«كتاب النهايات»نصوص المحبة والزوال» (منشورات فكر،الرباط،2011)،عنوانان متكاملان أثبتهما قلم أحمد المديني على ظهر غلاف كتابه الأخير، وقد غطته لوحة سديمية منفلتة من قلب غروب ، تكابد فيه مياه بحر ما على البقاء تحت سماء،هي أيضا آيلة لفنائها. كتاب تلقي بك صفحاته(237 من القطع المتوسط) في أتون حكي جارح وحارق، عبثا تحاول الإفلات من قبضته تلابيبُ القراءة . حكيٌ تتوزع مداخله على ست عتبات،تفضي كل واحدة منها إلى الأخرى، دونما أي خلل بنائي، يمكن أن يؤدي وقوعه إلى تعطيل إيقاع التجوال داخل فضاءات النص، وهي كالتالي:1-نصوص الروح .2 - نصوص من أنت ؟ 3- وشم الديار .4 - مناقب الأحبة . 5- تقول الشاهدة . 6- رحيل الأمكنة لعل أول إشارة يمكن التقاطها من مقدمة الكتاب،هي تلك الغبطة العارمة التي استشعرها الكاتب، إثر اكتمال العمل أمام عينيه بنصوصه التي هي «أقرب إلى النزف» حيث يبدو كمن تخلص من عبء ثقيل لطالما أثقل كاهله،و أرهق روحه وجسده. إنها غبطة من ألقى أخيرا بأقنعة الكينونة في لهب الكتابة، كي تكشف في نهاية المطاف عن نصوص منذرة ب»النهايات» هي جماع «مأساوية جمالية حس ودهشة ووقار، دون أن تقع في فخاخ «التفاؤل الساذج» مما يجعلها منفتحة على»قلق السؤال»حيث يأخذ تعريفه المغاير للكتابة وللأدب عموما شكل شرارة، تنبثق من لحظة تماس الذات الكاتبة، مع ذات العالم المنذورة لحركيتها الدائبة،الشرس والحنون، في آن . ومن فرط انصهار المديني فيما كتبه وما كتب به، واستسلامه لقدر القول وسلطته، دون أن يستسلم على -حد تعبيره- ولو بمقدار ذرة واحدة لأية سلطة مضللة، فإنه لا يتردد في توجيه القارئ ، ورجّه رجّاً، من أجل أن يأخذ كتابه بالقوة التي تليق به حيث لا يتردد في تذكيره برسالة الأدب المنتصرة لثقافة المقاومة التي هي مقاومة (للفساد والظلم والاستبداد) (ص6) كما أنها «حديث الروح للأرواح يسري» مع التأكيد على العمق الجمالي والإبداعي. وهو بذلك يدعونا إلى وضع كتابه ضمن برنامج محدد من برامج الكتابة القائمة على انغماس الذات» في المعضلات الإنسانية، وتمثلها قلبا وقالبا» فهو يعتمد النبرة البوحية،والعبارة الشعرية من أجل فتح مسالك جديدة للكتابة والقراءة على حد سواء، وهما معا كفيلان بخرق» قواعد الترتيب الأجناسي». أما الغاية من هذا البرنامج فتكمن في «مواصلة مشروعه في تجديد الأسلوب ، وتحوير طرائق «وصف أو سرد» وجعل النص مسرحاً للاحتفاء بالكتابة، لكن من خلال احتفائه بالخاص قبل العام حيث»لا أدب إلا بما هو خاص»(من مقدمة الكتاب). هو أحمد المديني،إذن. هذا الصوت ذو المقامات الإنسانية والدلالية المتعددة، والذي لا يستطيع معه الصمت صبرا ، مادامت الذاكرة الخصبة تصدح أبدا بنداءاتها، ومادام الواقع لايني يكشف عن إيغاله في حبك شباك مقالبه الصغيرة والكبيرة، ومادام هناك دائما متسع لأمل كتابة مغايرة،لا تتردد في إلقاء هذه الشباك إلى جحيم النسيان، فعبر العتبات الست ل»كتاب النهايات»، تفرح القراءة بالاستعادة العالية والطازجة لسِيَرِ أمكنة معنبرة بمسك ذواتها الاستثنائية، في الحياة كما في الإبداع، سواء كانت جغرافيتها الروحية متمحورة حول الذات الكاتبة، أو حول ذوات