إن فكرة الذهاب إلى الحرب عبر مسالك الرؤية الشعرية،ستفضي بك حتما إلى فضاءات حروب أخرى،غير تلك التي لا تستهوي كتابتها القصيدة،أي غير تلك التي تبدو كعادتها فرحة بتحويل الهواء إلى جثث متفحمة تطاردك أينما حللت ورحلتَ بنظراتها المعدنية من قلب خرائب الوقت.علما بأن الحرب-شاءت القصيدة أم أبت- تظل هي هي،حربا غير قابلة للتمويه،مهما تعددت أسبابها وأساليبها،ومهما تعددت لغاتها وميادينها،وتنوعت تداعياتها ،واختلفت مصادر وقودها.بمعنى أن الحرب لم تكن ولن تكون شيئا آخر سوى ما هي عليه، بنارها الباردة أو الحارقة.بحضورها الحي أو المتخيل.هنا في جسد العالم،أو هناك في الزوايا اللامرئية من مرابع الروح،ومفتوحة على تحولاتها وتموضعاتها اللانهائية،حيث ما من شكل ثابت ولا من مستقر أخي،كما لو كانت وحدها ضرورتنا القصوى والأخيرة الملازمة لشرط وجودنا،فما من سبيل لتجاوزها،كما لو أن كل ما تحدثه من شرور،وفجائع وإبادات،وحده الكفيل باستمرارية الكون وبقاء سلالات الكائن،مادامت تتواجد حيث يوجد ثمة أثر من حياة،هناك في نسغ الوردة كما في كرسي الولاية ،بل أيضا،في قلب تلك الجهة الباهتة والنائية تماما من أرض الحياد. لكن عن ميدان أية حرب نتحدث الآن تحديدا؟وإلى ميدان أي حرب نحن ذاهبون؟طبعا لا يتعلق الأمر بوجهة منتزه يطمئن إليه الحلم،كما لا يتعلق الأمر بوجهة غابة خضراء أو سوداء يحلو للقصيدة أن تستدرج في غموضها ما يمكن أن يراودها من حروف،لأن الأمر وبكل بساطة يتعلق بجغرافيات تنتظم خرائطها داخل فضاء مغلق أو يكاد، يحمل اسم الدغل،دون أن يكون بالضرورة شبيها بأي دغل.دغل يمتد في محيط ذاكرتك شمالا وجنوبا، بنفس الحدة التي يمتد فيه محيطها شرقا وغربا.دغل يلهج باسمه القتل العميم،والدغل الذي لا يمكن أن يكون شيئا آخر عدا الدغل، بكائناته البشرية التي لا تنتمي مطلقا لأية فصيلة حيوانية.كائنات من لحم ودم وإسمنت وصلب وقار.كائنات يفترس فيها الحي الحي،والحي الميت والميت الحي،وهكذا دواليك إلى آخر عظم من تلك الهياكل التي تحار في شأنها هياكل لا عقول في جماجمها،حيث الغلبة للافتراس وحده.الافتراس الذي يجسد المرجعية الأولى والأخيرة لإدارة الدغل،والمبدأ الذي لا طاقة لأي كان باستبداله. وبالنظر إلى المكانة السامية التي يحظى بها السيد الافتراس في مضايق الدغل،وفي عواصمه المتناثرة على أرجاء جغرافياته المتناثرة الأطراف،كان من الطبيعي أن يحاط بحجب الهيبة،فلا يهتدي إلى جوهره إلا الراسخون في العلم ،مع أنه حريص على أن يكون أقرب إليك من حبل الوريد، ليس طبعا محبة فيك، ولكن أساسا، نكاية في حلمك المسيج بأوهام الأمان.فان تكون طعما جاهزا أو مؤجلا لافتراسٍ ما،هي الوضعية الطبيعة التي أنت مطالب بتقبلها،كحالة ملازمة لوجودك الفردي أو الجمعي،والتي لن تكون بدونها ما أنت عليه الآن،أي كائنا من لحم ودم، بصرف النظر عن الجنيالوجية التي ينتمي إليها كينونتك.تلك هي وجهة نظر القصيدة التي تسهر على كتابتك منذ لحظة تشكلك في قلب أرحامها المتعددة، طبعا بفضاء دَغلٍ،لن تكون بحاجة إلى نظريات فلسفية تقليدية أو حداثية،من أجل تفكيك ما يحدث فيه.