1 - هل أحتاج إلى التّذكير بأن بنسالم الدمناتي قامة شامخة من قامات الشّعر المغربي الحديث؟ هذا أمر لا يمكن لأحد أن ينكره، ويكفي التّذكير بأن «ظاهرة الشعر المغربي المعاصر» لمحمد بنيس وهو أهمّ دراسة أنجزت حول الشّعر المغربي في عقد الستينيات، قد جعل شعرَه مكوّناً أساسيا في متْنها. لم يكن ذلك بغريب إبداعيا، فالدمناتي آمن بأن الشعر صنعة يجبُ إتقانها، لذلك لم يكن يستعجل نشر نصوصه، ولا يقدم على ذلك إلا بعد مضيّ وقت طويل على كتابتها، تاركاً لنفسه مسافة كافية لتحكيكها وإعادة النّظر فيها، وتشذيبها من النباتات الطفيلية، إيماناً منه بأن الشّاعر الذي يقدم نصّه للقارئ بسرعة، قد يندم على ذلك بعد فوات الأوان، لأن مباضع التّجميل قد لا تفيد في تقويم الوليد بعد خروجه مشوّها إلى الوجود، لذا كان على الشاعر أن يتريّث فلا يخرجه إلا بعد أن يستوي ويكتمل. وأنا أظن أن هذه الحساسية المفرطة تجاه تكوّن النّص وتشكّله النّهائي هي التي جعلت بنسالم الدمناتي شاعراً مُقِلا قياساً إلى غيره من الشعراء، علماً بأن هذه السمة سمة عامة في شعر الستينيات مع استثناء شاعرين مكثريْن هما محمد السرغيني وعبد الكريم الطبال. ومع ذلك فقد كان شعر الدّمناتي استثنائيا لا يستنسخ غيره، ولا يصوغُ على منوال، مما يجعل من السهل على القارئ الذي يدمن قراءته التعرف على ملامحه الخاصة في غياب أي توقيع، فهي موسومة ببصماته التي لا يمتلك شاعر آخر في نظري ما يشبهها. وهنا لا يجب أن ننسى تكوين الدمناتي الفني وشمولية حسّه الجمالي، فقد ارتبط منذ البداية بأبي الفنون، وكان ممثلا أساسيا في جمعية العمل المسرحي، كما كتب مسرحيات للصغار، ومسرحيات للكبار نشرت منها مسرحية «الدائرة والرمح الحجري» في أحد أعداد مجلة الزمان المغربي(1)، بالإضافة إلى كتابته بعض القصائد الغنائية، وقد ذكّرني الزجال حفيظ لمراني مشكوراً بقصيدته المشهورة التي يقول فيها : بحتِ بالهجرانِ سِرّا لِمَ لَمْ تُرضي عَليلا باتَ يشكو حَرَّ وجْدٍ .. صانهُ دهراً طويلا؟ وهي قصيدة جميلة لحنها الأستاذ محمد محيي الدين الشقروني آنذاك، وكانت أغنية ناجحة كم رددها شباب مدينة مكناس وتغنوا بها في الستينيات والسبعينيات. والدمناتي رغم قامته الشعرية الشامخة كان معروفا بتواضع جمّ لا مثيل له، وكأنه الحلاج الذي يخاطبهُ في أحد نصوصه: وتظمأُ حين أذْكُر أنني الإنسانُ خلف الظلّ، أبحثُ عن كلامي تبحثُ الأشياءُ مثلي عنْ مرافئها(2) لم يبحث عن الأضواء يوما، ولا ملأ الدنيا ضجيجا، ولا طلب من جهة احتفاء ولا تكريما، ولا أحرج ناقدا للكتابة عنه أو تقريض شعره، ولا فرض على صحافي إجراء حوار معه، فقد كان شمساً تتوهّج في الظل، وهل تحتاج الشّمس إلى أضواء؟. ولأن الشعراء إخوة، فقد كان يفرح عندما يصدر أحدُهم إصداراً جديداً تماماً مثلما يفرح وهو يصدرُ «قفاز بلا يد» أو «واحة النسيان». كما كان حريصا على تشجيع الشباب وإرشادهم. في هذا الباب أتذكر أنني والصديق عبد الحميد خيبري كنا نخربش خربشاتنا الشعرية الأولى في منتصف الستينيات، ومن سوء حظ صديقي أنه قرأ محاولاته على شاعر مُفلقٍ آخر أحبطه أشدّ ما يكون الإحباط وهو يتساءل: «واش كاتوزن هاذ الهضرا بالميترو؟»