في سياق مقاربة العقل حضور الهاجس الإصلاحي والهم النهضوي في مشروع طه عبد الرحمن يبدو بارزا وملفتا، يتجلى لنا هذا عند النظر إلى القضايا التي طرقها وحاول أن يجيب عنها من خلال رؤيته الخاصة، إنها نفسها تلك التي خاض فيها الفكر العربي بعد نهضته النسبية؛ أسئلة الحداثة وإعادة قراءة التراث وتجديد النظر في الفكر الديني وإشكالية القيم و معضلة السياسة، فضلا عن أهم سؤال طرح نفسه على الفكر النهضوي، وهو سؤال العقل، فقد كان شائعا في أدبيات الخطاب النهضوي أنه من غير الممكن الحديث عن أية نهضة من غير تجديد النظر في آليات التفكير العربي، دون أن نغفل التنبيه على أن السياق الذي قارب فيه طه عبد الرحمن مشكلة العقل وطبيعة المقاربة نفسها مختلفة عن باقي المقاربات التي سادت في الفكر العربي. إن ما يمكن أن نسميه "فلسفة العقل" في فكر طه عبد الرحمن تهدف أساسا إلى تعقيل الممارسة الدينية، لذا فهي تختلف على طول الخط عن طبيعة تناول المفكرين العرب لهذا السؤال، سواء من القدامى أو من المعاصرين، ومادامت الأشياء بضدها تتميز كما يقال، فلو نظرنا على سبيل المثال إلى إشكالية العقل عند ابن رشد، لوجدناها مقاربة أنطولوجية تتعالى على أي ارتباط تاريخي أو تخندق في إطار الدفاع عن مضمون إيديولوجي ما، يقول أحدهم عن طبيعة التناول الرشدي للعقل "لقد نظر ابن رشد إلى العقل المادي نظرة أنطولوجية جردته مما يمكن أن يجعله يمت بصلة إلى التاريخ بما ينطوي عليه من تعدد وجدل ونسبية أو ما يربطه بحيثيات التشيع المذهبي أو الانتماء الملي"(1)، أما أكثر الأطروحات المعاصرة رصانة لإشكالية العقل فتقارب الموضوع من وجهة نظر إبستمولوجية (أركون، الجابري)، أي أنها ترنو للكشف عن الأسس المعرفية التي يوظفها العقل العربي في نشاطاته الذهنية و المؤثرات التي توجهها، أما طه عبد الرحمن فينطلق في تنظيراته من الاعتقاد في أن الأخلاق ماهية الإنسان(2)، فالأخلاقية أولى بالإنسان من العقلانية، و لهذا فإشكالات العقل تتفرع عن هذا الأصل، إن إصلاح العقل ليس غاية تراد لذاتها و إنما هي قنطرة لابد من عبورها لتعقيل الممارسة الدينية، تلك الممارسة التي تستحضر القيم و المعاني الأخلاقية ولا تقف عند ظاهر الممارسات الدينية بما يحولها إلى طقوس مفرغة من أي معنى روحي، إن السؤال الأساسي في فلسفة طه عبد الرحمن عبر عنه في أوائل كتبه بقوله "كيف نجعل اليقظة متكاملة لا متنافرة و متجددة لا متحجرة؟ أو قل كيف نجعل هذه اليقظة متيقظة؟" (3)، إن مشروع طه عبد الرحمن يهدف لبناء فكر إسلامي متين وقادر على التصدي للتحديات الفكرية التي يواجهها، و طه عبد الرحمن يقدم للفكر الإسلامي السلاح الفكري من أجل الخروج من نفق التبعية والتقليد بوجهه الأصولي و الحداثي . إذا ففلسفة العقل هي إحدى إشعاعات فلسفة طه الدينية، لكن ثمة فروقات جوهرية بين التناول الطهائي للإشكالية الدينية و الرؤى الأخرى لباقي تيارات الفكر الديني، فكما يقول أحدهم طه عبد الرحمن "سلك مسلك تجديد الدين من باب فلسفي" (4)، وقوام هذا المسلك التوسل بأمتن المناهج العقلية المعاصرة والتمكن من علوم الآلة، بل والاجتهاد في اختراع مناهج خاصة به، وهذه العقلانية التي تسم منهج طه عبد الرحمن مزجها وخصبها بما سماه "التجربة"، فمشروعه الفكري انبثاق لتجذره في الاشتغال والعمل الصوفي، إذ هذا الأخير يوسع مدارك الفكر ويخصب العقل وينضج رؤى الإنسان، إن مشروع طه عبد الرحمن ينبني على " قاعدة فلسفية منطقية صلبة وتجذر مشروعه الفكري في التجربة الصوفية والعزوف الجلي عن الشأن السياسي" (5)، غير أن الباحث لم يكن دقيقا في حديثه عن هذا العزوف السياسي "الجلي"، فطه عبد الرحمن لا يلغي السياسة من اهتماماته الفلسفية، وكتابه الأخير "روح الدين" يفند هذا الرأي، لكنه يرفض أن تكون السياسة مدخلا للإصلاح، فهو يميز في كتاباته بين "التسييس" و "التوعية السياسية"، إن رفض التسييس كواحدة من آفات العقل المسدد متعلق بالمكانة المركزية التي حباها بها "التسييسيون"، إذ أنهم أفردوا "الجانب السياسي بالقدرة على الإصلاح و التغيير" (6) كما يقول، هكذا تبعا لفلسفة طه عبد الرحمن التي تعلي من شأن "العمل" و"الاشتغال" يرفض أن تكون السياسة بما هي "ثقافة قول" مستندا ناجعا للإصلاح أما الفرق الجوهري الثاني؛ فطه عبد الرحمن يصنف فلسفته الدينية ضمن الأبحاث الحداثية، أما باقي تيارات الفكر الديني في الساحة الثقافية فترفض الحداثة جملة وتفصيلا، ويعلل طه هذا الإدراج بكون "فلسفة الدين" - التي حولها تنصب جل كتاباته- كمبحث فلسفي، لم يظهر إلا في عصر التنوير، ومقاربته تنسجم مع مقتضيات الفكر التنويري الذي استبدل سلطة مؤسسة