اسمحوا لي في البداية* ،أن أعبر لكم عن غبطتي التي ليس بإمكاني مداراتُها و أنا أقاسمكم شرف الاحتفاء بصديقنا الشاعر الكبير عبد اللطيف اللعبي، في هذا اللقاء الذي أميل إلى اعتباره لقاء تواصليا، انسجاما مع معجمه، الذي عودنا على تشذيب اللغة من علل البهرجة المؤثرة سلبا على تدفقها الموضوعي والتلقائي ، وأيضا انسجاما مع المكانة الهامة التي يحتلها مفهوم التواصل في مدونته الفكرية والإبداعية والإنسانية ،فضلا عن كونه الخيط الناظم لانشغالاته الكبرى والحميمية التي يتفاعل فيها الذاتي والموضوعي بمنهجية عز نظيرها في إبداعنا العربي الحديث . عموما ، فإن اللقاء مع الشاعر عبد اللطيف اللعبي ، وكيفما كانت طبيعته ،هو لقاء مع الحلم المغربي في أقسى مخاضاته وأجمل تجلياته التي تضيق بديناميتها وجموحها منازل اليقظة ، والتي تحتاج مقاربتها لأكثر من يوم دراسي ، وأكثر من مقال ومقال ، لذلك أجدني حريصا على الإشارة بأنني لن أَعِدكُم في هذه الأمسية الجميلة بمداخلة تشفي غليل فضولكم التواق إلى الإحاطة الشاملة بالرصيد الإبداعي والثقافي، الذي مافتئ الشاعرعبد اللطيف يراكمه عبر مساره الطويل ،والغني بأحداثه وعطاءاته، خاصة منها تجربته السجنية المتفردة بما أبدعته من درر شعرية وسردية نادرة ،انتزعتْها إرادتُه العالية من قلب دياميس وكوابيس النفي. قلت لن أعدكم بمداخلة دسمة لا لشيء سوى لأنني جئت لأستمتع مثلكم بصوته الذي دأب على إدهاشنا بجديد وعميق مقاماته المجنحة ، والوفيةِ أبدا لجذورِ وتربةِ إنشادٍ لامجال فيه لبوح مقيد بأغلال المقايضة أو المساومة . ولا لشيء أيضا، سوى لاقتناعي المسبق والراسخ باستحالة الإحاطة بكل تلك المسالك المتشعبة التي تفضي إلى مسكنه الاعتباري ذي المداخل المتعددة والمتنوعة ، حيث لن يكون بإمكاننا والحالة هذه ،أن نغامر في لحظات معدودة بتدبيج حاشية ما، على هامش أربعة عقود ونيف من العطاء النضالي والفكري والإبداعي، الذي أغنى الخزانة العربية والعالمية بأجمل النصوص وأكثرها بهاء، ابتداء من (العين والليل)، إلى أخر تجربة شعرية تتجسد في (شاعر يمر).لذلك سأقتصر ضمن الحيز المتاح لي ،على الإشارة إلى بعض تلك العلامات التي يمكن أن يستضيء بها العابر لمفازات وحدائق الشاعر، باعتبارها علامات/ ثوابت تتشكل بها ومن خلالها تجربته الإبداعية العميقة والاستثنائية . سيما وأنها مستقاة من صلب تماسه القاسي بلهب المعيش والمقروء، وليس من وحي استعادة آلية ، أو تأمل بارد في ما يحدث أن تعكسه مرايا الواقع ،أو الذاكرة المعرفية ،من ظلال غائمة وملتبسة . ولقد ارتأيت منهجيا ، وبكثير من التركيز والاختصار، أن أدرج بعض هاته الثوابث ضمن إحدى الخانات الأكثر حضورا في تجربة الشاعر، كما في حواراته، والتي يمكن تعريفها بخانة الحذر ، هذه السمة التي لاحظت ملازمتها لردود أفعاله ، كلما تعلق الأمربمبادراته المعهودة ،في اتخاذ موقف معلن