يحتفظ التاريخ الأدبي والفلسفي بالمراسلات بين الكتاب والمفكرين والمثقفين باعتبارها نصوصا أدبية وفلسفية موازية ومكملة ووثائق فكرية تحظى بالدرس والتحليل كما أعمالهم الأخرى، فنجد أغلب الخزانات العالمية تحتفظ بمجلدات ضخمة لمراسلات لهذا الشاعر أو الفيلسوف؛ بل إنها تعتبر جنسا أدبيا وفلسفيا قائما بذاته لما تزخر به من أبعاد إبداعية وجمالية وفكرية متميزة. لكن يبدو أن ثقافة الرسائل التي فجرتها الثقافة المغربية الجديدة في ظرفها الحالي لن تحظى بنصيب الخلود والاهتمام لسبب لا يصعب فك أسراره وهو أن هذه الرسائل المفتوحة الجديدة لم تكتبها أيدي الكتاب ولم تنظمها قريحة الشعراء ولم تنسجها تاملات المفكرين، بل فقط فاضت عن غريزة الأفراد وأفرغتها ذوات منتفخة غاب عنها أن المثقف تاريخيا لا يثبت ذاته إلا من إخلال إفنائها في الهوس بمشاكل العالم وأسئلة الكون وهموم الأخرين... فحتى الذات التي احتفتها بها المدرسة الرومانسية لم تكن ذات الفرد، بقدر ما كانت ذات الإنسان... فلقد بادر "الشاعر والناقد" المغربي محمد بنيس بإرسال رسالة مفتوحة إلى بيت الشعر تحت عنوان "الخوف من المعنى" ينتقد فيها حذف اسمه وأثره من المؤسسة التي أشرف على تأسيسها وقد أكثر في رسالته الحديث عن نفسه كشخص؛ فأجابه أول ما أجابه "الشاعر" بوسريف برسالة "في تعتيم المعنى" مستنكرا أن بنيس لم يكن يستدعيه وكان يقصيه من المشاركات والانشطة، قبل أن يدخل "بيت الشعر" على الخط في رد على بنيس من جهة برسالة "في معنى الخوف". في حين بادر الشاعر والمترجم خالد الريسوني إلى نشر رسالة مفتوحة في سياق آخر عقب مشاكل معرض الكتاب لهذه وحجب جائزة المغرب في بابي الترجمة والشعر ... عيب هذه الرسائل أنها أشبه برسائل الناس جميعا وتناقش الذات ومشكلتها بدل مناقشة مسائل الأبداع وقضايا الفكر وأسئلة العالم وهموم الناس .. وأجمل ما في هذه الرسائل عناوينها التي لا تشبه مضامينها.. "الخوف من المعنى" يفترض أن يكون عنوانا جميلا لرسالة في حدود المعنى في النص الشعري أو في صعوبة قراءة القصيدة أو في علاقة السياسي بالمتن الثقافي والنص الأدبي والبناء الفلسفي، لكنه ألصقت إلصاقا برسالة تحكي سيرة لذات تزهو بمنجزها الشخصي؛ و"في تعتيم المعنى" عنوان رائع لكتاب عن الخطاب الشعري المعاصر، او لقراءة للتداول في الخطاب السياسي النفعي، او في الخطاب الإعلامي الرسمي، وليس لمرافعة بارانوية تدافع عن الذات موضوع المؤامرة التي تستهدف إقبار عظمتها الموهومة؛ أما "في معنى الخوف" فهو مشروع نص فلسفي رائع أو بحث أكاديمي متميز عن الخوف كظاهرة فردية وجمعية وعن أبعاده النفسية والفلسفية والفيزيولوجية والثقافية والميتافيزيقية، لكنه أدرج عنوانا لمجادلة تافهة أقرب إلى أحاديث وخصام ربات البيوت والجارات في أحياء وحمامات مغرب الفقراء... و"بؤس الثقافة...