ثمة هوة سحيقة تفصل بين النص الثابت، وبين النص المقيم في عنف إيقاعه الحركي، مع التأكيد بأن عملية التثبيت تكشف عن طاقاته المستترة، كما أنها تكشف عن تعدد ما يختزنه من احتمالات تسمح باكتشاف تخومه اللامرئية، وأيضا بإغراء التأويل. إن الفعل التأويلي وباعتباره ممارسة فكرية متقدمة يستند اشتغالها على إواليات نظرية تتميز بدقتها المنهجية وبثراء مرجعياتها فإنه مطالب بإيلاء النص-ماديا كان أو رمزيا-ما يستحقه من اهتمام أي بصفته نصا مستقلا إلى حد ما بخصوصيته وبهويته المعرفية والثقافية وليس مجرد ذريعة لتمرير خطاب ما أو بسط خطوط عريضة أو مقتضبة لتصور نظري مسبق وجاهز لأن التعامل المسؤول مع النص هو الذي يساهم في تحويله إلى ملاذ تحتمي به أسئلة القراءة بما يتفرع عنها من قضايا وإشكالات كما تتخذ منه الدلالة مسكنها الأثير خاصة حينما يتعلق الأمر بالنصوص الكبيرة المؤثرة سلبا أو إيجابا في ما يجترحه الكائن من مسارات. والتأكيد على سؤال المسؤولية المعرفية المتعلق بجمالية تأويل نصوص الكون ضمن سياق ما تتمتع به من خصوصية يتأسس من وجهة نظري على ما أسميه بالتثبيت الممكن للمتحرك الذي يحدث أن ينفلت بفعل جموحه عن مسار أي مستوى من مستويات الفهم أو التعرف.أي من خلال ضبط تشكل محدد من تشكلاته التي تتعدد وتتنوع تبعا لتتالي إيقاع الحركية التي يندرج فيها النص والتي منها فقط يستمد وجوده وحضوره وعملية التثبيت عندي هي وسيلة إجرائية ضمن أخرى يلجأ إليها التأويل كي يضع بموجبها حدا لالتباس الغامض الذي يجد ملاذه الكبير في تسريع وتيرة تشكل النص حيث يتولد عنها ما لا حصر له من التشكلات النصية التي يؤدي تتتالي اختفائها وظهورها إلى تعذر رؤية ملامح النص هنا يتدخل فعل التثبيت المؤقت والإجرائي كي يمنحنا إمكانية ضبط تشكلٍ قد يكون دليلنا لفهم ما يتولد عنه من أشكال باعتبار أن أشكال المادة عموما ومعها أشكال النص تكون عصية على الحصر داخل إيقاع الحركة حيث نخلص وبتعبير آخر إلى أن عملية التثبيت تتحقق من خلال التقاط وحدة دلالية ما تكون بمثابة إطار محتمل لتفاعل و تداخل مستويات متعددة من مستويات الدلالة النصية التي تصبح في حالة التقاطها نموذجا لغيرها من الوحدات الدلالية التي تكون عادة محَجّبة في تضاعيف الصيرورة العامة لعملية البناء النصي المجسدة في حركيته.ومع ذلك فإن أكبر خطإ يمكن أن يقع فيه التأويل هو استسلامه التام و اللامشروط لنشوة تثبيتات لا نهاية لامتداداتها.و من هذا الاستدراك ينهض تعارض فكرة تثبيت المتحرك مع أراء قد ترى فيها ضربا من ضروب الاستحالة حيث ليس لمتحرك أن يستسلم لسلطة التثبيت إلا بفعل إكراه تأويلي مخطط له سلفا لأن الأمر يفسَّرُ بعملية انتزاع قاسٍ لجسد المتحرك من إيقاع صيرورته كي يحشر في مسار مضاد هو مسار تأويل مجالُه متخيلٌ يقوم بمهمة إبداع ما يتعذر تشكيله واقعيا.فضمن صيرورة المتخيل التأويلي فقط تعتقد هذه الآراء المضادة بإمكانية تجريد الشيء/النص مؤقتا من حركيته كي يكون قابلا للتموضع خارج عنف التدفق الإيقاعي علما بأن اختلاط قوانين الحركة في ذاتها بقوانين حركية النص يؤدي إلى إنتاج بنيات يحار في أمرها النص ذاته مادام البحر داخل القارورة يختلف جذريا عن البحر داخل البحر. أيضا بقدر ما تتميز به الممارسة التثبيتية من إغراءات و ايجابيات متمثلة في ضبط المرتكز الذي تتأسس عليه حركية النص إلا أنها مع ذلك تظل محفوفة بمزالقها حالما تُؤثر في تعطيل عملية إعادة تركيب وحدات التتالي لأن المرئي حينما يستبد بالعين الرائية يصيبها حتما بعمى آخر يحول دون استشفافها لتفاصيل التفاعلات القائمة في الحركة لذلك فان الرؤية الموضوعية والعقلانية للمتحرك تظل بحاجة ماسة إلى تلك القدرة التركيبية المؤهلة لتقصي العلاقات الدلالية القائمة بين العناصر المستسلمة لإيقاع الظهور والاحتجاب. ثمة إذن هوة سحيقة تفصل بين النص الثابت و بين النص المقيم في عنف إيقاعه الحركي مع التأكيد بأن عملية التثبيت تكشف عن طاقاته المستترة كما أنها تكشف عن تعدد ما يختزنه من احتمالات تسمح باكتشاف تخومه اللامرئية وأيضا بإغراء التأويل كي يجرب إمكانية استدعاء اللغات المحتجبة و المنسية في لسان النص كي تعلن عن حضورها. .