شبيهة أو مضاعفة لها،وسواء كانت شروط الحلول أو التماهي موغلة في سُجُف الفقد، أو منتشية بهبات الغبطة والأمل، وفي قلب هذه الاستعادة القيّومية يطالعك هو دائما، لك أن تخلع عليه ما شئت من أسماء، قد تكون أحمد المديني الإنسان، المؤلف،أو السارد، مادامت استراتيجية الكتابة في «النهايات»، تلح على محو كل التوصيفات النظرية المتعارف عليها في مدونات القراءة والتأويل، كي تمارس استفزازها وشغبها عليك، حيث يختلط عليك الأمر، ولن تكون قادرا على الإمساك بتلابيبه بصفته كائنا حقيقيا من لحم ودم، أو باعتباره محض كائن من ورق يدمن الإقامة في نار حكي، تظل بمشيئة البوح نارا وسلاما عليه، وليس على القراءة. هكذا،إذن، تشتغل المفارقة الكبرى في هندسة الكتاب وفصوله،يتمثل ظاهرُها في حضور مجموع الإشارات المحيلة على أمكنة وأزمنة محددة ومدققة، ومسرفة في استحضار الهاجس التوثيقي والتسجيلي وفاء لحميمية تفاصيل أحداث دارت رحاها في أمكنة وأزمنة معلومة، كما دارت حول ظلال أسماء هي جزء لا يتجزأ من ذاكرة الكاتب، ومن ذاكرة الكتابة،هنا في المغرب أو هناك في عواصم المشرق المنكوبة، أو باريس الحياة يعيشها وهو يحلم بها في آن. أما باطنها فتجسده تلك الخلخلة الكبرى لمختلف مؤثثات الواقع المحفورة في الذاكرة ، أو بالأحرى لهذه الأحداث المعيشة والمستعادة، بما ينتزعها انتزاعا من يقينيتها ، ليزُجّ بها في عمق لعبة تخييلية، تكاد من سكرة الشطح أن تستفرد براهنية جماليتها بعيدا عن أية مرجعية معلومة أو محددة. إذ في قلب هذه المفارقة الآسرة وفي ظلها أيضا، تنفلت كل من السيرة، والشهادة، والمذكرة ، من إطارها المسكوك،كي تؤسس فضاء كتابة مختلفة، نتعرف من خلال تحولاتها على مختلف المسارات التي اجترحتها الذات الكاتبة، ودأبت على اصطفاء أطيافها وكائناتها منذ رحلتها الأسطورية والعاشقة الفاصلة بين الشاوية ومدينة فاس في بداية الستينيات إلى الآن، مرورا بتضاريس ذلك الشتات الجغرافي،الذي دأب على استدراج الذات، كي تمارس في رحابته اللا متناهية سفرها الفكري وترحالها الجسدي والروحي، دونما كلل أو تعب، وفضلا عن هذا التعرف، ثمة أيضا- وهذا هو المهم? تلك الإضاءات التي يمكن أن تسعف قارئ النصوص المدينية في اختراق تلك العتمات الشفيفة التي يحدث أن تحتمي بها الكتابة، اتقاء أي تناول سهل ومبتذل صادر عن غير المتمرسين بمطارحة النصوص الكبيرة ذات البعد الإشكالي، وهي إضاءات تشمل رؤية الذات لذاتها، ورؤيتها ل»الآخر»،وللعالم عموما، إلى جانب رؤيتها للكتابة الإبداعية بمختلف أجناسها وأنواعها وتجلياتها. في هذا السياق تحضر تيمة الوحدة، بصفتها ذاتا تتبادل لذة العشق مع الذات الكاتبة .الوحدة الفاضحة التي لا سبيل لكتمانها، والتي يستطاب النوم في مقتلها بعيدا عن «بلاد الجمع» ،وعن إكراهات معاشرة «الرجال الجوف «لأنها الوحدة التي «تنضو عنها حكمة الجبناء «(ص13)، والتي «يصحح» السارد بها إيقاع الشعراء . إن مديح الوحدة بما تجود به من أحوال متفردة على الذات المتوحدة، يستبد بحركية الكتابة على امتداد فصول «كتاب النهايات»،كاختيار مبدئي لا مناص من تجاوزه ولو انتهى به الأمر إلى أن يمسي»وحيدا كجربوع في