الكهنوت بالعقل، والتأمل في الإله في علاقته بالإنسان بتأمل الإنسان في علاقته مع الله، يقول "إن عملنا حداثي بموجب منطق الحداثيين، ذلك أن هؤلاء لا يسلمون بالحداثة، إلا لما كان له أصل في الحركة الأنوارية، والفلسفة الدينية لم تبرز إلى حيز الوجود إلا في سياق هذه الحركةالمجددة" (7)، أما هذه الفلسفة الدينية فيفصلها عن علم اللاهوت كون هذا الأخير "يتولى فيه فئة مأذونة ذات سلطة مخصوصة من رجال الدين النظر في ذات الإله وصفاته وعلاقاته بالإنسان والعالم من أجل توضيح معانيها ومقاصدها للفئات الأخرى لكي تأخذ بها من دون سواها، بينما فلسفة الدين لا تتوسل بسلطة مؤسسة الكهنوت، وإنما بسلطة العقل، ولا تتفكر في ذات الإله، وإنما في ذات الإنسان في علاقته بالإله، وبفضل استبدال فلسفة الدين سلطة العقل مكان سلطة الكهنوات واستبدالها النظر الإنساني مكان النظر الإلهي، فإنها تكون عبارة عن ثمرة من ثمار حركة التحرر التي اتصف بها عصر الأنوار" (8). عوائق إبداع العقل الإسلامي : 1. دعوى كونية الفلسفة إنشاء العقل الإسلامي لفلسفة تنطبع بطابع الخصوصية وتحمل في أحشائها بذور الكونية بحيث تكون حبلى بقابليتها لاتخاذها كفلسفة عالمية تصبح مهمة صعبة إن لم يع العقل حقيقة العوائق التي تواجهه وتحد من فاعليته، إن ثمة مجموعة من القناعات - ترسخت في نفوس المتفلسفة و أخذت هكذا تسليما دون نقد- لكفيلة بأن تصيب العقل الإسلامي بالعقم و السقم، وما لم يسارع لإبطالها ونقضها فإن العقل الإسلامي سيظل جامدا مقلدا. من هذه العوائق الفلسفية دعوى كونية الفلسفة، تلك الكونية التي لا تعترف بأي طابع قومي للفلسفة و ترنو لإذابة الفروقات والخصوصيات بغية طرح نمط فلسفي واحد بديل يمهد للهيمنة السياسية. ويمكن التمييز في دعوى الكونية حسب الفلسفة الطهائية بين صورتين؛ الصورة الأولى تنطلق من الزعم بكلية الفلسفة، أي أن قضاياها ومسالكها تخص كل إنسان بما هو إنسان، أي باعتباره كائنا عاقلا، فمادامت الفلسفة تشمل مباحث تخص كل إنسان بغض النظر عن قوميته أو خصوصيته الثقافية، فقد جاز الحديث عن كونية كلية للفلسفة، و الصورة الثانية تتخذ طابعا سياسيا و تنطلق من عالمية الفلسفة، ويقصد بها طه عبد الرحمن "أن مسالكها تعم أقطار الأرض جميعا، بحيث تكون هذه الكونية ذات صبغة جغرافية أو بالأحرى سياسية، نظرا لاقترانها بإرادة النفوذ و السلطة" (9). و قد انتقد طه عبد الرحمن هذه الدعوى نقدا مزدوج، حيث أورد اعتراضات عامة حول الرأي القائل بكونية الفلسفة، ثم وجه لكل صورة من صور الكونية هذه نقدا خاصا، أي "الكونية الكيانية" و " الكونية السياسية". أما الاعتراضات العامة، فقد انطلق طه عبد الرحمن من التباس الفلسفة بالسياقات التاريخية الاجتماعية، فمن غير شك، الفلسفة كانت ولا تزال تخوض في إشكالات يمليها واقع معين، يجتاز ظروف تاريخية و اجتماعية مخصوصة، ومادامت الفلسفة غير متعالية عن الواقع والتاريخ، بل هي نفسها إفراز لواقع يحمل خصوصيات سوسيوثقافية محددة فلا معنى عندئذ للحديث عن كونية الفلسفة، فحتى لو كان السؤال الفلسفي المطروح واحدا فالمقاربات تختلف من قوم إلى آخر تبعا لمحددات تاريخية و اجتماعية، من هنا لا بد من الإقرار بقومية الفلسفة، يقول طه عبد الرحمن "لابد أن تحمل فلسفة الأمة الواحدة الخصوصية التاريخية والاجتماعية لهذه الأمة كما تحمل فلسفة الفرد الواحد خصوصية ظرفه التاريخي ووضعه الاجتماعي" (10). كما أن الفلسفة مضمون مصاغ في قالب لغوي، و هكذا فهي حتما متأثرة - مهما حاولت أن تتجرد- بالأساليب اللغوية و الأدبية للسان كل أمة، و هذا ما يفسر عسر الترجمة عادة من لغة إلى أخرى و الإخلال بشرط تبليغ دلالة النص كما هي في لغتها، يقول فيلسوفنا في كتابه "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي" : "معلوم أن اللغة هي المحل الذي يتشكل فيه القول الفلسفي، و لا تشكل لهذا القول بغير تأثر بمحله اللغوي، و لما كانت الألسن التي وضع بها القول الفلسفي متعددة، جاز أن تختلف المضامين الفلسفية باختلاف الألسن التي تنقلها" (11)، وقد فصل فيلسوفنا في موضع آخر المحددات التي تذهب إلى الاعتقاد في أن تلبس الفلسفة بسياق أدبي لغوي يجعلها فلسفة قومية تختلف عن باقي الفلسفات الأخرى، فقد أورد في كتابه "سؤال العمل" ثلاثة مظاهر تزكي تأثير البيان و اللغة في المضمون الفلسفي، أولها أن المفهوم الفلسفي يشوبه ما يسميه طه عبد الرحمن بالتأثيل، و معناه أن أي مفهوم فلسفي إلا و يتأثر بمدلوله اللغوي، و هذا المدلول في آخر المطاف يبلوره رصيد الأمة التاريخي، فالمفاهيم ليست جامدة، و إنما تتوسع دلالاتها مع التجربة التاريخية