لئن كان صحيحا، وهذا مجرد فرض يستلزم التصديق، أن القصة القصيرة جدا تبحث عن استقلاليتها بما هي جنس أدبي مخصوص، أي أنها تتوق إلى النظر إليها ككينونة لها مقومات جوهرية لا كتفريع منشق عن أصل غير أصلها الذي تؤسسه بذاتها،لئن كان هذا فإن مواكبتها النقدية، وهذا بظني يقين أو ما يشبه اليقين، ينبغي أن تتخلص من مسبقات نظرية صيغت في أسيقة مغايرة، وأن تجترح لنفسها مفاهيم ومصطلحات نوعية تكلم بها القصة القصيرة جدا وتصغى إليها. إذ الملاحظ أننا مازلنا مشدودين، في الغالب، إلى مرجعيات نقدية متقادمة ، روائية أو قصصية بإطلاق المعنى، بها نبغي المصادرة على كيان إبداعي في طور تشكلاته الأولى، مما يطرح إشكالات معرفية بين النصوص ومساءلاتها. والواقع أن القصة القصيرة جدا تنويع سردي له قواسمه المشتركة مع مختلف أنواع التسريدات الأخرى إلا أن له أيضا خصائصه النوعية التي بها ينماز عما سواه من أنماط الحكي، والأمر ذاته ينطبق على مقاربتها (أي القصة القصيرة جدا) فهي تلتقي في خطوطها العريضة مع النقود المعنية بالمحكي إلا أنها مطالبة بتخصيص أسئلتها وتدقيق أدوات تقصيها. مما يجعل من البحث عن حد أدنى من المرونة في حوار القصة القصيرة جدا ونقدها مطلبا ملحا في الوقت الراهن. تأسيسا على هذه البداهة يمكننا ، ونحن نقرأ، مجموعة الكاتب عبد الله المتقي «قليل من الملائكة»، أن نطرح أسئلة مباشرة من قبيل: ترى كيف ندنو من هذه التجربة؟ وبأية وسائل؟ ولأن ارتجال أجوبة جاهزة عن هذه الأسئلة المخاتلة ليس في مصلحة أي قراءة متأنية ومسؤولة، فإنه يكفينا، مؤقتا، التحرر من ثقل التنظيرات، والتحلي بفضيلة إرهاف السمع لدبيب محايث ينبجس من بين ثنايا النصوص بالدرجة الأولى. صدرت المجموعة سنة 2009 عن دار التنوخي للنشر والطباعة والتوزيع. وتقع في 78 صفحة من القطع المتوسط بما مجموعه 63 نصا يتراوح حجم الواحد منها بين سطرين ونصف وصفحة ونصف. هذا عدا تقديم للدكتور عبد المالك أشهبون وتظهير للناقد التونسي عبد الدائم السلامي، وإهداء مستقل. من اللافت أن المجموعة تسمى بغير نص يمنحها «شرعية التسمية» المتعارف عليها. فليس من بين مشمولاتها النصية ما له عنوان يطابق عنوانها. ولعل هذا أول خرق تقوم عليه استراتيجية الحكي هاهنا، وهو خرق صغير بالنظر إلى أنه له سوالف في تجارب لآخرين (أحمد بوزفور، أحمد شكر...). إلا أنه مناص في غاية الخطورة ، لأنه يتدثر بالبساطة الخادعة ليورط قارئه في توقعات ما تفتأ تخيب: توقعا توقعا. سيما والمؤشرات المتنية لا تسعف في فك إبهام يتعاظم مع فعل القراءة.. إنها عتبة لاتسلم إلا ل»توبوس»حيث الملائكة لا ترعى القصص القصيرة جدا إلا لماما، لن نذكر الفضاء باسمه تلافيا لتأويل استباقي. لا ولن نحاول فك شفرة العنوان مادامت صيغتها التركيبية تتيح لها من المعاني ما لا يستنفد.. فقليل من الملائكة لا يعني انتفاء وجود هذه الملائكة، لكنه بالمقابل لا يدل على وجودها الفعلي. أهو مطلب قصصي لإجلائها من سرد تغشاه الشياطين بكثرة ؟ أم هو دعوة لدعم وجود الملائكة في نصوص شريرة وعاقة ؟ سنتجاوز هذين السؤالين، وسنتجاوز لوحة الغلاف (حيث الضريح موصد يحرسه من اليمين والشمال هيكلان عظميان، ملاكان؟)