غلاف كل عمل إبداعي هو قلادته, هو عتبته ومفتاح البيت. حين يكون العمل الإبداعي منسجما في دلالاته؛ يحملك الغلاف إلى الكتاب, إلى عطره و كنوزه الداخلية. من هنا فالغلاف هو شفرة, هو رؤية لغوية بصرية وتشكيلية. وغلاف الديوان الأخير للشاعر الفلسطيني سليمان دغش هو بوابة مثيرة لأجوائه الداخلية الخصبة, ونحن نقرا صفحاته, صفحة, صفحة, نحس أن المعاني والصور رغم عمقها, وثرائها, وانتمائها إلى عالم فلسفي شديد التركيب والرمزية,سبقتنا وعبرت عن نفسها عبر الغلاف. عنوان الديوان يتكون من ضمير واحد هو « أنا» هذه « الأنا « مفتوحة هنا على كل الاحتمالات, هي واحدة, ومستقلة بذاتها, ليست معطوفة, ولا مضافة, ولا مجرورة, ولا مكملة, ولا مكمل بها, هي تقف شامخة في وجه الريح وأسئلة القارئ , هي أيضا غير معرفة, هي نكرة لأنها تضم عشرات الانوات المعرفة .الأمر لا يعبر عن تضخم نرجسي, كما قد توهم بذلك القراءة العابرة, إنها الأنا المرآة:»أنا» الذات الفردية في التحامها بالذات الجماعية في خطاب فلسفي وفكري وصوفي متفرد. عن أي ذات ؟ عن أي جماعة نتحدث ؟ سليمان دغش هو شاعر عربي / فلسطيني, ينتمي إلى طائفة الموحدين الدروز إحدى طوائف الإسلام الإسماعيلية, تلك ثقافته, وذلك انتمائه, والدروز هم أصحاب رؤية فلسفية للحياة مفتوحة على الفلسفة اليونانية والإسلامية وفلسفات لثقافات أخرى موغلة في التاريخ, من داخل منظومتهم الفكرية هذه يؤمنون بفكرة الإمام الذي سيخلص البشرية وهم في حالة انتظار دائم له .الإمام هنا ليس مجرد شخص, انه ذات تقف في حالة استثنائية بين الحضور الفيزيقي الغائب, والحضور الفلسفي والروحاني الدائم .انه الدليل والضوء والفرحة القادمة, من هنا فضمير» أنا» يرمز للذوبان بين ذات الشاعر وذات الإمام. الشاعر هنا هو الإمام, والإمام هو الشاعر, ليس هناك جسور ولا حدود بينهما بقدر ما هو ذوبان حقيقي أشبه بالحلول في فلسفة المتصوفة. في موسوعة ويكبيديا العالمية نقرأ عن «الدروز» «شعار الدروز نجمة خماسية ملونة ترمز ألوانها إلى المبادئ الكونية الخمسة « العقل/ الأخضر, النفس/ الأحمر, الكلمة /الأصفر, القديم أو السابق/ الأزرق, والوجود أو التالي/ الأبيض, هذه المثل تمثل النفوس الخمسة التي تتقمص بشكل مستمر في الكون في شخص الأنبياء والرسل والفلاسفة بما فيهم ادم» نحن أمام حساسية استثنائية, خاصة, وخصبة في التعامل مع الألوان باعتبارها رموزا بمعاني وجودية كبيرة. فاللون يعكس فلسفة و رؤيا تلاحم معها الديوان منذ الغلاف في انسجام مع فلسفة اللون للثقافة التي يحملها الشاعر. كل ظل للون في الديوان جاء واعيا بذاته, عاكسا كالمرآة لروح الديوان ونبضات قلبه. كتب اسم الشاعر مع ضمير» أنا» وهي عنوان الديوان باللون الأبيض الذي هو رمز للوجود والتالي أي المستقبل. النقطة في ضمير» أنا» جاءت باللون الأحمر, وتزين ألفها خطوط حمراء. وتحت ضمير» أنا» كتب اسم الشاعر بالحروف اللاتينية بلون احمر الذي هو النفس أي الروح. نقطة النون في ضمير»أنا» هي محور وقاعدة الضمير, تماما كما هي الروح جوهر الإنسان. الهمزة في ضمير» أنا» كتبت بالأصفر الذي يعني الكلمة. بهذه الأبعاد تصبح «الأنا « روحا وكلمة للمستقبل, تسبح داخل فضاء العقل في قوته ووهجه, بينما غاب عن الغلاف اللون الأزرق الذي هو القديم والسابق, بما يحمل إشارة إلى الاندفاع نحو الأمام والتطلع للمستقبل, وهذه إشارة ذكية جدا من مصمم الغلاف,لأن الإمام في هذه الفلسفة هو سابق ولاحق, هو الامتداد للحياة في كل