وفلسفة البؤس" عنوان جميل لمقال في منبر محكم، لا شعار مقال يسجل موقفا شخصيا من حدث عابر لا يرقى إلى نبل الأدب والفكر. إن الرسائل الجديدة للمحسوبين على الثقافة والأدب لن تدخل في ذخائر الأدب والثقافة لسبب بسيط أنها لم تستطع أن تفارق الآن والأنا، وهو شرط من شروط الخلود .. فما لا يلامس الأسئلة الفكرية والجمالية والإنسانية العابرة للأزمان وللأوطان وللذوات لا يكون إلا مثل جريدة الحدث اليومي التي لا يكاد يغرب شمس اليوم حتى تجدها في سلال المهملات وعند مساحي زجاج النوافذ والأبواب .. في حين تسكن المجلات الوازنة الممتلئة بما يفارق الحدث والذوات رفوف المكتبات وخزانات المحفوظات.. لنقرأ هذه الرسائل لنستشف امتلائها بما لا يليق بتراسل المثقفين: نقرأ عن محمد بنيس : "سنة مضت، إذن، على تعيينك، بصفتك الحزبية، رئيساً لهذه المؤسسة، التي لا أزال أتذكر أنني كنت أحد المعلنين عن تأسيسها ورئيسها لثلاث دورات من 1996 حتى 2003، وأتذكر أنني نجحت، بفضل أصدقائي من الأعضاء الذين ظلوا إلى جانبي أوفياء، في إعطائها معنى التأسيس، بعيداً عن كل وصاية. لا بد أن أفرح بذاكرتي التي لا تنسى حدثاً له علو الألق، في مسار الثقافة المغربية الحديثة. فليس بمقدور أحد أن يسرق مني هذا الفرح، في وقت أشاهد فيه كيف أنك وأصدقاؤك أول من ينسون هذا الحدث، وأتتبع فيه كيف تعملون الآن على محوه من الذاكرة الثقافية. ضعوا كل ما قمت به وما أنجزته (وأنجزه) في مزبلة وأحرقوه، حتى لا يبقى أثر. وفي محافلهم اختاروا الكذب، كل مرة، على من يسأل عني. لا تغيب عن ذهني أسماء شعراء وكتاب أحرار كان لهم المصير نفسه، عبر التاريخ، كما لا يغيب عن ذهني ما عانيت منه في "اتحاد كتاب المغرب" بسبب رفضي (وفضحي) تبعية الثقافي للسياسي. أسألك أنت، على نحو مباشر، ولا أسأل غيرك من الذين عملوا على خيانة فكرة "البيت"، وهم ممن أعطيتهم في حياتي أغلى ما يمكنهم الحصول عليه، منه ما هو واجب علي، كأستاذ في الجامعة، ومنه ما ليس واجباً، علماً وتكويناً ونشراً ومكانة وحضوراً في الحياة الثقافية. أعطيتهم بدون تقسيط، ولا أندم على ما أعطيت. تلك عقيدتي في الحياة، أنت الذي كنت أخبرتني بفوزي بجائزة الأركانة، متحدثاً عني بعبارات التمجيد والإجلال. وجه لك هذه الرسالة المفتوحة. لعلك تقرأ. " ونجد أسئلة عن من فعل هذا ومن لم يفعل ذاك ونقرأ في ردّ بيت الشعر في المغرب على رسالة الشاعر محمد بنيس المفتوحة: "ثمة أسئلة ينبغي أن نطرحها ، يمكن لبنيس أن يجيب عنها إن أراد، وإن كنا لا نلحّ في ذلك لأننا نعرف الجواب الحقيقي. مَنْ اقترح فكرة البيت، في البدء، ووجّه الدعوة شفويا لمحمد بنيس ومحمد بنطلحة في لقاء بفضاء الواسطي بالدارالبيضاء؟ من أطلق مبادرة المهرجان العالمي للشعر فاسْتخفَّ من اقتراحه وطموح فكرته محمد بنيس أثناء اجتماع للهيأة آنذاك؟ من أثار فكرة اليوم العالمي للشعر، التي سبق وطرحها بيت الشعر في تونبس أولا، واقترح ضرورة طرحها على منظمة اليونسكو؟ من دعّم اقتراح بيت الشعر عندما طالبت اليونسكو بضرورة أن تُدعِّم الحكومة المغربية الاقتراح لأنه - كما قالت المنظمة المذكورة - صادرٌ عن إحدى جمعيات المجتمع المدني؟ أليس الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول ، ومحمد الأشعري وزير الثقافة آنذاك ( الشاعر أولا وأساسا) ؟ أليس الرجلان معا سياسين بامتياز؟ فلماذا نهاجم السياسي،ثم نعتمد عليه ؟من استعمل زملاءه الشعراء في الدورة الأولى للمهرجان العالمي للشعر بالدارالبيضاء ونعتهم بكونهم "فريقه" في تغطية نشرتها صحيفة " لوموند" الفرنسية؟ من وصف نفسه بكونه خطّاءً في جلسة محاسبة بالمحمدية ضمّت بعض مؤسسي البيت، فضلا عن الأخت أمامة المنوني، وذلك مباشرة بعد انتهاء الدورة الأولى للمهرجان العالمي للشعر؟ وكيف صيغ بيان الحقيقة حول تلك التغطية ومن ترجمه إلى الفرنسية وأرسله إلى الصحيفة المذكورة؟ وهل نتحدث عما جرى مع الشاعر الفنلندي بِّينْتي هُولابَّا والشاعر المقدوني جلِّيفسكي وغيرهما ممن استضافهم بيت الشعر فلاحقتهم الطلبات الشخصية ؟ ولماذا زار صاحب الرسالة بمعية الشاعر مصطفى النيسابوري الشاعر حسن نجمي في بيته بزنقة طنجة بالرباط؟: ومحاولة الاستهزاء كأن يحاول بيت الشعر تعريف من هو مفروض أن لا يحتاج إلى تعريف: "ومحمد بنيس، بالنسبة للذين لا يعرفونه،" وقدم بيت الشعر لرسالته باستشهاد لمحمود درويش يقول فيه: "الحياة هي الشعر، حين تكتبه ذاتٌ ليست ذاتية تماماً" لكن "بيت الشعر" لم يفهم بيت الشعر وصاغ رسالته ملأى بذوات ذاتية حين دخل في خصام الذوات والرسالة الممتلأة بالأسماء بدل الأفكار دليل على ذلك..ويشتم فيها ما تتهم به مخاطبها محمد بنيس من " تباكى على مصالح ذاتية" وتنتهي الرسالة بدعوة غريبة من بيت الشعر لشاعر: "لِينْزل الشاعر من غيمته قليلاً كي يلمس ما تغيّر على أرض الشعر" والواجب أن الشاعر قد نزل من غيمته ليناقش الزائل والفاني، فكان واجب من المفروض أنه راع للشعر أن يطلب للشاعر السمو إلى غيمته وان يسمو باقي الشعراء معه إلى تلك الغيمة ليسبحوا في ملكوت الصور والتأمل بدل الصراع حول فتات الموائد الفانية على حساب خلود الافكار والأشعار في غيوم الإلهام والاستلهام " كما نجد أنفسنا أمام ابتذال فكري وتصويري يناقض أحيانا ما يحفل به بين السطور كأن يستسهل محررو الرسالة قول: "إن بيت الشعر في المغرب مكان للقاء والنبل والحرية والمحبة" "نود أن نرفع التحدي ونطالب محمد بنيس بأن يرفع إن شاء دعوى قضائية (ما الذي يمنعه؟ محمد بنيس، لن يتحقّق القصد لأنه غير نظيف. لا أحد يثق في مستقبل وردٍ يشيخ. فاخْرُج من شخصية الظل كي تشُمّ هواءً نقياًّ . ستجدنا دائماً هناك، إخوة وأصدقاء في الشعر كما في الحياة.. إنْ أَردْتَ. " وردا على الشاعر محمد بنيس في تَعْتِيم المعنى رسالة مفتوحة إلى " الرئيس السابق "! لبيت الشِّعر.." نقرأ عندصلاح بوسريف: "طريقة، لم تَعُد تَنْطَلِي اليوم على الكثيرين هو الذي اسْتَحْوذ، بدعم من حسن نجمي، على رئاسة البيت، بعد مُغَادَرتي له، و أنا عضو مؤسِّسٌ، و أحد الحاضرين في كُلِّ التَّشْييدات الفعلية لدعائم البيت، و لم أكن ظِلاَّ لأيٍّ كان............. قبله فرع الدارالبيضاء لاتحاد كتاب المغرب، الذي كنتُ رئيساً له. ما أزعج هذا " الرئيس السابق "، و جعله يسعى للتآمُر ضِدِّي، ليخلوا له البيت أسأل " الرئيس السابق "، و لديه الوثائق، و هي أيضاً في أرشيف البيت، أن يُخْبِرَني، متى استدعاني لِلِقَاءٍ، أو لمهرجانٍ، أو طلَب مِنِّي الكِتابَةَ في المجلة، أو استشارني في أمر مجلة " البيت "، التي كٌنْتُ رئيسَ تحريرها، فقام بإزالة اسْمِي، دون استشارتي، أيضاً صورتي التي كُنْتَ قَتَلْتَها في المعرض الدولي للكتاب، كُلُّ صور المُؤَسِّسِينَ كانت موجودة، كبيرةً وبارزةً، سألُك، و أنا لستُ مشغُولاً بجوابك، لأنَّه لم يَعُد يعنيني. ثمَّة الكثير مما يُقال و لِكُلِّ مقامٍ مقال. " أما عند خالد الريسوني فنجد: إننا لا نتوانى في التقليل من شأن كاتب أوشاعر أو مفكر لكي نلفت النظر إلى ذواتنا المريضة والمتهالكة؛ لذات المتضخمة والمشروخة ظل هذا الوضع المأزوم، ، بل فكر في الحفظ، وفي شحن الذاكرة بالموروث القديم، قال العلامة: أعطه مائة دينار وليكن أولبياد الحفظ مسكنا لذاكرتي المثقوبة، هكذا يكرس السيد الوزير العلامة تصوره السلفي التراثي ومادمت معنيا بأمر حجب جائزة المغرب للترجمة باعتباري قد رشحت ثلاثة أعمال ترجمتها عن اللغة الإسبانية لنيل هذه الجائزة وهي: لالوثانا الأندلسية لفرانسيسكو ديليكادو (رواية إسبانية من القرن الخامس عشر)، زوايا اختلاف المنظر ويليه كتاب الطير والسكون المنفلت لكلارا خانيس (ثلاثة دواوين شعرية في كتاب)، واليوم ضباب لخوسيه رامون ريبول (ثلاثية شعرية) وهذا ما لن أكرره ثانية وكأني قد سقطت من سماء أخرى غير هذه التي ترسل علينا كل يوم طوفانها الآثم وجحيمها الحارق، تصوروا أن أعمالي أبعدت من التنافس لسبب تقني ، أبعدت أعمالي لسبب تقني، ، أبعدت أعمالي لسبب تقني، وإن كنت لا أمثل شيئا في خريطة هذه الثقافة المغربية التي تعيش أوج انتكاستها وبؤسها بمشاريع السيد العلامة وزير ثقافتنا المبارك الذي أبان أنه يسكن زمنا غابرا وذاكرة مثقوبة أعلن أني سأقاطع كل أنشطة وزارته" هي دعوة إذن لكي يتبادل المفكرون والمبدعون رسائل مفتوحة عن العالم والابداع والجمال والحداثة والتقليد وأسئلة الفرد والجماعة وهموم الوطن والكون وهواجس الإنسان والحياة .. إن حديثا عن الذات الفانية يفنى وكل حديث عما يحيى بعد الذات يخلدها.. [email protected]