لأمة، إن التأثيل إذا هو "وصل المدلول الاصطلاحي أو المفهومي الذي وضع للفظ الفلسفي بأسباب مدلوله اللغوي" (12). بالإضافة إلى التأثيل، ثمة مفهوم آخر ينزع عن الفلسفة طابع الكونية، و هو التمثيل، فالفيلسوف وهو يقدم تعريفاته وشروحاته يتوسل بأمثلة، وهذه الأمثلة مأخوذة من واقع الفيلسوف المتداولة في محيطه، حتى إنه تقرر الأخذ في الممارسة الفسفية بنوع من التعريفات أطلق عليه اسم "التعريف بالمثال" (13)، فضلا عن التخييل، وهو جملة الأساليب البلاغية من استعارة ومجاز التي يوظفها الفيلسوف، وهذه الأساليب تكون موغلة في الخصوصية الأدبية واللغوية للسان ما (14). الاعتراض الثالث يتجلى في الاختلافات ذات الدلالة العميقة بين مختلف الفلاسفة المنتمين إلى الأمة الواحدة، ففي أمة العرب يقال "الغزالية" و "الرشدية"، وفي أمة اليونان يقال "الأفلاطونية" و"الأرسطية"، وفي أمة الألمان يقال "الكانطية" و"الهيجلية"، هذا فضلا عن التصنيفات القومية، وهي لا ترجع إلى أسباب أكاديمية تصنيفية، بل إنما هي انعكاس لتأثر كل قومية بمجالها التداولى الذي يحدد ماهية فلسفتها، فهكذا، الفلسفة الألمانية ليست ألمانية لأنها تنتمي لقطر جغرافي معين ، بل لكونها تحددت من جملة مبادئ عريضة نسجت خيوطها، ما جعل التصنيف الفلسفي يطلق عليها اسم الفلسفة المثالية الألمانية، وهي بهذه المثالية تختلف عن العقلانية الفرنسية، كما أن للتجريبية الانجليزية قوامها ونسقها الفلسفي الخاص، لهذا يقول طه عبد الرحمن "لا نكون محقين لو ادعينا أن هذا التقسيم من جانبهم هو مجرد تقسيم إجرائي يراد به عرض المادة الفلسفية من غير الإخلال بجوهرها" (15). بعد هذه الاعتراضات العامة، خصص طه عبد الرحمن وأفرد لكل شبهة تتفرع عن كونية الفلسفة نقدا خاصا، فدعوى الكونية الكيانية للفلسفة التي تقوم على مقدمتين، وحدة الطبيعة الإنسانية ووحدة العقل البشري، هذه الدعوى يتدرج طه عبد الرحمن في نقضها، بدءا من الاستدلال على "انفكاك وحدة العقل عن وحدة الطبيعة الإنسانية" إلى "انفكاك وحدة الفلسفة عن وحدة العقل"، ثم "انفكاك وحدة الصفات الفكرية عن الاشتراك في الفسفة" (16). إن أصل الإشكال في هذه الدعوى هو التوحيد بين وحدة الطبيعة الإنسانية ووحدة العقل، وهو إشكال ناجم عن الاعتقاد في جوهرية العقل، فمادامت الطبيعة الإنسانية واحدة، و العقل متجوهر في هذه الذات، فهو واحد كذلك، بينما الحقيقة التي يستمدها طه مما هو شائع في مجال التداول الإسلامي أن العقل فعالية القلب، وهكذا تبعا للدلالة اللغوية لعضو القلب فهذه الفعالية ستكون متغيرة ومتقلبة، من هنا فلا يلزم من وحدة الطبيعة البشرية على فرض صحتها وحدة العقل، وهذا الدليل كفيل بأن ينقض دعوى كونية الفلسفة في صيغتها الكيانية وينسفها نسفا، أي تلك التي تتكئ على وحدة الكيان العقلي للإنسان. أما "انفكاك وحدة الفلسفة عن وحدة العقل" فتفصيلها أنه لا يلزم وحدة الفلسفة من وحدة العقل، ذلك أن ليس كل فاعليات العقل تتجه جميعا إلى نسج خيوط فلسفة واحدة، بل إن أقصى ما يمكن أن ينجم عن وحدة العقل هو الاشتراك في الفلسفة، والاشتراك غير الاتحاد. أما "انفكاك وحدة الصفات الفكرية عن الاشتراك في الفلسفة" فبمعنى أنه "لا يلزم عن الاشتراك في الفلسفة بالضرورة وجود جملة من الصفات الفكرية المحددة التي تشترك فيها كل الصفات على نحو واحد" (17). أما اعتراضاته على دعوى الكونية العالمية والسياسية للفلسفة، فقد فندها طه عبد الرحمن من خلال الواقع الفلسفي كما هو منظور إليه في الغرب الذي يعمل على عولمة فلسلفته، و من خلال الحفر كذلك في جذور هذه الفلسفة التي تثبت أنها موغلة في القومية، بل و كذلك إثبات أن هذه الفلسفة مع قوميتها فهي لا توظف إلا في سياق واحد، و هذا ما يجعل الفلسفة كما هي متداولة الآن غارقة في الخصوصية. إن أوروبا منذ يقظتها في عصر الأنوار وهي تعمل على نشر فلسفتها باعتبارها من المتاح للبشرية جمعاء، لكنها مع هذه الدعوى لا تخفي نظرتها الاستعلائية باعتبارها الوحيدة التي مارست فعل التفلسف، إلى الحد الذي حمل أحد فلاسفتها على الاعتراض على المقولة "فلسفة أوروبية"، ذلك لأن نسبة صفة الأوروبية للفلسفة تحصيل حاصل، و لغو و حشو لا طائل منه، غير أن الأمر لا يتوقف عند حصر الإبداع الفلسفي في نطاق أوروبي بل تجاوزه "إذ أخذ الألمان ينزعون صفة الأصالة عن نظرائهم من فلاسفة أوروبا، و يخصون بها أنفسهم، و يعتبرون باقي الفلسفات الأوربية عيالا على فكرهم الأصيل، تنقل عنه و تقبس منه، سواء استوعبت مقاصده أو لم تستوعبه" (18)، و في هذا السياق عمل بعض الفلاسفة الألمان على وَصْل فلسفتهم مباشرة بفلسفة اليونان التي تنحدر منها