عصورها. كان في السابق ليجيء في اللاحق/ المستقبل. صورة الغلاف عبارة عن وجه الشاعر نصفه ظاهر ونصفه متخف. يطغى عليها اللون الأخضر بشقيه الغامق والفاتح, الجزء الخفي لوجه الشاعر هو الإمام فيه, وجزءه الآخر هو صورته, لتعكس الصورة بدورها التلاحم بين الشاعر والإمام, بين الخفي والظاهر, بين الحضور والغياب, وحيث ان اللون الأخضر يرمز إلى العقل في الفلسفة الدرزية, فان الجزء المتخفي من صورة الشاعر تشمل الأخضر الغامق أي الأخضر القوي,بما يعبر عن العقل. وعلى هذا الجانب الخفي من الصورة كتب ضمير» أنا» فأنا الشاعر ترمز للإمام وللعقل, يقول سليمان سليم علم الدين عن العقل عند الدروز في كتابه» دعوة التوحيد الدرزية / المدارس الفكرية والتيارات الفلسفية « العقل عند الموحدين الدروز هو دين يقدسونه ويبنون جل عقائدهم عليه و فهو المخلوق الأول للقدرة الإلهية ,علة العلل والمرجع الأول والوحيد في أعمالهم وتصرفهم الديني والدنيوي «1 بهذا المعنى فالعقل عند الدروز هو قوة روحية مجردة مرتبطة بالتجلي الأول الذي هو بداية تشكل الكون, بعد هذا التجلي أبدع الله العقل, ومن فيض نور العقل تكون الكون, لذلك جاء ت الهمزة في ضمير « أنا « بالأصفر وكتب الضمير كله بالأبيض الذي هو الوجود والتالي, فالوجود في ابعاده المستقبلية يشكله « الأمام» الذي سيأتي ليخلص البشرية في دور شبيه بدور المهدي المنتظر. يبدو وجه الشاعر الظاهر في اخضر قريب من الأصفر, ليحدد دوره ورموزه, حيث يقف مسافة بين العقل والكلمة, بين التفكير والإبداع, لأن التفكير جزء من العقل, والعقل بحد ذاته هو إبداع للخالق. > تنويه: ديوان « أنا « للشاعر الفلسطيني سليمان دغش هو تجربة صوفية متميزة وخلاقة, و التعبير عنها بالغلاف كان يتطلب تحديا واحساسا وفهما لعمق الفلسفة الدرزية, وهي فلسفة شديدة التعقيد وتتطلب قدرة كبرى على استيعاب التجريد , خصوصا وهي تلخص لاوعيا جماعيا لفئة بكاملها, من هنا اعتبر ان علاف الديوان بالشكل الذي صمم به نجح بامتياز في التعبير عن روح هذه الفلسفة, وقدم صورة وفية ومشرقة لعوالم الديوان الداخلية. > إشارة أخيرة: صدر الديوان عن دار نفرو للنشر والتوزيع بجمهورية مصر العربية سنة2006 وصمم الغلاف الفنان المصري كامل جغرافيك. > هامش: 1 سليم سليمان علم الدين دعوة التوحيد الدرزية/ المدارس الفكرية والتيارات السياسية عن دار نوفل 1998 (٭) فريدة العاطفي: شاعرة وقاصة من المغرب مقيمة بفرنسا يتناول كتاب «صورة الآخر في الخيال الأدبي» تأثير الإيديولوجية العرقية في خيال أشهر الكتّاب الأمريكيين البيض: إدغار ألان بُّو، إرنست همنجواي، هنري جيمس، مارك توس، ويلا كاثر، هيرمان مينفيل وغيرهم من كتاب الرواية والقصة المعترف بهم في التراث الأدبي الأمريكي. وقد تشكل الكتاب من مقدمة الدكتور محمد أنقار، ومقدمة المترجم، ومقدمة الكاتبة، وثلاث فصول: قضايا سوداء، والظل وسمات الرومانس، والممرضات المزعجات وطيبوبة سمك القرش. لقد تعاملت الباحثة مع النصوص الأدبية بوصفها تجربة ترتبط بسياق تاريخي وبمؤلف ذي رؤية وإيديولوجية. فمن البدهي إذن أن تهتم ناقدة زنجية بتأمل صورتها أو صورة الأفارقة الأمريكيين في الأدب الذي صاغه الكتَّاب البيض، بدل أن تنصرف إلى دراسة أدبية خالصة تعيد فيها إنتاج أسئلة النقد والنظرية الأدبية، أو أن تقتصر على دراسة شكلية ذات نزعة علمية موضوعية. لقد أظهرت مقاربة طوني موريسون أن القارئ غير الأوربي وغير الأمريكي للرواية الأوربية والرواية