بل إنك كلما أجهدت ذاكرتك في اجتراح المفاهيم الكفيلة بفك ألغازه،كلما استعصت دلالته على محنة التفسير والتأويل،وربما بسبب ذلك يميل سدنة الافتراس إلى إسقاطه في عمق العتمة والمتاهة المفاهيمية،بغاية صرف الانتباه عن مكمن القتل،دون أن يعني ذلك وضوح هذه الدلالة وجاهزيتها للفهم، لكن ومع ذلك،أي بقليل من التبسيط العالي، يمكن اختزال بنياته في معادلة مأساوية وغير متكافئة وعارية من كل تمويه،وهي معادلة المفترس والفريسة،و يكفي أن تتأمل دلالة بقايا الريش المتطاير في السماء،كي تتضح التفاصيل،خاصة وأن الطقس المهيمن على فصول حروبه،لا يسمح إطلاقا لشجرة القِيم بأن تزهر فيها أو تورق ،لذلك تراها أمامك دائما عارية من أوراقها،من أزهارها ومن ثمارها. ولكي تظل الشجرة على ما هي عليه،سيكون من الضروري،ومن البديهي،أن تكون محروسة بسلطة الناطقين باسم الدغل،أولائك الذين يمتلكون وحدهم الحق في وضع القوانين المنظمة لمعاملات المقيمين/المحجوزين فيه،وفي تخطيط آليات ما يتفاعل بأحراشه من حياة وتقتيل وإبادة،وأيضا في هندسة فضاءاته و توزيع مرافقها وفق منهجية دقيقة وصارمة، هم وحدهم العليمون بأسرارها وبخفايا مرجعياتها وأهدافها. الناطقون باسمه والمتربعون على كراسي سُلطِه،هم المشرعون الرسميون،المحللون والمحرمون الذين يمتلكون حق الإفتاء في من يجب قتله إقصاءً أو ذبحا شنقا أو خنقا،أو بالتقسيط على سبيل حرمان متعدد الأساليب والوجوه.هم المتحكمون في توزيع الهواء و الكلإ،الحمى والأحلام،الأرق واليأس،الدفء والقشعريرة،النشوة والألم،الكلام والصمت الضحك والبكاء،الجوع والتخمة. الكتابة والمحو. لكل حصته المقننة التي لا سبيل لتجاوزها ،والمنسجمة مع المكانة والمنزلة التي اقتطعت له ضدا على إرادته. ذلك بعض ما تلح على تدوينه ذاكرة الشعر الحاضرة تلقائيا هناك،حيث يحتل المستبدون بسياسات التخطيط مواقعهم بقوة خبرة موروثة ومتأصلة،قوامها امتلاك فائض من المواهب والخصال الموسومة بحدة تنافرها وتعددها،بما يجعلها جاهزة للتوظيف في تلك اللحظة المناسبة التي لن تخطر أبدا على بال نباهتك.لأن بنية التنافر هي المفتاح السحري الذي يسمح للوصي عليك بأن يظل غامضا،وعصيا على الفهم .إنه حاضر لمناصرتك ولتقديم عون أنت في حاجة إليه، كما أنه مستعد للإجهاز عليك في تلك اللحظة بالذات التي لم ولن تخطر أبدا على بالك البسيط والمغرر به، معتمدا في مهمة التنفيذ على شرذمة غالبا ما يراعى في اختيارها منطق القرابة،على أساس رابطة الدم والعرق،أو امتياز التحلي بصفات استثنائية من قبيل اللؤم والنهب والمكر والاحتيال،أو غيرها من القرابات المنتمية لنفس هذه البنيات السيكولوجية.فالقردة للتسلية،والعصافير لغناء يستهدف صرف انتباهك عن الصرخة،في انتظار أن تمتد إليها يد الفتك،وهكذا دواليك. طبعا ثمة أعراف سائدة ومكرسة في أطراف الدغل الممتدة من النار إلى النار،تسري أحكامها عليك كما على ظلالك.منها مثلا مطالبتك بأن تكون طريدة صعبة المنال،و أن تحظى بما يكفي من الكراهية كي يكون لمطاردتك شأنها الكبير.أن تكون قابلا للأسطرة ، بمعنى أن تمتلك هيئة مزدوجة لها شكل المفترس و الفريسة،كي تتم منهجة تغليب الصفة الأولى،والتي تُجوِّز في نهاية المطاف فكرة التربص بك ومطاردتك عند منابع الماء.عند العشب.عند نقط العبور.حيث يتفقد الظل مرعوبا ما تبقى من ظلاله.