وصريح من القضايا الكبرى ،الطارئة أو العابرة المتقاطعة مع سيرورته الإبداعية والفكرية، حيث لا مجال ثمة لأي قرار اضطراري أواعتباطي ، مادامت قناعات الشاعرلاتستقيم ، إلا من خلال وضعها على محك رؤية عقلانية ومتماسكة و متعارضة في نفس الآن، مع باقي القناعات المسكوكة ، أو المحفورة سلفا على لوح ما ،بفعل وفائها لجدلية انفتاحها و قابليتها الدائمة لأن تنقال بصيغ مغايرة ، تدعونا إلى مواصلة تمثل خطابه المتجدد ، الذي يظل بالنسبة إليه ، في حاجة ماسة إلى المزيد من إعمال الفكر والمساءلة ،على ضوء ما تداهمه به المرحلة من تحولات هائلة ومذهلة ، تتالى فيها محنة المحو جنبا إلى جنب مع تتالي فتنة الكتابة .إذ بهذا المعنى ، يتكشف لنا سر غزارة وفيض نهرمتدفق لا يكل من حفر مجراه ، كما تتكشف لنا دلالة سمة حذره، الذي هو بطعمِ التوجس والاحتراس اليقظ والمسكون بجموح اجتراح أجوبة مستقبلية ، لمجموع ما تُمطرهُ سماء الحاضر من أسئلة حارقة وجارفة . أما أول الحذرفيتمثل في تحفظ الشاعر من الرؤية الجغرافية للمكان ، بسبب اعتباره لها شكلا من أشكال اختزال الوجود في رقعة ضيقة ممهورة بمداد «الأصل » والهوية المفترى عليها ، ليُلحَّ بدلا من ذلك، على انتمائه إلى القارة البشرية التي تنعدم فيها ثنائية الشرق والغرب ، أو الشمال والجنوب ، كما تنعدم فيها إمكانية التحالف مع أولائك الذين احترفوا تغطية وجوههم، خلال حياة كاملة ،أمام آلام الآخرين ،بما فيهم أهاليه. حذرآخر، يتجلى في توصيفه للغة الإبداعية ،بعيدا عن الاستجابة الآلية لغوايتها ،استجابة العاشق الأعمى لنداء معشوقته. رفض أو تريث أو كلاهما معا . مادامت الاستجابة العمياء قد تعرضك حتما للسقوط في فخاخ قول مراوغ، لاصلة له بقول تجربةٍ معْنيةٍ أولا وأخيرا بهاجس تواصلها مع الآخر،مفرداَ كان أم متعددا .وذلك من منطلق اعتباره لهذه السيدة التي درجنا على تسميتها باللغة ،ذاتا غريبة بامتياز ، تحيا في ملكية وعهدة تاريخ طويل من الاستهلاك والتوظيف والتحريف والتشويه ، حيث لامناص لنا من إخضاعها باستمرار إلى التفكيك وإعادة البناء، بدل التفجير، كي يتسنى لها استعادة خصوصية شعريتها، وقابليتها للتماهي الفعلي مع خصوصية التجربة . الشاعرعبد اللطيف اللعبي، حذر أيضا من اعتبار الكتابة -كما يراها البعض- شكلا من أشكال التنفيس العلاجي ، أوأداة لدرء قدرالموت الذاتي أو النسيان ، من خلال تأكيده ،على حتمية انقراض وزوال كل لغة ،لم تتخلص بعد من بؤس انغلاقها ، وارتدادها إلى دواخل الذات المبدعة، كي تتقدم باتجاه ذلك المتلقي الذي يساهم في بناء شعريتها على الطرف المقابل من مكابدة البث. ثمة أيضا حذر معلن وصريح ، من أية دعوة لاندماج غير مشروط ، مهما كان مصدرها ومرجعيتها، خاصة حينما تكون الدعوةَ مسبوقة بنوايا اندماجٍ، تسيجه أسلاك سلطة الإجماع .