الأمريكية، بما يمتلكه من سياق مغاير مطبوع بالاضطهاد والتمييز والإقصاء، يستطيع أن يرى في التراث الروائي ما تجاهله القارئ الأوربي أو الأمريكي. ولعل هذا ما اضطلعت به الكاتبة في مقاربتها للرواية الأمريكية. لقد فتح هذا السياق أمام عينيها كنوزا في الرواية الأمريكي لم يكتشفها النقاد من قبل. إن مزية مقاربة طوني موريسون هي أنها لم تقتصر على وضع الأعمال الأدبية في سياق التجربة التاريخية لعلاقة البيض بالسود في المجتمع الأمريكي، ولم تتوغل في مقاربة جمالية تقنية تنسيها وظيفتها باعتبارها زنجية وأنثى. هذا التوازن بين مطالب المقاربة الأدبية ومطالب الذات الجنسية والتاريخية هو ما يميز طبيعة النقد الذي مارسته موريسون على أعمال قصصية وروائية معتمَدة في تاريخ الأدب الأمريكي. على الرغم من إيمان الباحثة بأن الإيديولوجية العرقية تؤثر سلبا في البناء الروائي، وهو ما كشفت عنه بدقة في تحليلها لرواية ويلا كاثر «سافيرا والآمة»، إلا أن اهتمامها الأساس في هذا الكتاب لم ينحصر في هذا الإشكال الجمالي، كما أنه لم ينحصر في الكشف عن دونية السّود في الرواية الأمريكية وحضورهم النادر والثانوي، بل اتسع ليشمل الاهتمام برؤية ما تحدثه الإيديولوجية العرقية في ذهن الأسياد وخيالهم وسلوكهم، وذلك بواسطة تأملها في صيغ هذا الحضور ودلالاته التخييلية والإيديولوجية. هذا التأمل الذي أرادت به أن ترد على لامبالاة النقاد وتغافلهم عن حضور السود في الأعمال الروائية التقليدية المعترف بها. إنه الحضور الذي شكل أساسا لتحديد خصائص الأدب الأمريكي والشخصية الأمريكية. لقد تجاوزت موريسون في قراءتها استراتيجية فحص الحضور الثانوي للسود والسواد في الرواية الأمريكية أو وصف صوره السلبية بمفهومها الجمالي أو الإيديولوجي معا، إلى الكشف عن وظيفته في بناء العمل الروائي وإيديولوجيته، أو الكشف عن الاستراتيجيات اللغوية والأدبية التي يعدها الكتاب عندما يتخيلون الآخر الأفريقاني. فقد شكَّل هذا الحضور في عديد من النصوص الروائية والقصصية التي وقفت عليها الباحثة وظيفة تخييلية حاسمة، بل ووظيفة إيديولوجية تمثلت في أن تحديد الرجل الأمريكي الأبيض لهويته كان يتوقف على هذا الحضور الأسود. فهذا الرجل لا يصبح ذاتا حرة ومحبوبة وقوية وتاريخية وبريئة، إلا بافتراض وجود هذا الحضور الأسود. يمكننا فهم مقاربة طوني موريسون للرواية الأمريكية بالإشارة إلى مرتكزاتها النقدية الآتية: أ - النقد عند طوني موريسون ذو وظيفة ثقافية أو إيديولوجية بقدر ما هو ذو وظيفة جمالية.إن تأويلها لم يكن مسخرا لغاية نقدية أو جمالية، بقدر ما كان مسخرا لإبراز الفكرة التي تدافع عنها الباحثة في كتابها وهي أهمية حضور السود في الخيال الأدبي ب - النص الروائي عند طوني موريسون ليس شكلا منغلقا أو بناء جماليا يمكن توصيفه في عالمه الداخلي والكشف عن معانيه الإنسانية المحتملة، وعن أساليبه وتقنياته الغنية، ولكنه خطاب عن الإنسان في فضاء جغرافي معين ومرحلة تاريخية؛ فقراءتها للرواية الأمريكية بقدر ما قامت على فحص الإمكانات التعبيرية للنصوص، قامت أيضا على استثمار التجربة التاريخية للمجتمع الأمريكي القائم على التمييز العرقي. لأجل ذلك انصب تحليلها للنصوص الروائية بوصفها خطابات متورطة في هذه التجربة، غير أنها لم تحصر هذا التحليل في الكشف عن صور القهر والدونية التي أسبغها خيال الكتاب على السود أو الأفارقة الأمريكيين، بل اعتنت بتأويل هذه الصور واستجلاء وظائفها التخييلية والإيديولوجية.