في الدغل حيث الحرب غير الحرب و الشعر غير الشعر،حيث تغتبط الحكمة والمحاسبة بعماها،وتغتبط الحرية المطلقة والمتحررة من أي ميثاق أخلاقي بفتكاتها البكر. في أتون الدغل هذا،لا ينهض سوء الفهم واللاتواصل المفضيان إلى الحرب ،من تناف أو تعارض مرجعيات فكرية ونظرية،وليس من تنافر بين التقاليد الثقافية أو التأويلات الدينية، أو اختلاف وجهات نظر المنافسة في تقييمها للنهب،ولكنها تنهض من إصرار قبلي ومسبق على محوك من الصورة،ومن نفيك النهائي عن تفاصيل المشهد. وإذا كانت القصيدة مدرِكةً تمام الإدراك، أن إمكانية التواصل قد تتحقق لا محالة ولو بذلك الحد الزهيد من قابليتنا للحوار والإنصات،باعتبار أن هذا الحد الأدنى مؤهل حتما لبناء أكثر من جسر،وأكثر من إقامات مشتركة،إلا أنها وإلى جانب ذلك،تعلم أن لاشيء من ذلك يمكن أن يحدث،إلا خارج الدغل،أي في ذلك المكان المحظور مؤقتا عليك،وعلى سلالاتك، بفعل قرار صادر عن مجالس الأولمب.وهو ما يمنح الحرب كل ما تحتاج إليه من أسباب لا قبل للعقل بتدبيرها، كي تظل أبدا هي هيَّ ،أي تلك الحرب التي يتبرأ من فكرة إطفائها ما يفيض عن حاجة الماء. تقول القصيدة،ذاك أصل الحرب،بداية ارتجاج يحدث في صلب العناصر،نتيجة ما يعتريها من تفاعلات متتالية جزئية أو كلية، تخرجها من طور لآخر، من بنية لغيرها، من شكل إلى شكل،حيث ما من جوهر ثابت أو قار،وما من صورة جاهزة ونهائية.هكذا تقول القصيدة .يتعلق الأمر إذن بذلك الارتجاج الدائم والأبدي الذي يسري بقوة الديمومة في مفاصل العناصر.وفي مجاهل الأشياء، والذي تتعذر بدونه إمكانية استحضار الشاهد كي يلهج بلسان بقاء ما. ارتجاج تشير حتمية امتداده الهادر أو الهادئ،إلى حركية مخاضات دائمة تبشر أو تنذر بظهور بنيات جديدة،هي نتاج ما يحدثه امتداد الارتجاج من تفاعلات،تجهز خلالها العناصر القوية على العناصر المهيأة سلفا للزوال،في صيغة حرب صغيرة أو كبيرة، معلنة أو باردة ،قذرة أو نظيفة، قابلة لأن تكون احتفالية هنا،و جنائزية هناك،وقابلة لإنتاج معنى قد يعترف به الوجود وقد يتنكر له. وإذا كان هذا الارتجاج الممسوس بدبيب عولمة الدغل نادرا ما يفضي إلى ولادة نهائية مكتملة وواضحة،فإنه بالمقابل يؤشر على ديمومة مخاضات جحيمية،هي بمثابة دعوة للبحث عن شكل لم تتشكل بعد ملامحه في الذاكرة ولا في الحلم.من هنا يمكن القول،إن الارتجاج هو القاعدة،والولادة هي الاستثناء،لأن المخاضات تتضمن أزمنة ولادات مجهضة ومتقطعة،مما يلغي أية إمكانية للحديث عن شكل مكتمل يمكن أن نسميه تجاوزا بالخطاب /الفكر أو النص. إن هذا الارتجاج بما له من أبعاد فيزيائية واجتماعية وحضارية أيضا،داخل فضاء الدغل ،يتحول إلى حرب مكشوفة ومعلنة،كلما فشل في ترويض التشكلات الظرفية للعناصر وصهرها في شكل ما،و كلما استعصت عليه إمكانية احتواء العناصر والتغلب على تنافراتها بالتذويب وإعادة التشكيل. تنمحي القصيدة ويحترق قماش اللوحة.تنهار رقصة الجسد وتشل أنامل الكمنجة فور حدوث ذلك التصعيد الذي يفضي بنا إلى قيوميات أشكالها و تشكلاتها.إن الارتجاج الهادئ الهادر والمفضي في نهاية المطاف إلى الحرب، يحتاج إلى عدد لانهائي من الحقول الجاهزة بأضدادها و تناقضاتها،و تجاذبات عناصرها.ذلك أن الارتجاج النصي من أجل أن يتحقق،سيكون على الأضداد أن تعلن عن حضورها،وأن تكشف عن الحدود الفاصلة بينها وعن تشريعاتها وظهائرها.