، فما كان منه سوى تمزيق أوراقه، واللّوذ بالصّمت، فيما كنت محظوظا وأنا أختار الاسترشاد بحصافة الدمناتي وحنوه وأبوته، فما وجدت فيه إلا السند القوي، والتشجيع المستمر، والتقويم القاسي أيضا، إذ أخذ يحثني على قراءة شعراء مختلفين، وينبهني إلى تجارب جديدة كتجربة مجلة شعر التي كانت خزانته تضمّ بعض أعدادها إلى جانب مجلتي الآداب والشّعر ... 2 -««يا أحمدُ ... تاريخُكَ مفتونٌ بمكناس» (3)، هذا ما خاطب به الدمناتي صديقه لكرامي، وهو ما يصدق عليه تماما، فقد كان عاشقا متيماً بمكناس، إذ لا أحد تغنى بها مثله، كانت بيته الكبير الذي لا يضيق به، والرحم الحاني الذي يجوب كل بلاد الله ثم يؤوب إلى حضنه غيرَ مبال بما طرأ عليه من تغيير، وما خضع له من تحولات ... يقول : لا أرض للمنفيّ، فاضحكْ. منذ متى النائي توارى عنه طيفْ؟ منسيّ تلك الأرض قد يأتي، بلادي توأما عيني هناكَ. (4) لكن هذا لم يحلْ دون تحوّل العشق في فترة ما إلى نوع من التشكي الأليم، والعتاب الجارح، حينما أصبحت مكناس أشبه ما تكون بالحبيبة التي تتنكر لمشاعره، وتغضّ الطرفَ عن إشاراته وإشراقاته العاشقة، وتضرب الذكرَ صفحاً عن تغنّيه بها، يقول : ظامئٌ من عِلل الشّرْب، ودونَ الأهل في «مكناسَ» حافاتُ الكؤوس الحمرِ أنّى واجهتكَ انكساراتُ المرايا لوحةٌ فيها شفوف الحزنِ. فيها الخوفُ(5) ما سرّ هذه النبرة الحزينة في القصائد الأخيرة التي ترد فيها مكناس: أهو المسْخ الذي طال العلاقات الإنسانية فيها؟ أم التحوّلات المفاجئة التي انعكستْ سلباً على القيم البهيجة التي عفّى عليها الزمان؟ أم هما معا؟ ... لست أدري، وكل ما أدريه هو أن الشاعر صرخ منادياً: فيا بهجةَ نجم ما تعرّتْ من ظنونِ الأمسِ حتى انكفأَ الخلانُ. واستعْصى البيانْ ... (6) ومع هذا فإنه يظل متسامحاً، وما إن يخمدِ الانفعالُ حتى يعودَ إلى هيكل عشقه الأول، غير مخفٍ افتتانه وشغفه القديم بالمدينة التي أنجبته، واقتطف ورود الكلمة الباذخة من منعرجات دروبها وأزقتها، وهو يشرب ماءها، ويستنشق هواءها مترعا بالفَرَح الطفوليّ الذي لا ينتهي ... 3 - ربطتني بكثير من أساتذتي في المرحلة الإعدادية والثانوية علاقة المحبة والاحترام، لكن علاقتي بالدمناتي كانت ذات مذاق خاص، فقد استمرت تلقائياً أكثر من أربعين سنة، وتطهّرتْ من كلفتها، وأصبحت علاقة صديقين حقيقيين وكأنها لم تكن يوما من الأيام علاقة تلميذ بأستاذ، وأنا الآن أتساءل: لماذا كان الأمر كذلك؟ لأحتلب الذاكرة إذن محاولاً الإجابة ... عرفتُ الدمناتي أول مرة وأنا تلميذ في المرحلة الإعدادية، وكان أستاذا معروفا في ثانوية النهضة إلى جانب ثلّة من الأساتذة المغاربة والمشارقة، لكنني عرفته بالإضافة إلى ذلك شاعرا قويّ الحضور في الأمسيات الشعرية الباذخة التي كانت تنظمها جمعية البعث الثقافي التي كان أحد مؤسسيها وذلك في المعهد البلدي للموسيقى أو دار الشباب بشارع محمد الخامس، وكانت أمسياتٍ تستقطب نخبة من فرسان الشّعر في المدينة في مقدمتهم بنسالم الدمناتي، بالإضافة إلى عبد السلام الزيتوني ومحمد أجانا وعلال الخياري وجمال الدين بنشقرون، وأحيانا محمد فجاج وزين العابدين الإدريسي، وكانت قراءة الدمناتي تتميز بصوته الجهوري الذي كان من أقوى الأصوات وأعذبها، لا يضاهيه في ذلك من أبناء جيله سوى عبد الرفيع الجواهري، وعبد اللطيف بنيحيى من أبناء جيلي، وهما صوتان خرجا معا إلى جاذبية الإنشاد من أثير الإذاعة. مع بداية الدراسة في قسم من أقسام السنة الثانية في بداية الموسم الدراسي 63/64، كم كانت المفاجأةُ السارةُ كبيرةً حينما فُتِحَ بابُ القسم وأطل علينا وجهُ أستاذ اللغة العربية الذي لم يكن سوى الشاعر الذي أعجبت به أيما إعجاب ... وكأنّ القدر حينما قادني إلى قسم الدمناتي، إنما كان يُشرع لي درْبا حالماً آخرَ غيرَ الدّروب التي كان يمكنني ارتيادُها، علماً بأنّ تميزي في مواد مثل الفرنسية والعلوم والرياضيات كان يؤهّلني لدراسة الطبّ أو الهندسة، إلا أن إعجابي بالأستاذ، حبّب لي لغة الضاد، وحفزني على شحذها وتقويمها، وحملني على تذوق أدبها، وعِشْقِ الشعر الذي أصابتني عدواه الجميلة. أتذكّر أنني جمعتُ ديوانه الأول «قفّاز بلا يد» في بداية السبعينيات، وكتبتُ نسخته الكاملة المجلّدة بخطّ يدي، وقد علمتُ من الدمناتي أنها ضاعت ... وأخذتْ تتوطّد علاقتنا أكثر فأدخلني بيته/بيوته، وعرّفني على عائلته الصغيرة، أتذكر نجله عصام وهو لا يزال صغيرا في البيت الذي كان يقطنه في درب العنبوب، كما أتذكّر كريمتيه أسماء ومنى وهما صغيرتان في بيت آخر في حيّ الرياض ... وهذه الحميمية كانت تشعرني بأبوية شعرية كنت في حاجة إليها، بقدرما كانت تبين لي عن كثب مدى حنو الدمناتي، وحرصه على تعليم أبنائه ورعايتهم وتربيتهم التربية المتفتّحة. هل اتضح الأمر يا ترى؟ لأجب الآن صراحةً بأنّ استمرار علاقتي بالأستاذ يرجع في نظري إلى سببين اثنين، أحدهما شعريّ محض، ولعلّه الأهم، فقد كنتُ أحدس أن الشّعر ظل يقرّب ما بيننا أكثر من أيّ عنصر آخر، إذ يكون أحد القواسم المشتركة في لقاءاتنا... والثاني يتّصل بشخصيّة الدّمناتي المتفتّحة، واستعداده لبسط جسور المودة والمحبة مع تلاميذه وخاصة حين يلمس فيهم مقدارا من النضج. فقد كان يعتبر النّجباء منهم بمثابة أبنائه الذين يحرص على تسقّط أخبارهم، ولكم كان يسعد بمعرفة ترقّيهم في سلالم الوظيفة، ونجاحهم في الحياة. أتذكّر في هذا السياق حضورَه المهيب في مناقشة أطروحتي لنيل دكتوراه الدولة حيث تابع وقائع المناقشة من ألفها إلى يائها، وكان فرِحاً فرحةً أبٍ بابنه، لا يسعه مكان من شدّة الغبطة... 4 - يقول بنسالم الدمناتي : أغايتُنا احتمالُ الصمتِ؟ نركض في التأمّلِ؟ لا نحسّ ... كأنّ في أحلامنا بعداً عن النظرِ ...