، ولنتجاهل عتبة التقديم الغيري بما هي قول على قول، أو على الأقل هي فهم خاص لايلزم غير كاتبه الذي اكتفى بالتقريظ الشخصي والعموميات في رهان وجب حسابه جيدا، والأمر ذاته في التظهير الذي دبجه صاحبه بلغة واصفة موصوفة، ولنتوقف قليلا عند الموازيين النصيين اللذين اختيرا من طرف الكاتب الأصلي اختيارا مقصودا: الأول لكازانزاكيس والثاني لهنري ميللر، والشخصان مختلفان وإن اتفقا، بمحض هذا الاختيار، على «المقاربة الجنونية» لتغيير العالم، وبعبارة أقل تواضعا، لتغيير عوالم التخييل القصصي. كازانزاكيس يجمع في رؤيته للعالم بين كلبية اليونان وصوفية الشرق، وهنري ميللر يمجد الصعلكة ويثور على الزيف الحضاري الذي تحاول أن تسوقه الولاياتالمتحدةالأمريكية عن ذاتها. علما بأن كلا من صاحب «مدار الجدي» وصاحب «تقرير إلى غريكو» كانا كاتبي سرود طويلة. فما الذي تعنيه هذه الجزئية التفصيلية لقارئ «قليل من الملائكة»؟ أهي مؤشر على احتماء الكاتب بهذين الأديبين الراسخين؟ أم أن الجنون، في مقصديته الكتابية، هو قيمة ما بعد عقلانية لها مسوغاتها الفنية، تماما كالعمي حين يغدو- في سياقات قصوى- بصيرة ؟ بدءا يجب الاحتراس، ما لم نقل التدقيق في معنى «الجنون» انطلاقا من مرجعياته الفلسفية والأدبية (ديوجين الكلبي، ميشال فوكو، جبران خليل جبران، الطاهر بن جلون....). إنه ليس سوى إحدى الصيغ الممكنة للاقتراب من الحقيقة المنفلتة من فروج الكلمات وزوايا النظر. إنه الطبيعة في حل من ثقافة التدجين. ففي أية مواضيع تخوض متخيلات المتقي؟ وكيف يبني جنونه القصصي، الذي تحرسه الملائكة أو تنأى عنه؟ سؤالان يتجاوزان ممكنات هذا المدخل الوصفي، بيد أن الالتفاف عليهما من شأنه أن يكشف لنا ما يلي: 1-على صعيد التيمات المهيمنة: ترصد العين الرائية في «قليل من الملائكة» اختلالات قلما نلتفت إليها في حياتنا اليومية. من ثم فهي تبحث في طبيعة العلاقات بين الكائنات والأشياء والكلمات، القائمة على توازن رخو. فالحد الأول والحد الثاني لا يقودان حتما إلى استنتاج منطقي، والأطروحة في تعالقها بنقيضها لا تؤول إلى تركيب طبيعي، وإنما» تتحول» إلى مسخ، أوحالة هجينة تذكرنا، بشكل من الأشكال، بالعوالم الكافكاوية والبورخيسية أو بالموتيفات السوريالية التي رسمها سلفادور دالي. ومن بين التيمات التي تؤرق كتابة المتقي: العلاقة بين الجنسين، صراع الأجيال، الحياة والموت، الظاهر والباطن، المقدس والمدنس، الشرق والغرب، الواقع والمتخيل..إلخ. وللتذكير نشير، مثلا، إلى أن العلاقة بين الذكر والأنثى، في المجموعة، تقوم على الريبة والحذر. فكلاهما مخادع وشكاك.. وكلاهما يبيت نواياه المجنونة للآخر. فمهما تآلفا لن ينسجما إلا مراء، بينما اليقين يظل طي الكتمان، لكأن لعنة الخطيئة الأولى تطاردهما في عود أبدي. فالعواطف المفتعلة بينهما ماهي إلا أقنعة من الزيف. وإذا كان التواصل غائبا بين الموجودات في الحيز الزمكاني الواحد، فمن البدهي أن ينتفي كلية بين الأجيال. الأمر الذي يعطي للحياة في «قليل من الملائكة» نكهة العبث. فكل شيء يأخذ مكانه الخطأ في الوقت الخطأ. والتنافر الوجودي والتشظي هما مبدأ الحياة الآيلة إلى زوال. إن الكائنات في الواقع (الحياة) مجرد أشباح عابرة تسبح بين المقدس والمدنس في شيئية هجينة مكبلة بالطابوهات. 