الفلاة» (ص23)، بهذا المعني تصبح الوحدة رديفا للعزة، والمغايرة، والإقامة الباذخة في فضاءات التواصل الإبداعي والإنساني الخلاق بعيدا عن كائنات المسخ والادعاء . وبهذا المعنى أيضا تصبح الوحدة ملاذا للانتشاء بخمرة العشق، التي لا تكف الذات الكاتبة عن معاقرتها في حلقة الصوفيين الأساسيين، على غرار النِّفّري، الحاضر بقوة في خلفية المشاهد السردية وبنياتها اللغوية والدلالية بصفته شبيها وسميا للذات الكاتبة . فالسارد، أو إن شئت أحمد المديني، مقيم أبدا في «جغرافيا الولع»(ص25)، متحملا تبعات هذه الإقامة الصعبة والعصية، سيما وأن العشق الحقيقي لا يتحقق إلا من خلال «اجترار الكرب» (ص 25)، ذلك أن الإخلاص لعلاقة إنسانية ما، يقتضي الإخلاص إلى كل الشروط الظرفية الطارئة، التي يحدث أن تُباغتَ بها طمأنينة الآخر، لتحولها بين ليلة وأخرى إلى جحيم وجودي أو جسدي، وهو ما تفصح عنه علاقاته الإنسانية والإبداعية العميقة بالرموز الثقافية الواردة على امتداد فصول الكتاب (حميد سعيد- زفزاف ? بهجة عثمان ? إدمون عمران المليح ?جمال الدين بن الشيخ- عبد الجبار السحيمي..الطيب صالح، محمود درويش، وغيرهم ) حيث لا يسع القراءة إلا أن تجاهر بإجلالها لما تتمتع به هذه النفس الكبيرة ، من نبل عشق استثنائي عز نظيره في أيامنا ، وقد توحدت إلى حد الحلول بهذه الذوات المنقادة خلسة، إلى مصائر لم تكن أبدا حاضرا في حسبان الكتابة وبالنظر إلى تعدد وتنوع مقامات العشق الواردة في مجمل فضاءات »النهايات»، والمتميزة بإدمانها لفتنة الترحال في ذاكرة الأمكنة، وكيمياء الأنثى، وكذا أنساغ الطبيعة، إلى جانب ما لا ينقال في النصوص الإبداعية الكبيرة ، يمكن بحق اعتمادُه مكونا مركزيا من مكونات القراءة ، إذ به وعبره تتحقق كتابة أشياء العالم وكائناته، استنادا على رؤية تفكيكية وتأويلية، إبداعية وفكرية، ترتقي بالموجودات إلى أقاصي مراتب التجلي،كي تبوح بأسرارها الخفية واللامرئية، ثمة، حيث يلتقي النفري دائما بجوليا كريستيفا التي تهمس للسارد، في لحظة استغوار عشق، يتبادل فيها الفتك كل من الشرق والغرب،قائلة:»ألم أحذرك من السلوان،إنه مثل السيميولوجيا، علامة وسراب؟»(ص50). ويكفي في هذا السياق،الاستئناس ببعض نصوص الكتاب المكرسة لإعادة قراءة الطبيعة بمنظور عشق باطني وتذاوتي، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر» صباح الخير أيها الفصل»(ص.51)، «في هذا الخريف،ربما خريف سابق»(ص 55) «انتظارات الربيع» (ص 59)،وأيضا «رحلة ذات بين الفصول»(ص69)،الذي تدير فيه الذات الكاتبة حوارا عميقا وطريفا مع ذاتها، نستمتع من خلاله بسفر فكري وإبداعي وروحي يطوف بنا عبر فصولها الباطنية الأربعة، كي نعيش مع الكتابة مجموع تلك الاستحالات والممكنات التي تتشكل وتنمحي بها هندسة الكينونة في غموضها،وفي وضوحها الملتبس، ثم في تحولاتها الجحيمية والفردوسية التي لا تستقر على حال تكون لها. فالتساؤل عن فصل الشتاء ، هو تساؤل عن رجفة اليأس ورجفة النص،عن غيوم النفس وغيوم المعيش وغيوم الأمة، وعن صقيع فاس، باريس وموسكو، دون إغفال صقيع الروح ،الذي يحول حطب غابة الذكرى، ودفء الكتاب، دون إجهازه على حياة الروح وحياة الكتابة. أما بالنسبة لينابيع الربيع السّخيّة فتكمُن في الوفاء لحليب الأمومة، لبهجة الحياة ،والانتماء لجذور الإنسانية، ومسكن الأنثى، كذلك فتنة التملّي في طفولة الكون، ومعايشة هموم الطلبة، ومباركة خلوة العشاق ومكابداتهم. أما الذات الربيعية التي تغرس في الأنا شتات الأمل، فلن تكون سوى ذات «من يعتبر أن الشعر أقوى من الجبروت والاستبداد «(ص72) .