الفلسفة الأوروبية إمعانا في إثبات أن الفلسفة الألمانية وحدها واصلت هذا الإبداع الفلسفي واستأنف النظر الفلسفي. ثم الملاحظ في هذه الفلسفة الألمانية أنها تأثرت غاية التأثر باليهودية، فألمانيا في القرون الأخيرة كانت موطنا للثقافة اليهودية، كما كانت إسبانيا في القرون الوسطى تحت حكم العرب موطنا للفكر اليهودي، من هنا يمكن الحديث عن "تهويد الفلسفة الألمانية"، و يورد طه عبد الرحمن جملة من الاستدلالات للتنصيص على هذه الحقيقة، مثل تأثر كبار الفلاسفة الألمان بفلاسفة يهود بطريق مباشر أو غير مباشر "كتأثر ليبنتز بابن ميمون عن طريق نيقولاس دي كيوز، و تأثر كانط بسبينوزا.." (19). ثم إن ألمانيا هي التي احتضنت الإصلاح الديني و أرست قواعد المذهب البروتستاني، بحيث جعلت الدين المسيحي أقرب إلى الدين اليهودي، هذا فضلا عن ترجمة "مارتن لوثر" للتوراة ترجمة ألمانية نالت إعجاب اليهود. كما لاحظ طه عبد الرحمن اقتباس الفلاسفة الألمان بعض المفاهيم المحورية و الأفكار الجوهرية من التوراة، سواء صرحوا بذلك أم لم يصرحوا، و سواء احتفظوا لتلك المفاهيم بحمولاتها الدينية أم أضفوا عليها صبغة علمانية. ثم يضرب طه عبد الرحمن المثل بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي اجتمعت فيه كل هذه المقومات التي ذكرها هنا لإبراز دور الديانة اليهودية في بلورة الفلسفة الألمانية، ف "كانط" من جهة تأثر بفلاسفة يهود، و أعجب بالإصلاح الديني، و وجد في التوراة مرجعا نهل منه مجموعة من مفاهيمه و رؤاه الفلسفية (20). هكذا إذا يمكن أن نتحدث عن تهويد للفضاء الفلسفي العالمي في الوقت الذي يصر فيه الغرب على اعتبار فلسفته بضاعة ممكنة التصدير لأي بقعة من بقاع الأرض بدعوى عالميتها، و هذه من مفارقات الفكر الغربي. 2. أغلال العقل كل فكر لا يكون حرا إلا إذا كان أصيلا ينطلق في تصوراته مما هو مأصول في مجاله التداولي، فلا يعد نقل فكر الآخر بلغة جديدة إبداعا فلسفيا، من هنا فإن ابتكار فلسفة إسلامية غير ممكن ما لم نعد النظر فيما سمي بالفلسفة الإسلامية القديمة وتقييمها حتى يتسنى لنا تقويمها، والوعي قبل ذلك بمواطن الخلل، و إلا فإن استسلام المتفلسف العربي لرغبته النرجسية في نسبة فلسفة عربية أصيله له لن يؤدي في آخر المطاف إلا إلى تزييف الوعي و إقامة حجب بيننا و بين الإبداع الفلسفي الحقيقي. إن طه عبد الرحمن يميل كما يبدو من كتاباته إلى نفي أن يكون المتفلسفة العرب قد أسسوا و بنوا فلسفة إسلامية تعبر فعلا عن مشاغل العقل الإسلامي و تسهم في حل إشكالاته، إن طه عبد الرحمن يتحدث عن "استئناف العطاء الإسلامي" (21)، وليس من مقتضيات استئناف القول أن يؤدي ذلك إلى إنشاء فلسفة ذات خصوصية إسلامية، ذلك أن الاستئناف يعني بقاء جنس الفلسفة المستأنَفة في جوف الفلسفة المستأنِفة و هو ما ينزع عنها أي صفة إبداعية و يصمها في المقابل بالتقليد والمحاكاة، كما أن الفلسفة الإسلامية بهذا التقليد تكون قد أخضعت الموروث الإسلامي لمقتضيات الفلسفة اليونانية، وبهذا تكون قد فقدت شروط المبادرة المستقلة في البحث الفلسفي، إذ إن لم يكن استئناف النظر في موروث مغاير منقصة في حد ذاته تخل بمقومات الشخصية الإسلامية فإن إخضاع الموروث الأصيل لمقتضيات الفلسفة المستوردة مظهر من مظاهر الجمود المبتذل، فإثراء الفكر لا يتم إلا من خلال إغناء الإشكالات و الأسئلة التي تمخضت من داخل المجال التداولي الإسلامي، وإخضاع الموروث الآخر لهذا المجال، يقول طه عبد الرحمن في هذه الإشكالية "إن العطاء الفلسفي المستأنف يحرص على حفظ الموروث اليوناني داخل الموروث الإسلامي، وهذا يعني أن الإشكالات اليونانية تبقى على صورتها الأصلية دون أدنى تصرف، وتضم إلى الإشكالات اليونانية ضم إيواء لا ضم احتواء" (22). وقد كان لهذا التأثر بالفلسفة اليونانية و نقل محتوياتها و مضامينها من غير إعمال لمعاول النقد فيها أثر سيئ على العقل الإسلامي، إذ أخذت تلك الأقوال اليونانية تسليما مع معارضتها لمقتضيات المجال التداولي الإسلامي، و من أهم ما انتقل إلى الفلسفة الإسلامية عبر الموروث اليوناني التعريف الجوهري للعقل، يقول طه عبد الرحمن : "إذا كان لفظ العقل في اللغة العربية يدل على اسم معنى، و يستفاد منه أنه وصف محله القلب مثله مثل السمع و البصر، فإن الترجمة قد حعلت منه اسم ذات يفيد معنى جوهر مخصوص محله الدماغ" (23) ، وفي موضع آخر يقول :" لقد نقل العرب عن اليونان تعريفهم للعقل بكونه جوهرا (...) [حتى] أصبح استعمالها في العربية راسخا، وجوهر الشيء، في استعمال الجمهور يفيد اللب الذي به يتقوم الشيء أو الحقيقة التي يكون عليها، أما تعريف العقل