من المؤكد أن العصرالذي نحيا فيه مؤقتا،كي نمارس لاحقا موتنا الأبدي خارجه،لم يعد عصرا بالمفهوم الزمني للكلمة،بل تحول إلى عصر آخر مضاد ذي طبيعة مفهومية خالصة.أي إلى بنية صماء محشوة بما يكفي من الاستراتيجيات لإجبارك على تبنيه باعتباره مفهوما منفصلا عن صيرورته وتوصيفاته المتعارف عليها.ففي قلب هذا الإطار المفهومي الجديد ستكون أنت بالذات جاهزا لتبني إملاءاته ومسلماته،والمختزلة في وجوب اقتناعك الضمني بالسلطة العليا التي يمتلكها العقل المركزي في صيغته المعولمة،وقد أمسى بفعل إيغاله المنقطع النظير في شعاب البحث التكنولوجي و التسويقي،واثقا في إمكانية تسخيره لمفاتيح كل تلك الغرف السرية التي لم يفلح المخيال الأسطوري والخرافي من قبل في اكتشافها،كما أنه لم يعد مهيأ لتقبل فكرة انتمائه إلى تلك السلالة الداروينية المرابطة إلى الآن في أدغالها الموحشة،وقد اطمأنت إلى استمرارية حضورها البدائي بيننا. كما أنه لم يعد مهيأ لاعتبار هذه السلالة أصلا رمزيا لما حققه، وما هو بصدد تحقيقه من منجزات علمية منفتحة على استحالاتها. بل أمسى إلى جانب ذلك، مقتنعا بأنه الآن قاب قوسين أو أدنى من تجاوز بعده البشري،كي يتحول إلى كائن مغاير،سيظل بحاجة ماسة إلى توصيفات وتعريفات فلسفية جديدة مختلفة ومتعالية عن غيرها من التوصيفات التقليدية أو الحداثية التي دأبت على تعريفه بالحيوان الناطق،المفكر أو الحكيم.هذا العقل/الكائن هو الآن منهمك في إنشاء فراديس أرضية جديدة منسجمة مع ما تختلقه إنجازات العلم من معايير جديدة، تتشكل على ضوئها هويته المستقبلية،المسكونة باستشراف عوالم تلك الأزمنة السحرية التي طالما أرقت أحلام الفلاسفة والمبدعين منذ فجر التاريخ إلى الآن. المفهوم نواة مُرَّةٌ لفاكهة عصر آخر ولأن عقل الكتابة هو جُماع عقولٍ أكثر تركيبا، وأكثر تعقيدا من عقل العصر ذي المركزية الكونية،والتي يمكن أن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر،عقل الحلم وعقل الحدس وعقل الإدراك وعقل الحواس،إلى جانب عقل الحرف وعقل الطرس،فإنها وتبعا لذلك، تجد في هذا العقل المدجج بأوهامه، مادة مغرية لممارسة حماقاتها العالية عبر تفكيكه إلى آخر حصاة عالقة بقلب حذائه،خاصة وأن احتماءه بالسلطة المفهومية التي يعتد العصر بها، قد أوهمه بوجوده في مأمن من أية متابعة أو محاسبة،إلى جانب كونه المصدر الأخير لكل أمر أو نهي ثقافي أو حضاري.وبفعل إنجاز هذا العصر/المفهوم لطوفان جارف من البنيات الجديدة التي تنتشي بتبادل مكر المحو فيما بينها،لم يعد ثمة من شيء مكتمل مادامت المعرفة التقنية قد أمست خارج السيطرة،بعد أن حولت العالم إلى ورشة أسطورية لتصنيع «لُعب حياتية» انتقلت بمجال الكمالي إلى مجال الضروري الذي لا يقبل التأجيل !،كما أدت بالتالي إلى إحداث رجات متتالية وعنيفة في دواخل الكائن الذي لم يعد مهيأ لاستنفاذ ما تغرقه به المختبرات من مستجدات،حيث أصابه البعد المفهومي للعصر بإعاقة طفولةٍ مشوهة تتخذ من المبتكرات العلمية المتوالية لعبا معرضة دائما لأعطابها.