(7) كان يبدو في منتهى الهدوء، وربما كان ذلك راجعا إلى طابعه التأمّلي، فأنا أتذكّره وهو جالسٌ في مقهى الزّهوة منذ سنة، أو مقهى الرّيكس منذ فترة بعيدة، يحمل سيجارته، يأخذ نفساً عميقاً أو نفسين، ثم يعيدها لترتاح على حافة المرمدة، فيحلّق سارحاً في الأفق البعيد وكأني به يصطاد كلمة هاربة، أو يطارد صورةً عصيّة تغيب في الأعالي، أو استعارةً ملفوفةً أرّقته الليالي ... قلما ينخرط في حديث مسترسل مع مجالسيه، فهو يُنصتُ أكثرَ مما يتكلّم ... يخفره هدوءٌ غالبا ما ترافقه حركةٌ متوتّرةٌ تصدرها إحدى يديه وكأنها تبتغي تحقيق توازن تلقائي، أو إيقاعٍ موازٍ مثلما يحدث تماما في نصّه الشعري الذي يراوح ما بين توتّر الصّورة ورقّة الكلمة وتناغم الأصوات والحروف. وحينما يحلو له أن يشارك في جلبة الحديث الدّائر، كانت محكياته لا تخرج عن الشعر المغربي، أو ذاكرة العمل، أو مواضيع العائلة أو الأخبار العامّة، أما ملفات الناس الخاصة وأخبار العباد فقد كان يتجنب الخوض فيها. لم يكن من الممكن تَصَوّرُ الدّمناتي يسيء إلى أحد، أو يمارس غيبة أو نميمة، فهو لم يخلق إلا لإبداع شلالاتِ الخير، وزرع حدائق الجمال، وتفريخ حساسينَ صادحةٍ تحلّق بعيداً في سماء الشّعر مغرّدةً بأجمل الأغاريد وأبهاها ... وحينما يتجرّأ أحدٌ على مجاوزة حدّه، فإنه يفضّل تجنبَهُ، لأن تربيته التقليديّة، وثقافته العميقة رسّخَتَا في أعماقه قيمَ الاحترام ورقّة التعامل والإخلاص لمبادئه، إخلاصَه لأهله وأصدقائه، وعلى ضوء ما تقدّم يمكن فهم ظاهرة إهداء نصوصه للأهل والأصدقاء وبعض الرّموز الوطنية، مثل عبد الرحيم بوعبيد وعمر بنجلون ومحمد تيمد وأحمد لكرامي وأحمد المجاطي، فضلاً عن حفيده الذي أهداه ديوانه «واحة النسيان»، و(ن ب) التي أهداها منه قصيدتين اثنتين، وهي ليست سوى أم عصام أطال الله عمرها. 5 - أيها الأستاذ الجميل، والشاعر الرائع، كم كنتُ أودّ أن يكون هذا المديح في حضرتِك وأنت بيننا، لو لم يكن للقضاء رأيٌ آخر ... لكن عزاءنا كلَّ العزاء أنّك ستظل حيّاً في نصوصك الشعرية الجميلة التي يذكّرنا تناغم أصواتها بصوتك المجلجل الجميل في قراءاتك الشعرية المضمّخة ببُحّتك السّاحرة، مثلما يذكّرنا ثراءُ رؤاها بثراء مناقبك وشيمك، وشموخ تعففك، وروعة محبتك، ووضاءة بهائك ... وأخيراً، فهل هناك ما أختم به أفضل من هذا المقطع الذي تشيّع فيه صديقك أحمد المجاطي حينَ تقول: وأُرْهِقُ كأسي بنَقْرِ الوميض على الطّوقِ فالخاتمُ الرّوحُ، والسّائلُ إكسيرُ الحياة. وآثرتُ أن تستحيلَ التّعاسةُ هوْلا، ولونُ الأصيل سلافةُ بكرٍ وماضٍ تشيّعهُ الذّكرياتُ ... وينساب حرْقاً، وحرْفاً إلى أن يصيرَ انحناءةَ قوْسٍ ومقبرةً من ترابْ.(8) ٭ هوامش : (*) نص الشهادة التي قُدّمت في حق الشاعر الراحل بنسالم الدمناتي في إطار الندوة التكريمية التي نظمتها المديرية الجهوية للثقافة بجهة مكناس تافيلالت يوم السبت 18 أبريل 2009 احتفاء به. (1) بنسالم الدمناتي : الدائرة والرمح الحجري، مجلة الزمان المغربي، ع13/1982 (2) بنسالم الدمناتي : واحة النسيان، مطبعة الإسماعيلية، مكناس 2006، ص 7 (3) ن م س، ص 15 (4) ن م س، ص 8 (5) ن م س، ص 37، 38 (6) ن م س، ص 37، 38 (7) ن م س، ص 98 (8) ن م س، ص 110