عند الفلاسفة بكونه جوهرا، فيقصدون به معنى أخص، وهو أن العقل عبارة عن ذات موجودة في نفسها، لا في غيرها، وقائمة بنفسها لا بغيرها" (24)، و قد ترتب عن هذه الرؤية الوقوع في عدة شبهات وآفات، من مثل تخليد العقل، ذلك أن اللوغوس اليوناني يتنزل منزلة مدبر العالم في التصور اليوناني، ومشهورة هي الرؤية الأنطولوجية للوجود في الفلسفة اليونانية وتسميتها للخالق ب"العقل الأول"، ومادام العقل البشري قبس من هذا العقل الخالد وجب أن يكون هو كذلك خالدا. الشبهة الثانية يسميها طه عبد الرحمن "التشيء"، ودلالتها أن العقل مادام جوهرا لزم أن ينطبق عليه كل ما ينطبق على الأشياء من صفات الثبات والجمود، وهذا غير حاصل مع العقل، بل واقع الفكر الذي أفرزه العقل يحيل على دوام حركته وتقلبه المستمر، وهذا يتوافق تماما مع الرؤية الإسلامية التي تنسب فعالية العقل للقلب، إذ أن الدلالة اللغوية للفظ "قلب" تنسجم مع ما ينسب للعقل من تقلب. والشبهة الثالثة "تجزيء الإنسان"؛ إن اختزال الإنسان في العقل كفعالية ذهنية، فعالية مثلها مثل فاعلية الذاكرة و العمل، يوقعنا في تجزيء الإنسان، فيقال ذات عاقلة، ذات ذاكرة، ذات عاملة.. إلخ، وهذا يخل بالوحدة التكاملية للإنسان، وهو ما سيؤثر سلبا على النشاط الإنساني الإبداعي، وإقصاء طاقات أخرى كامنة في داخل الإنسان، فتعريف الإنسان بأنه حيوان عاقل نجم عنه استصغار وازدراء الفعاليات الأخرى التي تزخر بها الكينونة الإنسانية. وقد تسربت عن ترجمة التعريف الأرسطي للإنسان بأنه "حيوان عاقل" للمجال التداولي الإسلامي رؤى خاطئة، فمفهوم "اللوغوس" في اللغة اليونانية التي ترجمت بالنطق لها دلالتان : القول والعقل، ولأنه لا يوجد في البيان العربي مفهوم يجمع بين الدلالتين فقد ترجم "اللوغوس" بالنطق " وفي هذا الاقتران بين عمل العقل وعمل اللسان لبس صريح، ذلك أن التداول العربي لأول وهلة يحمله على مدلول يخالف المدلول الذي يستخدمه فيه التداول اليوناني، فإذا كان اليوناني يقصد بهذا الاقتران أن العقل واللسان وجهان لحقيقة واحدة، فإن العربي يتبادر إلى فهمه أن العقل و القول حقيقتان مختلفتان، بل حقيقتان متضادتان" (25)، كما أدى هذا التعريف إلى اقتران القول و العقل، و هذا خطأ، فليس كل قول صادر عن تفكير عقلاني، بل إن ثمة من الأقوال ما ليس فيها مسكة عقل، كما أن ثمة حقائق عقلية في منتهى الدقة تستعصي عن التعبير اللغوي ويعجز اللسان عن تأدية معانيها، إضافة إلى هذا فإن اعتبار الفاعلية العقلية ماهية الإنسان أدى إلى اختراق المجال التداولي الإسلامي الذي يجعل من العمل أهم مقومات الذات البشرية من قبل مجال تداولي آخر، فالعقل لا يراد لذاته و إنما للعمل بما يقضيه، بل إن النظر نفسه غير مفصول عن العمل، و إنما هو من الأعمال القلبية، و حتى الفلسفة في الفكر الطهائي ليس هي التفكير العقلي و إنما هي " العمل بالعقل" (26). و من الأغلال التي كبلت العقل فصله عن جملة مكونات أخرى حتى استحال عقلا مجردا، حيث استقر في نفوس المتفلسفة أنه كلما أمعن العقل في التجريد كان أشرف، و قد ذكر طه عبد الرحمن من جملة هذه الأغلال التي أسرت العقل الإسلامي و حصرت فعاليته بشكل كبير، فصل العقل عن الحس، و هذا الفصل يعزى إلى التأثر بفلسفة المثل الأفلاطونية، فأفلاطون اعتبر المعقولات أشرف الموجودات و رفعها إلى أعلى رتبة وجودية، بينما وضع المحسوسات إلى أحط المدراك و عدها مجرد خيالات و ظلال و أشباح. و هذا الفصل الذي انتقل للعقل الإسلامي من الفلسفة اليونانية لا ينسجم مع ما هو منصوص عليه في النصوص الدينية التي تشكل معينا لأسس المجال التداولي و محدداته، فالعقل في هذا المجال غير مفصول البتة عن الحس، بل إنه حاضر في أي إدراك حسي، إذ "في النظر عقل، و في السمع عقل، و في النطق عقل، و في الشم عقل، و في الذوق عقل، أما إذا لم يكن في الحس عقل، فلا يعد حسا، و إنما فقدا للحس، فمثلا النظر بلا عقل يكون عمى، و السمع بلا عقل يكون صمما، و النطق بلا عقل يكون بكما، و الشم بلا عقل يكون خشما، و الذوق بلا عقل يكون تفها، و الشاهد على ذلك الآية الكريمة : و منهم من يستمع إليك أفأنت تسمع الصم و لو كانوا لا يعقلون و منهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي و لو كانوا لا يبصرون" (27)، و هكذا فحضور العقل في أية فاعلية حسية تستوجب حضورا للعقل، و إلا انتفت أية وظيفة للحس، بل و انقلبت إلى ضدها. و مما تسرب إلى الفكر الإسلامي، ضرورة الفصل القاطع و التام بين العقل و القلب تمهيدا لقيام أي معرفة علمية، فهذا الفصل حسب العقل المجرد من متطلبات الموضوعية، إذ أن القلب منبع الأحاسيس و الوجدان و