ولأن خبرة العصر أمست مختزلة في تصنيع العابر والمؤقت والهش،فقد تم تحويل اللُّعب إلى مُنشِّط هجين من منشطات حواس الكائن ومدركاته، لُعب/علاماتٌ غير قابلة للمقاربة لا من حيث هي ظاهر ولا من حيث هي باطن،بفعل خلوها من أي محتمل يمكن أن يغري الكتابة بمقاربته بالرغم من التدخل الضاري لاستراتيجية التسويق،التي تسهر على تزويدها بثنائية ظاهر وباطن لا تتحقق إلا عبر ذلك البؤس الإسقاطي المفرغ من هويته،إلى جانب سهرها على أن يكون اندماجه في استهلاك هذه اللعب بعيدا عن كونه مجرد اندماج في متعة عابرة،بل على النقيض من ذلك،سيكون واجبا مركزيا من واجبات حياته «الحداثيةّ !». أنت تلعب فأنت موجود إنك من وجهة النظر المفاهيمية للعصر،ملزم باللعب من أجل أن تكون.وتلافيا لتعرضك لشبهة التخوين، فأنت مطالب بتأكيد اندماجك في هذا اللعب ،والذي ينبغي أن يكون على درجة كبيرة من الاحترافية المستندة على فلسفة عبور لا يحتمل الإقامة،إذ ليس لك أن تظل حيث أنت،وليس لك أن تستنفذ ما هو متضمن في الشيء،مادام هذا الشيء هو ذاته مستنفذ سلفا. بمعنى أنك مطالب دائما بتغيير وجهة السير، دون أن تبدي أي تعلق فكري أو انفعالي بما سبق أن كنت فيه . وعي العصر-وقد غدا مفهوما- باحتمال تعرض خطاباتِه لنسبة معينة من الممانعة،جنح به إلى توظيف الأقنعة التنكرية المستعارة من واجهات الحداثة،بغاية إضفاء مسحة إغرائية على هذه الخطابات كي تخفف من حدة المقاومة التي يحدث أن يبديها «الحرس القديم لزمن الأنوار» في أفق إدماجهم اللآمشروط داخل طقوس اللعب،حيث يمكن اعتبار توظيف هذه الأقنعة شكلا من أشكال خبرته الكبيرة بعلم إدارة الحرب الدائمة بين الحداثة ومرادفاتها المنزاحة عن مقاصدها،ثم بين هذه وأضدادها،خاصة وأن الحداثة لم تسلم هي أيضا من تعددها الذي تدعوا إليه،حيث أصبحت جمعا من الصعب تطويقه أو الحد من تفاقمه.لذلك كان من الطبيعي وبموازاة ذلك،أن تتعدد مرجعياتها ومسالكها المؤدية إلى أفاقها المختلفة،وهو ما ساهم في تعدد أنواع وأشكال الحروب القائمة بينها وبين أضدادها ،خاصة منها تلك الحداثات المنزاحة عن حدها البشري،والتي لم تعد مستعدة للتظاهر ولو بالحد الأدنى من قيم التواصل والحوار والتفاهم.وهي القيم التي يسلم العصر ذو الحداثات المتعددة باستحالة تحققها،مما جعله يعتمدها لازمة دائمة التكرار في أدبياته وخطاباته الإعلامية والثقافية ،من أجل تكريس الإيهام بحضورها كأولوية،وكمنجز حقيقي لتوجه الحداثة الثقافية والفكرية،علما بأن الحداثة تستصغر ما ينجز حوله من تنظيرات و تقعيدات بعد أن أمست بالفعل وبالقوة، أكبر بكثير من أية مساءلة أو تنظير،خاصة وأن هذه التنظيرات قد أمست حجابا حديديا يؤمن لها مهنة ممارسة عنفها اللآمرئي،كما استعصى معها القيام بأي توصيف مقنع لبنيتها الخاضعة باستمرار لتحولاتها المنسجمة مع ماهياتها المنفلتة.