2- على صعيد الصوغ الأدبي: - البساطة: توحي كتابة عبد الله المتقي، في قليل من الملائكة» وفي غيرها من كتاباته النثرية والشعرية، بالبساطة. وهي بساطة متحققة فعلا، في المعجم الذي لا نجد فيه ما يعكر صفو المتداول من الألفاظ والمفردات، وفي التراكيب النمطية للجملة العربية، فضلا عن كون المعنى المباشر للخطاب لا يوسع شقة الاختلاف بين القراء والمتلقين. -المشهدية: تتقدم سرود «قليل من الملائكة» في صيغة مشاهد ولوحات سوريالية أو أدني، مرسومة بنعومة جارحة، حيث الدقة والمكر في التقاط التفاصيل، بتقتير وحذر، من زوايا غير متوقعة. زوايا من فرط ألفتها صارت تبدو لنا غريبة، صادمة. إنه موزاييك من القطع المتروكة لحالها في رقعة مربَكة (بازل)،إلا أن المعنى الذي من المفروض أن تبنيه هذه «المشاهد» ، يوجب أن توضع كل قطعة في مكانها الخاص، ضمن نحو النص وبلاغته. لنستعرض نص»اندغام»: «أفعى ملونة تترنح تحت شجرة هرمة. حنش بلون واحد يتأمل المشهد باشتهاء. تقترب الأفعى، يقترب الحنش، ثم ريثما يندغمان على شكل جديلة امرأة في الثلاثينات...» وجب التذكير أن هذه القصة تفتقر تركيبيا إلى نهاية تكفلت بافتراضها نقاط الحذف الأخيرة.. لكن مشهديتها مكتملة. الصور معروضة بلا نواظم، فيما أن طريقة العرض تجعل منها نسقا قصصيا في غاية الانسجام. - التجاوروالتناوب: هما امتداد للمشهدية وتطوير لها، وهما خصيصة تكاد تطبع نصوص عبد الله المتقي. فهو لا يحكي- بالمعنى التقليدي لكلمة حكي- إنه يخطط اللقطات، يجاورها، يناوبها، فتنحكي لوحدها بفعل التوالي الخداع، رغم غياب أدوات الربط والعطف، ورغم غياب سببية مباشرة بين اللوحة والأخرى: «قبعة بالمشجب تذرف دمعا ناشفا، معطف أسود يرتعد من البرد، كرسي يجلس القرفصاء، علبة أنسولين، قطة رمادية تتفرج في ذهول، بضعة (كذا) مسودات قصصية، وجثة غارقة في الموت» (قصة غير منسية،ص16) نجد ذلك يتكرر في «بحيرة الشيوخ» (ص.20)، و»بندولان» (ص22)، و»مجرد انتحار» (ص.23)، و»قبعتان» (ص.24)، و»أونامير» (ص.26)، و»أغنية» (ص.29)، و»سمكة حمراء» (ص.33)، و»فيضان» (ص.40) ، و»أعور»(ص.41)، و»في انتظار غودو» (ص.59)، و»رحيل العمر» (ص.60)، و»ساعة الموت» (ص.70). - التفضية أو هندسة الشكل: تنبني نصوص عبد الله المتقي في «قليل من الملائكة» وفي سواها، وفق هندسة الأشطر (الأسطر)، إذ تتخذ كل جملة مفيدة شكل سطر شعري، مما يعطي انطباعا أوليا بأن الأمر يتعلق بقصيدة. وقليلا ما ترتدي القُصَيْصة لديه لبوس القصة المتداول حتى عند كتاب القصة القصيرة جدا أنفسهم. وهذا الملمح له ما بعده . فهو يدعم، شكليا على الأقل، تقنيات المشهدية والتجاور والتناوب... - الشاعرية: إذا كانت التفضية قد تعطي، بصريا، الانطباع بشاعرية النصوص في «قليل من الملائكة»، فإن كثيرا من نصوص هذه المجموعة هي في أصلها قصائد شعرية أو قاب قوس أو أدنى من الشعر، بل هي الشعر قياسا إلى ماينشر اليوم تحت يافطته. (لنتذكر أن الكاتب شاعر أيضا، وسبق له أن أصدر ديوانا شعريا بعنوان «قصائد كاتمة للصوت». «-1- المتاريس فارغة تماما.. سوى قبعات وبنادق مبعثرة، تراقب الموت بحذر. -2- جثث مجهولة الهوية -3- لا وقت الآن.. لدفن الموتى، إنهم كثر.» (حرب، ص.35). تبدو جليا تقسيمات الفواصل، وإيقاعاتها، بما في ذلك حرف الروي كما هو حال أي قصيدة نثر. - التكرار: تقوم نصوص عبد الله المتقي على التكرار والتوازي، ويتخذ هذان العنصران في «قليل من الملائكة» ثلاثة مظاهر أساسية: - مظهرا معجميا توظف فيه المفردة أكثر من مرة في النص الواحد. - مظهرا تركيبيا تعاد فيه الجمل، مرارا، وفق بناء معلوم . والمثالان معا كما في النص التالي: «ذات شتاء قديم، ماتت زوجته بأنفلونزا الطيور ذات ربيع أزرق ، عاد إلى بيته في الخامسة صباحا وبعض الزمان ذات صيف حارق، رمى نفسه من النافذة في الشعر الخالي وذات خريف حزين، جلس قريبا من جثته كما ذئب