العاطفة، بينما العقل الوسيلة الوحيدة الكفيلة ببناء منظومة فكرية متناسقة و متوازنة لا تشوبها أية شائبة عاطفية، و مزج فاعلية العقل بفاعلية القلب قد يؤدي إلى إنتاج بضاعة مزجاة حسب تصور العقل المجرد. و قد كان من آفات هذا الفصل بين العقل و القلب إسناد صفة الجوهرية للعقل بدل القلب، و قد أشرنا فيما مضى إلى ما يترتب على اعتبار العقل ذاتا قائمة بذاتها، كما ترتب عن هذا الفصل تفقيه الممارسة الدينية، و المقصود بالتفقيه حصر اهتمامات المشتغلين بالحقل الديني من الفقهاء بالنظر إلى ظاهر الأحكام الشرعية المتعلقة بالمكلفين من غير الغوص في استنباط ما وراء تلك الأحكام الظاهرة من قيم خلقية ومعاني روحية، و هكذا تم إهمال أهم مقصد من مقاصد الدين ألا و هو "الأخلاق"، و السبب راجع كما قلنا إلى الفصل بين العقل و القلب، و هكذا بإعارة العقل أهمية قصوى لا تضاهيها أية فعالية أخرى تم إهمال "الفقه القلبي" اللهم إلا استثناءات نادرة تتعلق بنسبة النية للقلب و إناطتها به، أما ما دون ذلك من أعمال قلبية فلا نكاد نعثر عليها في الكتب الفقهية، و قد أدى إهمال المعاني الخلقية المنطوية في الأحكام الشرعية إلى آفتين : أ. قصر الأخلاق على جزء محدود من أعمال المكلفين (28)، بينما الأصل أن الأخلاق قيم تحضر في أي عمل، فهي مناط التحسين و التقبيح، بل إن هذه الأعمال نفسها ترفع أو تخفض من منسوب ما يتمتع به الإنسان من قيم أخلاقية، أقصد أن الأعمال بمختلف أشكالها مرتبطة بالقيم الأخلاقية من وجهتين، وجهة قبلية، فأي سلوك إلا و يكون انعكاسا لقيمة خلقية، وجهة بعدية، أقصد أن العمل قد يحفز الإنسان أو يثبطه من حيث سلوكه الأخلاقي، إذ ذاك فلا توجد أعمال يمكن النظر إليها بإزاء المعاني الأخلاقية نظرة محايدة باردة. اعتبار الأخلاق من المقاصد الكمالية (29) ، و هي آفة خطيرة فعلا، فالنظر إلى الأخلاق ككمالات لا ضروريات مشكلة عويصة تتعارض على طول الخط مع الدين كما هو مبسوط في مراجعه الأصيلة، و الذي يعتبر الأخلاق الغاية الأساسية و لب الرسالات السماوية، و نستحضر هنا قول النبي صلى الله عليه و سلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". أما الإشكال الثالث المترتب عن فصل العقل عن القلب فيتمثل في إلغاء الوظيفة التقويمية للقلب و هي التي يعبر عنها طه عبد الرحمن بقوله "عدم تبين آفات المعرفة العقلية" (30)، و قد انطلق طه عبد الرحمن في هذه النقظة من نسبة القرآن للقلب أنواعا من الأمراض و الآفات، و مادام القلب هو منتج الأفكار و التصورات، فقد فوت العلماء المسلمون على أنفسهم تبين مختلف المعارف التي يفرزها القلب، بله تقويمها على مقتضيات القلب السليم. و من أوجه الفصل بين الدين و العقل التي دخلت المجال التداولي الإسلامي من الفلسفة اليونانية، الفصل بين الشرع من جهة و العقل من جهة أخرى، و هذا الفصل يبرز بشكل أوضح أثناء الوقوف على مساعي بعض علماء المسلمين للوصل بين العقل و الشرع، ما يقضي ضمنيا باعتقادهم في تنافر المحددين، فطائفة تتحدث عن تبعية العقل للشرع، و أخرى تتحدث عن تبعية الشرع للعقل، و تيار يرى أن الشرع مكمل للعقل، و آخر يقول بتكميل العقل للشرع، و طائفة فصلت بينهما فصلا صريحا على مستوى الكيفية البيانية و إن وصلت بينهما في الغايات و المقاصد. ومن مظاهر الفصل بين النسق العقلي و النسق الشرعي اشتهار تعابير من قبيل "يجوز عقلا و شرعا" و "لا يجوز في العقل و لا في الشرع" و "يوجبه العقل و الشرع".. إلخ، و كلها تعابير توحي بتمييز علماء المسلمين بين العقل و الشرع واعتقادهم في تغاير النسقين. و من دواعي هذا الفصل التأثر ببعض الفلسفات اليونانية كما أشرنا من قبل، وخاصة فلسفة "أرسطو" التي تضع حدودا بين العبارة البرهانية و العبارة الخطابية، وفلسفة "أفلاطون" التي تميز بين "اللوغوس" و "الميتوس"، وهكذا فتبعا للنظريتين فالدين يتنزل منزلة "الميتوس" المتوسل بالقول الخطابي، فما في الدين لي سوى خيالات و تمثيلات، بينما العقل يتوسل العبارة البرهانية، و من غير شك فإن هذه الدعوى عارية عن أي برهان، و إنما أخذت تسليما و تقليدا دون تقليب النظر فيها و إمعان التأمل فيها. و إلا فمتى نظر الفيلسوف في هذه الدعوى بعين ناقدة أدرك أن السر الكامن وراء هذا الفصل إضافة إلى ما ذكرناه من تقليد يرجع بالأساس إلى عدم تمحيص وجوه المقابلة بين العقل و الشرع على مستويات ثلاثة : "المصدر الأصلي" و "المضمون الدلالي" و "الكيفية البيانية" (31). أما عن المصدر الأصلي فقد أخذ المتفلسفة بالظاهر من عزو العبارة العقلية للإنسان و العبارة الشرعية للإله سبحانه و تعالى، و هذا باطل غير مسلم، إذ العقل الإنساني