خلافا للكتاب العاقين، والمصابين بعاهة العقم والدجالين، الذين يزرعون أمواج الكراهية في خضم بحر الذات.غير أن معانقة شقائق النعمان(بلّعمان) بمدينة برشيد، للوحة كلود مونيCoquelicot ، وكذا «زهرة السكينة»(ص4) فتظل الميسم المشع في الحقول الربيعية للنص، كما أن أول ثمرة نجاح من ثمار هذا الفصل، تتجلى في كتابة أحمد المديني لأول نص إبداعي باسم والده على صفحات جريدة العلم، في منتصف الستينيات. وللقراءة أن تحظى بلذتها وهي تجوس بتأويلها ومقارباتها أسرار القول الخفية، في ما أبدعته الكتابة حول كل من فصلي الخريف والصيف، حول فساد الأمكنة بعد نقائها، حول دم غزة المسفوح تحت شمس العروبة الصفراء، حول فساد الأمكنة بعد نقائها ، بغداد «حيث يتهاطل الحزن دما»(ص 82) ، وبيروت «قبل أن تبور» و التي كان قد جاءها فتىً»حالما، مقداما ، فوق رأسه أعلام طارق، وصليل جيش عقبة، يهدر بالفتكة البكر» (ص82)،ثم» قاهرة المعز اليوم بلا عز»(ص93)،وغيرها من عواصم الشرق والغرب . أيضا سيكون للقراءة أن تتقصى بما يكفي من الصبر والأناة ، جمالية عبور الذات الكاتبة لذاكرة أمكنتها ،والشبيه بعبور برزخي بين دوامات حارقة من الأحوال والأحداث والرجات الجارفة، التي تتمظهر في شكل كيمياء، يتجاذبها مزيج عاصف من نداءات العشق والألم، الغبطة والقرف، سواء تعلق الأمر بعبور عمان، أو دمشق،الأندلس، أو الدارالبيضاء، أصيلة أو بني ملال، فاس وباريس، حيث يتألق الحكي في استنفار مخيال الكتابة،كي تزرع في صلب المعيش بذرة الغريب والعجيب ، مجنحة بكائناتها، في فضاءات لغات تتوسل بالشعر وبالكتاب الشذرية ، إلى جانب اعتمادها تقنية التقطيع السينوغرافي الذي يسعفه النسيج الحلمي بلعبة ترقيص الزمن، كي ينسى مؤقتا حتمية قوانين حركيته ، فيستسلم مذعنا لإيقاع السفر في متاهة الرؤيا . وبتزامن مع هذا الإيقاع ، تتلألأ باستمرار تلك الإشارات اللآهبة الني عودنا عليها أحمد المديني في عموم كتاباته السردية والنقدية ، والحريصة على توصيف فعل الكتابة ومداراتها ، بما تستدعيه أسئلتها المتعددة والمتحولة ، وبما تستلزمه أسئلتها المتعددة والمتحولة، من حتمية توافر شروط ، قد تبدو في بعض سماتها ملموسة أو مجردة ، وقابلة للجرد والتصنيف ،بالنسبة للدارس المتخصص ، غبر أنها خلافا لذلك ، تظل أبدا منفلتة ، وعصية على التنميط والتقعيد، مادامت أكبر من محض نزهة مطمئتة إلى خطواتها في فضاء الحروف والأشياء ، إن لم نقل هي بالفعل وبالقوة مخاطرة لانهائية، بكينونة الكاتب في مجاهل الذات، وفي مجاهل الآخر ومجاهل اللغة ، وهو ما يستدعي منا الإبقاء على «حواسنا حارة ،حادة كنصل الضد « ص25 ، كما هو الشأن بالنسبة لسارد النهايات، الذي يأبى عن طواعية واختيار، إلا أن يكون مسكونا «بحمى المتنبي « ص29 ، متحملا وحده تبعات هذا الاختيار الذي يحفزه على مخاطبة مضاعفه قائلا :» أنت تذهب عادة إلى ما بعد هلاكك « ص27 ، خاصة حينما يتعلق الأمر بشرط»التخلص من فائض المعنى» ص15، الذي يضعنا ضمنيا وجها لوجه ،أمام غابة بالغة الغموض ، من الأسئلة الصعبة ذات العمق الإشكالي، الذي دأب تاريخ الكتابة على الخوض في تفاصيله وعمومياته ، ذلك أن مطلب الاشتغال على هذا الفائض ، هو المطلب ذاته الذي أرق، ويؤرق كل كتابة جديرة باسمها .فلا عجب والحالة هذه، أن يقترن استشراف هذا الأفق ، بحالة قاسية من المعاناة والمكابدة قوامها «ارتشاف الألم قطرات « ص 32 ، وأيضا كما جاء على لسان السارد «» الرعشة المدرار ميزان حرارتي الوحيد « وذلك في معرض حديثه عن كلماته المنتزعة من أبجدية جسده «المترعرع بين الرمضاء والنار»ص34 ، حيث لا مجال لأي توصيف يقيني أو أكاديمي ، يغري بالاستكانة إلى وصفة تعريفية جاهزة، ومتفق سلفا على ميثاقها ، لذلك سيكون من الطبيعي أن يجاهر أحمد المديني بوجوب إلغاء نفع الكتابة من وجهة نظر ابن خلدون « لا أعرف بدقة لا ما هي الكتابة ولا من هو الكاتب»ص117 . ثم بهذا المعنى ، يظل كل ما ترسمه الحروف محض « افتراض كلام ، قبل أن تلتقي في منعطف المعنى» ص48 ، كما يظل الكاتب الحقيقي معنيا دائما بتمزيق «كل أستار البلى» ص52 ، وهو المكسب الذي لا يتحقق إلا بالترحال الدائم ، وبالعبور المتتالي لتخوم المعرفة والذات والأمكنة واللغات، كما هو الشأن بالنسبة للشاعر، الذي يعتبر بحق « عابرا لدروب الأبدية «ص149 ، غير أن السند الذي يتعذر تجاوزه ، والذي لا يقبل أية مساومة ، هو ذاك المتمثل في سلطة المجاز ، مادامت الحياة ككل ، ليست سوى تلك العلاقة الغامضة مع الكلمة التي لا ينبغي أن تبين « إن فُهمت مت» ص 63 . مما يجعل الكتابة بالمقابل «ورطة قي عالم سحري « ص109 . لاساحل له ولا ضفاف. داخل هذه الأنساق الملتبسة، المتقاطعة والمتشابكة ، تتأرجح روح السارد ، مراوحة في عبورها بين رهبة الكلام ، وبين «قوة التذكر» ص109 التي من نسغها تستمد الحياة دلالاتها ، و داخلها أيضا تفقد القراءة كل ما يمكن أن تتظاهر به ، أو تدعيه من توازن مفتعل ، كي تميل - ضدا على يقظتها- حيث يميل الحكي المحروس باستعاراته ومجازاته ،ومقالبه الصغيرة والكبيرة التي لا ولن تنتهي ، تأسيسا على ذلك- ربما ? والكتابةُ أعلمُ وأدرى، يرتفع صوت أحمد المديني بغير قليل من الاستفزاز قائلا : «ومنذئذ ،ونقاد من ثقافات مختلفة يجرون حفريات على قلبي لقياس النبض الخصوصي بين جنس الإنس والجان « 96 « . لذلك أجدني مضطرا إلى تنبيهكم بعدم التمادي في قياس هذا النبض ، والانغماس بدلا من ذلك، في مصاحبة مولاي أحمد في عبوره العاشق والدامي ،لعتبات نهاياته المنفتحة دائما على بداياتها المحتملة ، خاصة وأنني تعمدت أن أمضي إلى أقصى حدود المراوغة في هذه القراءة ، اتقاء سقطة الحديث عن مضامين كتاب ، يتعذر الخوض فيها بغير تلك اللغة ، وتلك الروح ،وتلك الحميمية وذلك العنف المنبجس من عمق حياة غير قابلة لأي استنساخ ساذج ، ومبتذل ، والتي ليست في نهاية المطاف سوى حياة السارد ، أو إن شئتم حياة أحمد المديني .