جائع» (ذات، ص.57). - مظهرا دلاليا، تستعمل فيه الكلمة والجملة بمعناهما عدة مرات في النص الواحد، بتحوير قليل أو بدونه. في قصة «أونامير» المكونة من ثلاثة أسطر، يبتدئ كل سطر بالجملة التالية «يرى في النوم»، والتشابه والتكرار لا يتعلقان ببناء النص الواحد ، وإنما يغدوان أحيانا قاسمين مشتركين بين نص وآخر. كما بين نص «بلاي» (ص.38) الذي ينتهي بجملة « ثمة جدة مفقوسة سبب لها بلاستيشون خريفا غامضا»، وقصة «رحيل العمر» (ص.60) التي تنتهي بدورها بالجملة ذاتها تقريبا « وثمة جدة «مفقوسة»، سبب لها النمر المقنع خريفا غامضا». وهذا ما يدخل في ما سماه جان ريكاردو بالتناص الداخلي الذي يستعيد فيه النص بعض أبعاضه أو يستوحي الكاتب في نص بعض نصوصه السابقة. - التوازي : يتمثل التوازي في نصوص «قليل من الملائكة» في وقوع مشهدين في لحظة زمنية واحدة. وإذا كانت الضرورة التوبوغرافية لا تسمح برصد المشهدين في آن، فإنهما يقدمان بالتناوب ضمن آلية الحكي، وإن بدا ذلك شبيها بالتناوب. «تنصل الرجل من ثيابه الداخلية، ونام قريبا من امرأة.... تنصلت المرأة من سروالها الخفيف ونامت قريبا من رجل....» (بحيرة الشيوخ، ص.20). أسئلة للتأمل لا خلاف في كون عبد الله المتقي قد اختط لنفسه مسارا خاصا ضمن السرد القصصي القصير جدا بالمغرب وخارجه. مسارا مائزا عرضنا، بإيجاز، لبعض خصوصياته أعلاه. فهو يذهب إلى مواضيعه من دون مراوغة. و يقبض على اللحظة طازجة بلا تردد، بجسارة خادشة للذوق أحيانا، وبسهولة مريبة. غير عابئ باللفظة ولا بالتركيب، وليس الغموض مقصده. لكن هل هي بسيطة قصص المتقي القصيرة جدا فعلا؟ وبأي معنى هي كذلك أو ليست كذلك؟ نرجح أن البساطة هنا ليست مرادفا للتبسيط. كل نص عنده هو رهان محسوب هندسيا ورياضيا. هو جنون يقلب «الحقيقة» مجازا، والمجاز حقيقة. لاسهولة إلا في انسيابية العرض. بينما الاشتغال، ومن خلال مؤشراته، فمضن ومؤرق. وخلف أكمة السهولة مجازات وتوريات. إنه يضع قصصه القصيرة جدا في متناول مختلف شرائح القراء، لكنها منفلتة، متأبية على الجميع. وكأنه يؤمم المضامين ويخوصص الدلالات. وهل سقط المتقي في فخ التكرار عندما كرر في حيز لا يبيح ذلك ؟ رغم المجازفة التي يركبها عبد الله المتقي في نصوصه القصيرة، باحتفاله بالتكرار في كتابة تناقض التكرار، ونحسب أنه - بذلك ورغم ذلك- ينجح في تأكيد اللحظة وترسيخ المشهد دونما وقوع في شرك التكرار...إنه ينجو من التكرار بالتكرار إن صح التعبير.خاصة وأن المفردات والصيغ والمعاني التي يستعيدها قد تدخل، بلا كلل، في أسيقة جديدة مختلفة قد تمنحها أبعادا متجددة. لكن كيف ينسج المتقي قصصا قصيرة جدا من دون أن يسرد؟ كيف يهندس حكاية وهو لا يحكي؟ كيف يكتب القصة القصيرة جدا من جهات أخرى، حيث يتصادى التشكيل بالأسطورة، بالسينما، بالشعر ؟ أيمكن أن نسرد بالوصف كما فعل؟ أن نكتب القصة القصيرة جدا بغير القصة كما فعل أيضا؟ إنه الجنون عينه الذي يركبه عبد الله المتقي وأضرابه من كتاب القصة القصيرة جدا. وحين نقر - وهذا واقع- بأن عبد الله المتقي صار رقما مهما في معادلة القصة القصيرة جدا في مشهدنا السردي، ألا نهيئه إلى مأزق الطمأنينة؟ وما المحاذير التي يتوجب على كاتب من «نوعيته» أن يتفاداها تلافيا لعقابيل الجنون؟ الواقع أن الأسئلة المتعقلة لدى نقاد القصة القصيرة جدا - إن وجدوا- مهما جنّحت، تبقى سقوفها دانية، فيما جنون كتّاب هذا الإبدال السردي الجديد لا سقوف له ولا ينبغي أن يكون.