العمل على تصنيع الصراع،على تصنيف الاختلاف والقطائع. على ألاَّ يتسرب صوتك من خارج القبة إلى داخلها.ألا تهتدي حواسك لرائحة المائدة.ألاَّ يكون لجسدك حظ من دائرة الضوء.أن تكون المنسي دائما، أن تتقاسمك الهاوية والعتمة إلى الأبد. أن نتذكرك بلا ذاكرة.أن تزول تماما في عز ظهيرة الكلام . هكذا يمنحنا الأبيض والأسود آلافا من أشرطة القيامات التي لم يكن فيها أي أثر لحضور الملائكة أو ظل واحد من ظلال آلهة الرحمة.مدن كاملة من جماجم البشر والقطط والكلاب. مدن كاملة من الصراخ والأنين،شاهدة على محافل الإجهاضات العظمى،وعلى جبروت إحراق عقارب ساعات الحياة، كي تنمحي أية علامة ممكنة لحضور أي زمن بشري ما في لحظة زمنية ما.وكي تنتفي معها إمكانية استعادة أمل أية بداية ممكنة أو محتملة.ذلك الأبيض والأسود الذي يقطع بغلوه الطريق على ألوان الطيف،كي لا تزج بادعاءاتها التمويهية في تضاعيف المشهد،بغية تلطيفه وتليينه والتخفيف من أهوال قبضته على حنجرة النشيد . كما لو أن وظائف تلك القدرات النوعية والاستثنائية التي كرمت بها الطبيعة الكائن، كانت أساسا بغاية إدارة رحى هذه الحرب،وتقريب شره الافتراس من الطريدة،وليس من أجل التخطيط المسؤول والعقلاني لمدن فاضلة،تفرح فيها الكائنات بما هو في متناولها من عوالم مغلقة ومنفتحة. بل الأدهى من ذلك، أن نسبة كبيرة من أولائك الذين يقدمون أنفسهم للتاريخ المفترى عليه باعتبارهم حماة وحراسا شدادا غلاظا للقيم الإنسانية،هم في الأصل حفاة عراة من أية قيمة يمكن أن تسمح ببقاء ورقة التوت الأخيرة على عوراتهم،حيث يتأكد وعلى ضوء اختبارات جد سخيفة،بأنهم مجرد لصوص وقطاع طرق محترفين،جبلوا على النهب،لكن بخشوع القديسين الطهرانيين.هذه الفئة المقززة تتواجد في أكثر من قطاع،وفي أكثر من واجهة، في السياسة في الثقافة في الإبداع في التجارة،ومن أهم خاصياتها، قدرتها على تدبير حياتها في الدغل،بسبب امتلاكها لتلك القدرة الإعجازية على المناورة والتدليس والابتزاز،ومن ذلك الجوع التاريخي المقيم في دواخلها،والذي يحولها إلى كائنات ضارية معدة ومهيأة تلقائيا للقيام بأكثر أنواع الاختلاس سوقية ودونية، تحت غطاء نضالي وإنساني منقوع في سموم الخيانة والغدر. في قلب هذه الكوارث وفي قلب هذه المرارات، تكون القصيدة حاضرة ليس من أجل التأريخ لما تراه وما تعيشه،ولكن للتخلص من آخر اليوطوبيات،بإلقائها في منافي مزابلها .أبدا لن تكون القصيدة في منأى عنهم.إنها هنا تتهيأ للإلقاء بهم من أعالي تلك الأبراج المتداعية،لكن على طريقتها هي.أي دون أن يحظوا بشرف الإقامة فيها ولو على هيئة نفايات تعاف رائحتها الضباع،ودون أن تكون وقودا لغير حربها هي المعلنة والخفية،العابرة للأزمنة عبورها للأمكنة ،وبعد فوات الأوان سيحدق الأعمى طويلا في ملامح هذه الكائنات البغيضة التي لا تكف عن التناسخ عبر الأزمنة،متخذة الجديد من اللبوس والجديد من الأسماء والأشكال. إن الإعلان عن الحرب المرئية يكون ذريعة وغاية في آن،إذ من خلال تضخيمها ومركزتها تتحقق لعبة تهميش القضايا الأساسية التي تؤرق توجهات الأنظمة وتهددها بإصابة مصداقيتها في مقتل،كما تؤدي إلى تهميش القضايا الأكثر إلحاحا على اللحظة التاريخية.