تلك السلطة المخيفة والسخيفة التي تبدو ظاهريا مغرقة في الصفاء، بينما هي في العمق، تجسيدٌ فعلي لأقصى درجات الإقصاء . إقصاء الحق في حرية الاستقلالية ، وإقصاء الحق في حرية الاختيار ، حيث يتحول الاندماج في نهاية المطاف إلى فضاء تدجيني، تسكنه كائنات نمطية سعيدة باغترابها عن ذواتها وكينونتها. ولأن المتمرد على منظومة الإجماع، لايميل إلى امتلاك أية أسلحة ردعية تحميه من جبروتها غير سلاح الكلمة ، فإنه يختارطواعية الانتماء إلى «فدائييها «- والمصطلح من إبداع الشاعر - مما يدعونا إلى التأمل العميق في دلالته النضالية، داخل فضاء الإبداع كما في مضايق الحياة ومنافيها ،دلالة تترجم أنبل مقاومة يمكن أن تلتزم بها الكتابة ضدا على تعاليم سلط الوصاية والاحتواء ، أوما يواكبها من سلط محايثة درجت على الدوران في فلك النهي والأمر، حيث يظل السبيل الوحيد -في نظر الشاعر- لتفكيك سلطة الإجماع ،هو إصرار الكتابة على حماية مساحتها اللامحدودة من الحرية ، والكفيلة وحدها بتأمين حضورها الفعلي، ضدا على أي إكراه سياسي أو سياسوي، داخل مشهد تحتفي فيه الأضداد بتناحرها المرير. وكي لا أطيل عليكم في سرد الكثير من نماذج هذه الثوابت ،أخلص إلى التذكيربأن هذا الحذر النظري أو الغريزي - إن صح القول- هو الذي أفضى بالشاعر في نهاية المطاف ، إلى الإقامة بين المابين ،أي بين أرض الشعر وأرض السرد، بين المكتوب والشفوي ، بين وطنه الأصلي، وأوطانه الاختيارية . بين شموس لاتكف عن انبعاثها وأخرى تحتضر، بين طمأنينة اليقين وبلوى الشك، بين حميمية الهامش وهجنة المركز. بين تشاؤم العقل ، وتفاؤل الإرادة. بين العمل في الظل والتواصل في الضوء. وهي الإقامة ذاتها التي تسمح بالتئام شمل أدباء العالم، كي يمارسوا في فضائها المنفتح شرعية تبادل رسائلهم الإنسانية والحضارية ، بصرف النظر عن انتماءاتهم الجغرافية أو العرقية أو اللغوية . لكن تبقى ثمة مسلمة وحيدة لا يسمح عبد اللطيف مطلقا بتدخل سلطة الحذرفي الإقرار بأولويتها، وهي المتمثلة في تأكيده على هويته بصفته شاعرا،لايميز بين القصيدة وبين الحياة ،ماداما معا نُذِرا لمبدإ التشارك ، والتواصل ،حيث يمكن على نفس الجسر الممتد أمامهما ، تقاسم الوصية اللآمادية للقصيدة مع قارئه المضاعف، بنفس القدر الذي يمكن تقاسم حبة الكسكس مع إنسان المجتمعات المتحضرة ،طبعا على نفس المائدة التي لم ، ولن يتعب من إعدادها، مهما عبثت بأطاييبها الرمزية قذائف التخريب ومعاول البتر . نعم، شاعرذو رؤية مسكونة بتفقد الأبعد والأبعد ، لكن دون أن يفلح في إخفاء حيرته الكبرى من غموض الكون وأسراره اللآمرئية ، ودون أن يدَّعِي امتلاك عصمة الأولياء والقديسين ، شاعرمتعدد لكن بإسم واحد فقط، هوعبد اللطيف اللعبي. نص الكلمة التي شاركت بها في اللقاء الذي نظمته بلدية الرباط احتفاء بالشاعر عبد اللطيف اللعبي بمناسبة فوزه بجائزة الكونكور، والذي احتضنه فضاء المكتبة الوطنية مساء يوم الأربعاء 2010/2/24