صادر عن الإله صدور القول الشرعي عنه. أما إذا اعترض أحدهم بقوله أن العقل صادر من داخل الإنسان و الشرع من خارجه، فيعترض على هذا من باب أن الاعتقاد مبني على تصور خاطئ للشرع والعقل معا، فالعقل شرع من الداخل، و الشرع عقل من الخارج. أما عن ادعاء المقابلة بين العقل و الشرع من جهة المضمون الدلالي "فإنها تفيد أن المضمون الدلالي العقلي مضمون إنساني صرف، بينما المضمون الدلالي الشرعي مضمون إلهي صرف، و هذا أيضا لا يصحح بإطلاق، ذلك أن الإنسان يفهم المضمون الشرعي فهمه للمضمون العقلي" (32)، و عدم إدراك بعض المعاني الدينية تولد عن تجريد العقل و إيغاله في التصورات النظرية، فالعقول البشرية متفاوتة حسب موقفها من العمل الشرعي، و كلما انسلخ العقل عن مقتضيات الشرع وخضع للمحسوس و الظاهر قلت معرفته بلطائف الدين و استشكلها، و كلما توغل الإنسان في الاشتغال العملي تبددت سحائب العقل المجرد ونفذ إلى مقاصد الشرع، بل و صار عقله نفسه شرعا. أما عن الكيفية البيانية "فالإنسان يستعمل كيفية البيان على مقتضى الشرع استعماله لكيفية البيان على مقتضى العقل" (33). و من أوجه الفصل بين المكونين الديني و العقلي، الفصل بين الوحي و العقل، و قد اتخذ هذا الفصل ثلاث صور مختلفة، توهم بها ذوو العقل المجرد التعارض بين المكونين، و هي؛ أولا أن العقل بما هو رأي يتعارض مع الوحي، فهذا الأخير مكون ثابت و مغلق غير خاضع للسيرورة والمراجعة، بينما الرأي المتولد عن العقل يقبل التعدد و المراجعة، الوجه الثاني أن الوحي "نقل"، و النقل من مقابلات العقل لأنه يقضي بالتسليم بينما الفعالية العقلية تقوم على النقد، الوجه الثالث أن الوحي خبر خارجي، و الخبر الخارجي يتعارض مع العقل. و قد انتقد طه عبد الرحمن هذه الوجوه من خلال مقاربة عقلية منطقية حتى تستعاد علاقة الانسجام و التكامل بين الدين و العقل، فبخصوص الوجه الأول، فالتسوية بين الرأي و العقل لا تصح، إذ أن الرأي حكم يتوصل إليه العقل باجتهاده في مسألة من المسائل، فهو ليس العقل ذاته، بل أحد ثماره، و رد الرأي إلى العقل كرد الجزء إلى الكل، أما الوحي فهو "إمداد للفعل العقلي نفسه، بحيث يورثه علم ما لم يعلم بنفسه" (34). و إذا نظرنا إلى الوحي بمعنى "النقل"، فلا يكون هذا الأخير نقيض العقل، إذ أن النقل ليس إلا تحريك اللسان لتبليغ مضمون ما، فهذا الكلام يبقى على معقوليته الأصلية حتى بعد تحريك اللسان به، ومجرد تبليغه إلى الآخر ليس فيه دلالة على سقوط قيمته العقلية و استحالته خرافات وأباطيل، كما أن المعقولات هي الأخرى ليست كلها نظر، بل في أحيان كثيرة تقوم على نقليات و أخبار، و حياة الإنسان تستحيل إذا هو ألزم نفسه بالأخذ بما توصل إليه بعقله فقط، وإذا استند إلى معقولات الغير صار ما اتكأ عليه منقولات، و هكذا الوحي الإلهي، فهو منقول من جهة تبليغه من قبل ذات، لكنه معقول من جهة مضمونه و محتواه، و مجرد قيام ذات بحمل رسالة الله إلى العالمين ليس فيها البتة ما ينفي عنها معقوليتها. و لعل من الأسباب التي أوهمت بمقابلة العقل للنقل، الاعتقاد في التضاد بين الخبر و النظر، وهذا لا دليل عليه، إذ يمكن أن يكون الخبر نظرا معقولا كما يجوز أن يكون النظر مبنيا على خبر. و الوجه الثالث للتعارض بين الوحي و العقل، أي اعتبار الوحي سلطة خارجية فنتيجة لالتباس لغوي، إنه من غير شك أن جملة الحقائق الغيبية لا يمكن التعبير عنها بلغتنا التي هي صورة لواقعنا، أي أنها تشكلت لتصويره لنا وتقريبه إلى أفهامنا، والوحي من جملة الحقائق التي أخضعت لأساليب البيان البشري، فوصف الوحي بأنه خارجي قياس للغائب على الشاهد، وإلا فإن القرآن لا يفتأ يتحدث عن قرب الله من العباد فمن باب أولى أن يكون كلامه قريبا من قلوبهم لا أنه سلطة خارجية، لذلك يقول طه عبد الرحمن "إذا وصف الوحي بكونه خارجيا، فلا ينبغي أن يحمل ذلك على معنى غير مكاني" (35). كما ساد الاعتقاد مع انتشار فكر التنوير الذي يلغي أية وصاية، و مشهور في هذا الصدد التعريف الكانطي للمفهوم، بأن الوحي نوع من الوصاية التي تقضي على استقلالية العقل وتضيق آفاقه وتنقص قدراته، و طه عبد الرحمن يرفض هذه الدعوى لأنها لا تترجم واقع الحال كما هو، فالذي يحد من فاعلية العقل ويشل قدراته ليس الوحي و إنما أوصياءه الذين يزعمون أنهم مستأمنون عليه، و هكذا حمل الوحي وزر من يدعي حمايته، وإلا فإن الوحي يدعو كما يبدو واضحا من استقراء النصوص الدينية إلى الحق والكمال ويطلع العقل على ما لا سبيل له إلى معرفته مثل الأخبار الغيبية، هذا فضلا عن كون الشبهة قامت على أساس باطل، فالوحي ليس سلطة خارجية، لأنه مادام القلب محل الوحي و العقل، فهما