وتحت ضغط التواطؤ الخانق للمفهوم/ العصر الذي بدا مستقلا عن صيرورته الزمنية،لم تعد ثمة إمكانية لانتقاد انحرافات هذه الحداثة/الحداثات،ذلك أن أي تصد لهذه الانحرافات ستودي حتما بمرتكبيها إلى حشرهم في خنادق التقليد،مادامت حرية الحداثة تتجدد من خلال تربصها العدواني بكل حرية/حداثة غير منضبطة لسلطتها. من هذا المنطلق،يبدو العصر/المفهوم، المنغلق على مصادره،والمتوجس من كل مسلكية مضادة لحداثاته،مسكونا بظاهرة التلميع الإعلامي لصورة الممانع،بما حوَّله هو أيضا -أسوة بالعصر- إلى مفهوم مرن سلس وقابل لأن يلصق على رأس أية صناعة سلوكية أو فكرية، تتعارض جزئيا أو كليا مع مسلكيات وأفكار «الحداثة». هكذا وبإحكام قبضته على أعناق الخطاب كما على أعناق الحروف،وبحضوره في بينيات التنويعات اللآمحدودة لإيقاعات الحداثة،سينجح العصر في شحن الكثير من الأنساق الماضوية بطاقات مستمدة من آلياته،كي تنتصب حية ترزق بعناد لا يتسرب إليه الوهن،وقد ارتدت جبة المستقبل كي تظل عصية على التجاهل والتناسي. شرعية إنزال الأذى في خضم هذه التداعيات المبيتة والموجهة،تتفاقم حالة الإحساس بالدوار الحضاري، حيث تتداخل الطرق وتختلط الأنساق،وتذهل الأسئلة الصغيرة عن مواقع أجوبتها،خاصة في ضوء الانفجار المضطرد للمفاهيم والشعارات المستحدثة التي تربك صيغ التواصل، وتفقدها القدرة على التمييز بين ما يجب اعتماده وما يجب تعطيله.ما يجب تقديمه وما يجب تأخيره. ما ينبغي الإقامة فيه وما ينبغي هدمه.بين ما ينبغي تخصيصه وما ينبغي تعميمه.إن التعدد العشوائي للمفاهيم و ارتجال منهجية تحيينها،كلها عناصر تساهم في تجريد المفهوم من مصداقيته الإجرائية،كما تجعله عرضة للاستهلاك السريع العابر والظرفي.في قلب الدوار الحضاري يتحقق على سبيل المثال لا الحصر،التشريع العقلاني لشطط تنزيل الأذى.والأذى في هذا السياق يستمد شرعيته من الصيغ الجديدة التي يتمظهر عليها التصنيع القبلي والموجه لما يوحي بوجوب قتله وتعميم حالات الخوف منه،كراهيته والتسليم بوجوب الاقتصاص منه وإفنائه إن أمكن. أي الإجماع على وجوب إنزال الأذى به بجذوره وأصوله، بتماهياته وتمظهراته،على مرأى من الكتابة المستقلة باستراتيجياتها في تفكيك أوصال الظلمة،و في الإشارة إلى مكمن الصوت.إنزال الأذى بمواقع الشبهة وساكنيها يحتاج كما تقتضيه خصوصية العصر إلى طقوس احتفالية،تغري الجمع بإيقاظ ذلك الحنين الميتولوجي من رقدته القديمة،والمتعطش إلى متعة الاستغراق اللآمشروط في لحظة تطهيرية لا مكان فيها لأي تجل من تجليات العقل.ذلك أن تغييب العقل في طقس إنزال الأذى،هو العتبة التي تُستدرج إليها جحافل الأتباع والمشايعين والأوصياء الذين يتحولون إلى كتلة واحدة وموحدة، مهيأة لتناسي انفصالاتها الجزئية والكلية،من أجل دعم قرار إنزال الأذى بالشبهة المستحدثة.ولكَم هي كثيرة تلك المواقع التي لا يمكن أن تحقق أي شكل من أشكال الحضور،إلا عبر إنزالاتها الممنهجة والعشوائية للأذى!.إنها تستنفر خلافاتها من أجل العثور على مكان محتمل تحتمي الضحية به،كما تستنفر إمكانياتها النظرية والفكرية من أجل استحداث النماذج الصالحة والمؤهلة لتلقي الأذى،والتي يمكن أن تحظى بإجماع كافة الأعضاء المدعوين لفرحة التنزيل،لكن في الجهة المقابلة للطقس،تنهض الكتابة كي تشرع هي أيضا في إنزال أذاها المضاد على مراسيم الطقس،عبر تفكيك مأساويته الاحتفالية ،تماما كما تمسك أنياب ذئب متوحد بحنجرة الإعصار. غضبٌ مكيفٌ بفضيلة الإذعان لكن وبقليل من الإنصات المرهف إلى إيقاع العصر،سيتبين أن الغضب باعتباره الحفيد المنحدر من سلالة العصور البائدة، لم يعد الآن أكثر من نغمة نشاز غير جديرة بأي مستوى من مستويات الإنصات.