبفضل هذه الجرعة المبرمجة يتسرب الواقعي في مفاصل الحلم، يجمله ، يشذبه من أشواك القسوة و القبح. يدجنه، يفرغه من عدوانيته، ثم يضعه رهن إشارتك، وقد شحنك بوهم قابليته للامتثال إلى ما يتأجج فيك من أهواء ومطالب، وباستعداده لمحاورتك باللغة التي يرتضيها التلقي. الاطمئنان لمنهج الرغبة من المحتمل أن الزج هنا بمفارقة الطبيعي والافتراضي، ليس سوى ذريعة للتأكيد على أن الأمر– أيَّ أمر- لا يتعلق بالاستجابة إلى منطق موضوعي أو معقلن، بقدر ما يتعلق بالامتثال إلى اطمئنان باطني يتوجه رأسا إلى اختيار ما، كي تتم ملاحظته في قلب المتسع ، كما يتعلق بميل مبرر بنداءاته في تبني منهجية، رؤية، مفهوم أو خطاب. وهي النداءات الوثيقة الصلة بمجموع تلك الأحوال الانفعالية، التي تعمق في الذات حضور ثقة مطمئنة، لن تحظى بمصداقيتها إلا على ضوء إكراهها للعقل، من أجل إسعافها بمراهمه التجميلية، كي تتمكن في نهاية المطاف بالعبور من قرابة الانفعالي، إلى موطن الفكري، وإن اقتضى الأمر إنجاز عمليات تجميلية/جراحية/ تتوخى زرع /بتر/ استبدال أعضاء بأخرى، مادام الأمر يتعلق بتوظيف مكامن القوة، من أجل إنتاج أجساد جديدة. بما يعني فصل ماله علاقة بالجثة، وتوصيل ماله علاقة بالجسد أو بالروح، حيث يتحقق الطمس النسبي لثنائية الحياة والموت، والانزياح بلعبة التفكيك من بعدها التطهيري، لتتحول إلى طقس إبداعي، يتجسد في إعادة خلق وإنتاج ما كان من قبل آيلا إلى زواله، ضدا على الحراسة المشددة التي يمارسها الزمن، في الفصل الصارم بين ما كان وما سيكون . ذلك أن روح الاطمئنان، أقوى من جوهر العقل الذي يحدث أن يشتغل بانسجام تام مع إوالياته، حينما يخلو له المجال كي يستفرد بموضوعه في غياب أي حضور للرغبة أو الميل. حيث سيتأكد أن اطمئنان الرغبة واطمئنان الميل بتعدد مستوياتهما، وباختلاف الأنساق التي ينتميان إليها، هما في الأصل مصدر كل سلطة مؤطرة وموجهة. ذلك أن الاطمئنان عموما إلى متسع/منتزه ما، سيؤدي حتما إلى اصطفاء مفهوم/مفاهيم دون غيرها، عبر إقصاء المفاهيم المجاورة، بصرف النظر عما يمكن أن تتميز به هذه الأخيرة من أهمية أو راهنية. علما بأن المفهوم غالبا ما يعيش تناغمه، وطمأنينته في عمق ليل مفازته الشخصية، والتي يمكن أن تعيش امتداداتها من خلال تعميم اختراقاتها لمجالات المشترك، كما يمكن أن تتبخر، كلما فتح العنصر عينيه، كي يلفى نفسه وحيدا في قلب المفازة، وقد تحولت خلسة إلى ما يشبه الجحيم. رهاب نشوة المنتزه إن حالة الاطمئنان التي يحدث أن يتم على أساسها بناء منظومة مفاهيمية، من منطلق الاستفادة من هبات المنتزه/المتسع، قد تكون مثار شك وريبة من قبل القراءات المنحازة إلى اطمئنان آخر مضاد/مغاير، جوهره الإخلاص إلى ملازمة شاطئ الأمان الذي لا مكان فيه لحضور أي متسع/مختبر، قد يفاجئ القراءة بانقلابات لا متوقعة، من جهة صيغة تشغيلها للمفاهيم أو الأنساق، كما لو أن ثمة حرصا شرها على تطويق ما يُتوقع انفصاله وضياعه، وهوسا ببلوغ سكن المعنى، مادامت المتسعات المنزاحة عن أراضي الكتابة، قادرة على خلخلة مواقع الإشارات، وكذا إحداث غير قليل من الالتباس في تمييز المسارات الصحيحة عن المسارات المضللة، إلى جانب توطينها لرُهاب الخسارة الناتجة عن احتمال التعرض لمزالق تيه، قد يحرمها من حظوة الفوز بتتويج الوصول، الذي يكسب العبور مصداقيته المكللة بثناء يخول له حظوة الانصهار في بوثقة المشترك. علما بأن استعجال الوصول لا يلغي احتمال السقوط القاسي في الأخاديد المتوزعة على امتداد ظلمة الدلالات ، كما لا يلغي احتمال حضور حالة الإحباط الناتجة عن وصول مبكر لا علم لأحد به، حيث لن يكون ثمة من ينتظرك، وهو ما يفقد الوصول سلطته، ضدا على ما يكون قد اهتدى إليه من أحكام أو قوانين أو منظومات. حيث سيكون من الضروري طرح ذلك التساؤل الإشكالي، المتعلق بجدوى أن يكلل جهد سفر منفتح على هباته الغامضة واللآمنتظرة، بجزاء غريب عن طبيعته، وهو جزاء الوصول؟ لذةالبطء ومتعة أن لاتصل تذكر جيدا أن سفر الكتابة قد يمضي بك بعيدا إلى منتزهات لا علاقة لها بتلك الوجهة المرسومة سلفا، أي إلى تلك الوجهة التي ليس لك أن تجد فيها من يبتهج بوصولك. والتي قد تكون فضاء مغايرا لا علاقة له بالفضاء المنتظر. أو لربما تكون مرتكز نزوح إلى وجهة أخرى، علما بأن الخيبة ستظل حاضرة في الحالتين معا، متمثلة في استحالة تطابق منهجية السفر/ البحث، مع الصورة التي يتقمصها عند نهاية مطافه. وإذا كانت الخطى تسير مؤطرة بغايتها، فإن الغاية هنا وفي السياق الذي نحن بصدده غير مقننة، لسبب جد بسيط هو عدم تقيدها بأية نهاية منتظرة، إلى جانب كونها مطالبة دائمة بمضاعفة طيها للمسافات المشرعة أمامها ، وبتوسيع المهاوي الفاصلة بين الضفة والضفة تلافيا لأي تطابق محتمل. بين منتزه الحدس ومسكن الفهم إن الفهم هو المحفز الذي يتقوى به الحدس الذي يستمد قوته من رغبته في مغادرة منتزهه للمضي حثيثا باتجاه مسكن الفهم باعتباره أفق انتظار الحدس بامتياز. حيث سيكون الحدس بهذا المعنى بمثابة فهم مسبق وقبلي. كما سيكون الفهم بموازاة ذلك، المكسب المؤجل الذي يراهن الحدس على تحقيقه. وحيث إنه مؤجل فالحدس غالبا ما يقوم مقامه في حالة غيابه، كتعويض مؤقت، وكتفويض إبدالي يبرر الحق في الإحاطة /امتلاك/الموضوع ، حيث يوجد دائما ثمة حدس بحضور ما. أحيانا تصرفنا سلطة الحدس عن اجتراح الطريق المؤدية إلى الفهم. ومع ذلك وبالرغم من الأهمية الكبرى التي يتميز بها تحقق الفهم، والمؤدي إلى انكشاف الغموض وارتفاع الحجب التي تمنح الذات فرحة الاعتداد بسلطتها، باعتبارها ذاتا قادرة على تجلية الغموض. بالرغم من ذلك، أقول، فالفهم لا يخلو عادة من نوع من المزايدة والمصادرة على ما سيظل دائما شبه غامض، وشبه ملتبس، و لربما هو في الطريق إلى الفهم أو إلى غيره. إن الفهم من وجهة نظر الكتابة، ينتمي إلى عائلة المتعاليات، والتي تضطر في أكثر من مناسبة إلى الامتثال إلى سلطنا الأرضية ولو ظاهريا. الفهم يفهم ذلك جيدا. الحدس هو أيضا وعلى غرار الفهم، ينسجم تماما مع منطق النسبي، ومع منطق المراوحة بين أكثر من منتزه، وفي أكثر من دلالة. كما أنه لا يعرض العقل لأي إحراج ذي طبيعة اختباريه، باعتباره مجرد حدس قابل لأن يتحول إلى فهم، كما هو معرض للفشل دون أن تطعن هذه المراوحة في مصداقيته. الحدس أيضا يُبقي العقل على مسافة. خلافا لما هو عليه الأمر في حالة الفهم، والتي هي حالة التورط الفعلي في نهاية مطاف إشكال ما. المجاز باعتباره منتزه الكتابة الكبير إن الكتابة بما هي فكر آخر، تخترق بسلطة بصيرتها حدود بصيرة العقل، ربما بفعل تشكلها عضويا من طين المجاز، وبفعل انبثاقها من صلبه وترائبه، باعتباره منتزهها المطلق الذي لا يشاطرها ملكيته أحد سواها. طبعا لا تتضمن هذه الإشارة قولا بقطيعة قائمة بين العقل وبين المجاز، فالعقل قد يطمئن أحيانا إلى منادمة المجاز لكن عن بعد، وفي حيز دلالي جد محدود، لأن منطق انتشاء المجاز/ اشتغاله، لا يتوقف عند الكأس الواحدة كما هو الشأن بالنسبة للعقل، ربما لكونه قد خلق من قلب لحظة سكر طافح، ليس له أن يفيق منه، حيث لا وجود للكأس الأولى و الأخيرة، بل حيث لا وجود للكأس أصلا. وهو ما يعني أن ديمومة السكر، بما هي ديمومة تقليب آخر وتوليد أخر للدلالة، تقتضي انتماء دمك عضويا إلى دم دالية القول الجدير بانكتابه، علما بأن منتزه المجاز في حالة تعرضه لحالة الصحو سيتحول رأسا إلى جنون لا قِبل لصحوة العقل به، وهو ما قد يزج بنا في فوضى كونية لا قِبل للأرض ولا للسماء بها. لذلك من الأوْلى أن يظل العقل حيث هو عقلا، وأن يظل المجاز مجازا، ولتبق كل منادمة محتملة بينهما في حكم تماس لا يطوله تواصل قد يفسد للدلالة قضية. إن خصوصية الكتابة تتمثل في الانصهار القائم بين خطاب المجاز وبين خطاب العقل. هذه الازدواجية الموحدة والمتنازلة عن ثنائيتها هي التي تسمح لها باقتحام جميع الفضاءات المنتشرة حولها كي تحولها في نهاية المطاف إلى متسع/ مختبر/ منتزه ، تبسط عليه كلما تمتلكه من أياد، و لغات.