معا من جنس إدراكي واحد، ومن شأن تضافرهما في القلب أن يؤدي إلى تكميل القوة الإدراكية للإنسان. الوجه الآخر للفصل بين الدين و العقل اتخذ شكل فصل الإيمان عن العقل، ومقتضاه أن لا شيء من الإيمان في العقل، و لا شيء من العقل في الإيمان، إذ لكل من الإيمان و العقل براديغمهما الخاص بحيث لا يمكن أن يتوافقا أو يتكاملا، أما الادعاء الأول أي خلو العقل من الإيمان، فلا يصح إذ أن ثمة الكثير من القضايا التي يستند عليها العقل المجرد مسلمات لا دليل عليها، مثل المقدمات التي ينبني عليها الدليل، و "لما كان التسليم عبارة عن قبول القول بغير دليل في كل الأوقات أو في وقت مخصوص، فقد صار هذا التسليم من جنس الإيمان المقلد" (36)، كما أن تقبل جدوى هذا العقل المجرد تسليما يتنزل منزلة الإيمان المقلد، حتى إن الفيلسوف "كارل بوبر" تحدث عن ما سماه "الإيمان بالعقل"، فاللازم هو وجود عقل آخر يتجاوز حدود هذا العقل يثبت جدوى هذا العقل ونجاعته، أما عن الدعوى الثانية التي هي خلو الإيمان من العقل فيمكن نسفها من خلال استحضار أن الشارع جعل العقل مناط التكليف، فمن لم يكن عاقلا لم يكن خطاب الشرع موجها إليه. إن فصل العقل المجرد بين الإيمان و العقل راجع بالأساس إلى إرشاد الدين الناس للإيمان بأدلة و براهين متنوعة متعددة لا يستوعبها و لا يحيط بها العقل المجرد، ولهذا وقع في ما يسمى "مغالطة فساد التعميم"، يقول طه عبد الرحمن "بيد أن في النص الديني شيئا آخر غير هذا التنوع في الأدلة والأمثلة، و هو الذي جعل القائلين بهذا الفصل يختزلون المضمون الديني فيه، واقعين في مغالطة فساد التعميم، وهذا الشيء هو بالذات الحث على الإيمان بطرق لا تتسع لها أبنيتهم الاستدلالية المجردة فيصبح حد الإيمان عندهم هو أنه الاعتقاد الذي لا دليل عليه، و الصواب أن هذا لا ينطبق إلا على الإيمان المقلد" (37). تلك كانت أهم العوائق التي وقفنا عليها في كتابات الفيلسوف طه عبد الرحمن والتي تحول دون انطلاقة العقل الإسلامي واندفاعه نحو الإبداع الخلاق و الخروج من نفق التبعية وآفات التقليد. إن اختراق المجال التداولي اليوناني للفكر الإسلامي قد أدى إلى عقم العقل الإسلامي، ذلك أن المجالين بمثابة بحرين منفصلين بينهما برزخ لا يبغيان، فأي محاولة للمزج بينهما ستبوء بالفشل، فلا مناص من أجل ضخ دماء جديدة في عروق الفكر الإسلامي من الاستناد على منطلقات خاصة تنتمي إلى مجالنا، وهو ما سنوضحه فيما سيأتي. هوامش: (1) محمد المصباحي، إشكالية العقل عند ابن رشد. بيروت. المركز الثقافي العربي. 1988. ط1. ص7. (2) طه عبد الرحمن، سؤال العمل : بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم. الدارالبيضاء. المركز الثقافي العربي. 2012. ط1. ص 92 و ما بعدها. انظر كذلك في النقطة نفسه : طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق : مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. الدارالبيضاء. المركز الثقافي العربي. 2006. ط3. ص 13 و ما بعدها. (3) طه عبد الرحمن، العمل الديني و تجديد العقل. الدارالبيضاء. المركز الثقافي العربي. 2006. ط4. ص 9. (4) السيد ولد أباه، أعلام الفكر العربي : مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة. بيروت. الشبكة العربية للأبحاث و النشر. 2010. ط1. ص 71. (5) نفسه، ص 74-75. (6) طه عبد الرحمن، العمل الديني و تجديد العقل. ص 103. (7) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، ص 225. (8) نفسه، ص224. (9) طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي. الدارالبيضاء. المركز الثقافي العربي. 2006. ط2. ص 52. (10) نفسه، ص53. (11) نفسه. (12) طه عبد الرحمن، سؤال العمل، ص 42. (13) نفسه. (14) نفسه، ص 43. (15) طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي. ص 54. (16) نفسه. ص 55-56. (17) نفسه، ص 56. (18) نفسه، ص 59. (19) نفسه، ص 60. (20) نفسه، ص 61. (21) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 46. (22) نفسه، ص 48. (23) طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة : 1. الفلسفة و الترجمة. الدارالبيضاء. المركز الثقافي العربي. 1995. ط1. ص 174. (24) طه عبد الرحمن، سؤال العمل، 59. (25) نفسه، ص 56. (26) طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة. ص 173. (27) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 67. (28) نفسه، ص 74. (29) نفسه. (30) نفسه. (31) نفسه، ص 90-91-92. (32) نفسه، ص 91. (33) نفسه، ص92. (34) نفسه، ص 95. (35) نفسه، ص 97. (36) نفسه، ص 105. (37) نفسه، ص 106. يتبع..