على أساس هذا المكر،نكون مستعدين وعن طواعية واختيار،للتنازل عن الحدود الدنيا لشروط وجودنا،وللتشكيك -إن اقتضى الأمر- في أنبل ما سبق الاقتناع به من قيم ومبادئ واختيارات.ذلك هو ما يحدث داخل الكتابة وخارجها أيضا. كما أن الإعلان عن الحرب المرئية،غالبا ما يكون على ضوء الخسارات التي يهدد وقوعها الأنظمة العالمية بالانهيار،أو على الأقل بإصابتها بتقيحات مزمنة على أسالة خدها الأيمن أو الأيسر أو هما معا. تماما كما يحدث في لحظات التوترات الكبرى،التي تعصف عادة بواجهات الأسواق الفكرية المالية والتجارية.لذلك،فإن الترتيبات التي تكون آليات عولمة الدغل بصدد وضعها،هي عمليا مؤشرات على بداية التورط في أزمة /أزمات داخلية سياسية وثقافية واقتصادية، كما أن مهامها قد تتسع أكثر لتشمل بعض الحقول التجريبية ،وخاصة منها تلك المتعلقة بتقنيات الإبادة وملحقاتها.أوعلى أقل تقدير،جس نبض المحاصرين في الدغل بهدف إقرار وقائع جديدة ،واستراتيجيات مستقبلية ذات التوجهات الهيمنية المكللة بنشوة الافتراس. إعلان الحرب يستهدف من ضمن ما يستهدفه،التخلص الشرعي من كافة المعيقات التي يمكن أن تعرقل إقبال المخططين على برمجة المزيد من استراتيجيات الإبادة،إما جملة وتفصيلا ،وفي أقل تقدير، إقبار هذه المعيقات في الهوامش النائية والمنسية. أما الحرب اللامرئية،فإنها لا تقل خطورة عن الحروب المعلنة أو المرئية،وذلك لضمور حدة مراقبة ومحاسبة آليات اشتغالها،باعتبار أن الاهتمام العام يكون موجها إلى الحرب المباشرة والمعلنة التي يتم تجنيد كافة الإمكانيات الإعلامية من أجل وضعها في مركز اهتمامات الرأي العام العالمي،كي لا تظل أية رقعة منه على الحياد،خاصة حينما يتم مواكبتها بخطابات معدة سلفا كي تخترق كل مسامات الأثير الكوني، بكل فئاته العمرية، و الإثنية والدينية،إلى أن تصبح ذات شان عالمي و جهوي وشخصي أيضا.ولبلوغ هذه الغاية يتم توظيف منطق التكتلات للتأكد من إخلاصها وتبعيتها،وكذلك من قابليتها الدائمة للتدجين،في أفق إنتاج خرائط جديدة وتكتلات جديدة، وأدغال بكر غنية بفرائسها وطرائدها. هكذا إذن يحق لحرب مرئية ومعلنة في بقعة جد ضيقة،أن تحدث قارات من الحروب اللامرئية.وهكذا تؤكد حركية العصور الحديثة أن استمرارية العالم أصبحت فعلا متوقفة على ضرورة احتدام هذه الحروب اللامرئية،من أجل إحداث تحفيز سحري لأسواق الدغل المعولم،كي يغدو الفضاء المثالي والنموذجي لتناسل أفكار ومواقف ومذاهب ونصوص تليق بشهوة الافتراس. ربما لم يكن لك علم بدم تلك القصيدة التي تبدت لك هادئة ووديعة ومغسولة بماء الورد، مثل أميرة ملائكية تطل علينا من جبل الغيم،أي منك أنت المقيم هناك في قلب تلك الدوامات الصاخبة التي تتناسل فيها المكائد والأحقاد،وتتصادى في أركانها صرخات الفجائع .أي منهم هم المقيمون حيث ينشر القتل نصوصه الدموية.أي من قلب الحرب التي دارت رحاها وتدور تباعا،حيث كنت وحيث ستكون جّدا وحفيدا.أي من تلك الحرب اليومية القائمة بين الجهات،بين المنازل والمراتب،بين الصفات والأحوال،بين الحروف واللغات والألوان والأصوات، بين الضوء والضوء.الحرب التي لن تهدأ إلا بفنائها فيكم هناك في قلب الدغل، مرئية كانت أو لا مرئية.الحرب الحربُ،هي ولا شيء سواها داخل النص و خارجه.