خاصة وقد أمسى في ظل السلط الحديثة مطالبا بالتقهقر الكلي إلى خلفية المشهد،لأن العصر و بحداثاته المعطوبة،أبدله بغضب مغاير مكيف بفضيلة الإذعان كتصريح ضمني أو مضمر بوجوب إخلاء المكان،وتقديمه هدية سائغة للاستباحة،فيما استبدلته القصيدة بطرد الدواب من حظائرها بأناقة خالية من أي صخب أو ضجيج.وبموازاة احتجاب نزعة الغضب،وتمركز منطق الشبهة،أعلى العصر من شأن شعار»المواجهة»الذي أصبح له تأثيره السحري على تحشيد الجمع ضد مواقع «الشبهة»،كما أمسى بمثابة خطة استباقية لتبرير كل مصادرة محتملة يمكن إنزالها بهذه المواقع،باعتبارها بؤرا لتفريخ خلايا تتربص بلحظة تفجير ردود فعلها ضد مصادر الاتهام،علما بأن المواجهة توفر مناصب شغل جديدة،تستهدف «المشبوهين»بالمطاردة والمحاكمة، كما بالقتل إن اقتضى الأمر، من أجل إجهاض تلك الهزات التي تؤثر سلبا على جمالية الحداثات التي يسهر العصر/المفهوم على رعايتها، باستناده على معايير الإثارة التي يحققها البعد المشهدي للطقوس المختلقة،حيث تتحول «المواجهة»إلى سلطة تداولية غير قابلة للطعن والتشكيك،وإلى أداة عملية لتأجيج المشهد الذي يتقاطع فيه البعد ألاستنفاري مع البعد التأليبي والاحترازي ، انسجاما مع مقتضيات الطقس الهادفة إلى تعطيل حركية العقل ،وتصعيد ردود أفعال انفعالية، بها فقط تتحقق فرجة الإقصاء. الكتابة ومتعة إحداث الشرخ ذلك هو ما يغري الكتابة بإحداث الشرخ في وجه الصورة،كي تنتبه إلى خطل اعتدادها وزهوها المغلوط،وكي يتسرب الهواء المنحبس من باطنها،عساها تتمكن من التنفس قليلا وتصبح قادرة على الصراخ بحناجر القتلى الذين هم في عرف الإبادة التي يقترحها علينا العصر، موتى بالقوة والفعل.موتى تسربوا بصورة غير شرعية إلى قلب الحياة ،حيث يكون طردهم سحلا مستندا على قانون إرجاعهم إلى أصلهم،أي إلى طبيعتهم الأولى.والقتل بهذا المفهوم ليس قتلا في عرف العصر،إنه فقط نوع من إعادة الأمور إلى نصابها، أي إرجاع الموتى إلى عدم نزحوا منه في غفلة عن عين العصر.ذلك ما يؤلب كيد الكتابة له،من خلال دمج جبروت مفهومه في طاحونة مفاهيمها ،عبر تحويله إلى مجرد بياضات متلاشية داخل خطاباتها .إذاك تستيقظ الأشياء من جديد . كما تنهض العناصر من رقدتها كي يرتفع شيئا فشيئا إيقاعها، متدفقا بتلقائيته العالية خارج المفهوم . إنه العصر الذي يجبر الكتابة على التنكر لكل ما أسسه الشعراء من قبل كما من بعد،كي تجترح لذاتها لغة مغايرة تليق بعنف ما يتوزع على أفضيتها من تصدعات، ناتجة عن فعل توسيعه المهول و الممنهج لمساحات خلافات واختلافات مدمرة،عبر ترويجه الفج لأحط نماذجها الكفيلة بإضرام نيران قيوميات،غالبا ما تكون أكثر شراسة من أية قيامة مرتقبة. كما أنه وبتحوله إلى مفهوم،وإلى إطار كينونة،يعمل على تعطيل كل آليات تفكيكه،كما يعمق الهوة الفاصلة بين الشيء ودلالاته، مسدلا عليها حجبه الثقيلة،كي يتم الإيقاع بك فيها عن طيب خاطر،ودون أن يخالج روحك أدنى إحساس بالرعب أو الوجل.