إن الممارسة التأويلية بهذا المعنى تقوم من جديد بإعادة تذويب الدلالة الثابتة في تضاعيف متحركها كي لا يظل هناك سوى التشكل العام في جمعه الحركي أي في مجموع ما تنتجه الحركة وهي في طريقها إلى مستقبلها.إن الحركية تحاول أن تكون في ذاتها البداية الفعلية للدلالة وخاتمتها وهو أمر لا ينبغي الاستهانة بأهميته التي تتأكد من خلال تفاعل حركية النص مع دلالته التركيبية أي الدلالة المصاحبة و الناظمة لديناميته.إذ في ظل غياب الدلالة العامة المزامنة للتشكل الثابت لا يخرج المتحرك النصي عن كونه شكلا فارغا يحتفظ بخصوصيته الجمالية في مسار زمن تلقيه.إلا أن الحركية و ضمن علاقتها بالدلالة القصدية سوف ترتقي بذاتها إلى مرتبة أكثر تقدما و هي مرتبة النسق الذي يمكن أن يُعتمد كأداة لقراءة أنساق أخرى مجاورة أو بالأحرى لبناء منظومة ليست من الضروري أن تكون دائمة أو أبدية و لكن على الأقل قابلة للكشف عن مغالق ما هو أمامنا ولو مؤقتا. أيضا لا ينبغي السقوط في فخ لحظة التثبيت بمنأى عن أي احتراز نظري من خلال الانبهار بما يحدث أن تبثه في حدوسنا من رسائل وخطابات و ما تحققه من جمالية لأن اللحظة التثبيتية إذا ما تحولت إلى مبدإ وقانون مصادق عليه من قبل واقع المقاربة فانه يوقِع التشكلَ الملتقطَ في خطإ الاجتزاء والابتسار بمعنى أن الثابت قد ينتقل إلى أرضية مغايرة بهدف صياغة كينونة يتبلور على أساس شأن الانفلات من سلطة الحركة مادام العرف يظل هو دائما ذلك المتحرك و ذلك العابر المنفلت الذي لا علم له أبدا بحضور حالة ما من حالات الفهم/التثبيت من قِبلك أنت أو من قِبل ذوات أخرى. وهو بعض من سوء الفهم الكبير الذي ينعكس سلبا على آلية الفهم و على ما يمكن أن يَعِد به من انتظارات. فما تحاول أنت عبثا التأكد من دلالته ليس له أي علم بما أنت بصدده. وهو ما يسمح لنا بسبْر عِلة التعقيد المضاعف القائم ربما بين الكائن و بين أضداد سلط التأويل المقيمة فيه ذلك أن كلاهما يطوف حول الأخر بشكل معاكس كما أن كلاهما يحاول النظر في وجه غريمه دون أن يتمكن من تبين الحد الأدنى من ملامحه حيث يتحقق الفهم دائما بما كان من اللازم أو من المفترض فهمه وليس بما يتحقق عبر صيرورة الحركية والتثبيت لكن داخل أفق الفهم المتبادل الذي يظل مجرد وهم أو بالأحرى مجرد ذريعة لإحكام انغلاق الذات على ذاتها أو الموضوع على موضوعه وبالتالي حيث يظل الوجود الإنساني عاريا من حضوره البشري تماما كتلك الأسئلة التي لا يستقر عليها هواء القول أو ماؤه. ربما في قلب ذلك الإشكال فقط تكمن الضرورة القصوى والملحة لعملية التثبيت حيث لا يظل النص هنا مستسلما بشكل أعمى إلى حركيته و بالتالي إلى جهله/تجاهله التام بحضورك.التثبيت يمنح إمكانية الفهم فرصة إضافية تتمثل في الحد النسبي من الانفلات التام للدلالة ولما هو مُودَعٌ طيها.إنها تقطع الطريق على مسار الحركة مقترحة حالة ممكنة من حالات التطويق. ومع أن مشكل تأويل الكون يصبح كالعادة مقترنا بإمكانية أو باستحالة تثبيته فسنظل نتساءل إن كان الأمر يتعلق بأولوية تثبيت الذات أم بأولوية تثبيت الأخر أم بهما معا ؟ ذلك أن مصدر الحركية القصوى يعود إلى الحركة الداخلية والحميمية التي يتعذر معها استهداف المتحرك بفعل التفتيت وبالتالي بفعل التفكيك لأن الحركية الداخلية تتميز بقابليتها الذاتية للاشتغال حيث قوانين الحركة تمارس سلطتها. إن القدرة على ممارسة فعل التثبيت ليست معطاة و ليست جاهزة و ليست مقننة بمعايير جاهزة قابلة للتقاسم وللتملك بنفس المواصفات ذلك أن هذه القدرة ومهما حاولنا إخضاعها لقوانين العقل ولقوانين المنطق فإنها ستظل دائما محتفظة بأسرارها العجيبة و العجائبية و التي تظل دائما عصية على التأطير ومن المؤكد أن هذا الجانب المحتجب والخفي المنفلت والعصي على التملك الجماعي هو الذي يؤدي حتما إلى تلك الفوارق الهائلة بين شعرية عوالم غارقة في ضحالتها وبين شعرية تلهج بأضواء الخلق و الإبداع وبفضل هذا الإشكال ذاته يتحقق ذلك الاختلاف الكبير الفارق و الفاصل بين ما ينبغي إحياؤه وبين ما ينبغي دفنه.