على سبيل التقديم قال أبو عمرو عثمان الجاحظ: وينبغي لمن كتب كتابا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك، حتى يدع كتابه غفلا، ولا يرضى بالرأي الفطير، فإن لابتداء الكتب فتنة وعجبا. فإذا سكنت الطبيعة، وهدأت الحركة تراجعت الأخلاط، وعادت النفس وافرة، أعاد النظر فيه، فتوقف عند فصوله توقف من يكون وزن طعمه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب. انتهى كلام الجاحظ وهو مأخوذ من كتاب الحيوان. وقال آخر: من أَلَّف فقد استهدف. قال الجاحظ قوله السالف وهو مطوق برهبة الكلام والحروف وأسرارها بين الناس، والأنام يومئذ في دهشة خاصة، ذلك أن إبدال الجمع والتدوين مرهون بسلطان الإقصاء والاحتواء، مرد ذلك إلى أن الثقافة العربية الإسلامية ظلت تحت سلطة أنساق الكتاب الأول وتصورات سدنته حول الإنسان واللغة والعلاقة بالمعنى، ولعمري إن المؤلف السامق بيننا قد أطال المكوث طويلا أمام هذا النص، ولعله أناخ ركائبه، وإلا فكيف نفسر هذه الرحابة العلمية والعمق المنهجي واتساع الأفق النقدي والكفاية التفسيرية والدقة المصطلحية حصرا واشتغالا وتأطيرا واقتراحا وتنظيرا وتمحيصا، التي تكاد تكون هوية الكتاب التي بوأته محلا عَلِيا وهو المحل الذي توافرت له حدوسه المنهجية التي ستطول، ومساراته القادرة على استدعاء الأسئلة الاستتيقية والفلسفية، لأنه يمد بنسب رفيع إلى حقل الفكر الذي يعيد طرح سؤال الفلسفة التأويلية في تماسها الخصب مع الأدب، وعلوم القرآن، والتصوف، وسائر علوم الآلة العربية من مداخلها المنهجية، لأجل تملك خطاب تأويلي يساهم في تحليل الخطاب، بما هو عدة منهجية لها آليات اشتغال واقتراحات شاملة لاختراق النصوص، وسائر الخطاطات التي تشغل بال الباحثين وطلاب العلم . وله في سنن التساند وقوته الاقتراحية- التوليدية دعامة تفسيرية بالمعنى الشارح نموذج جامع لتلاحم الأداة والرؤية وفن الفهم وعمليات التفسير، انطلاقا من التلقي، فالاستكشاف، فالرصد ثم التبيُّن فالاختراق؛ فإعادة البناء لا بالمعنى التركيبي نصيا، ولكن بالمعنى الذي يتيحه المؤول البليغ حيث يشغل الدوائر الكبرى والدوائر الصغرى والدوائر الكبرى مؤطرة بالكليات والمبادئ العامة ، وهو ما مكنه من بناء رؤية منهجية للكتاب ذات طابع شمولي، جعلت الكتاب يمس حقولا معرفية مختلفة ، ويسرت تماسك أجزائه وانسجام رؤيته، واتساق مفاصله المعرفية والنقدية والعلمية في حلتها التأويلية. التأويل سندباد المعنى عبر التاريخ ظل التأويل ممسكا بروح الإنسان في كل حركات أفعاله الوجودية، وسواء وعى الكائن البشري هذا التلازم أم جهله ، فهو كائن تأويلي بامتياز لأن النصوص لها فتنة، ولها شفرات، ولها أغوار، ولها مسافات، ما يدفعه باستمرار لاقتبالها بحثا في المعنى واهتبالا للدلالة. وقد ارتبط التأويل بالإنسان منذ أزمان سحيقة، وكان أحد أبعاد الهيرمينوطيقا ( التأويلية). ويعود انبثاقه إلى دور المسافة الزمنية واستقرار المعنى في لحظة بنائه ، دون جسور تربط الحاضر بالماضي، وإذن لا وجود للتأويل بدون نص مقدس ، كما أن النص يولد وهو يطرح نفسه للتأويل ، ولأجل هذا فالتأويل كامن في بذرة النص. وبين التأويل والتأويلية جسور وصلات وتداخل وتخارج وانفصال واتصال وضفاف، ولئن كان التأويل يضم معان تطور وعيها في كل الثقافات، وظل أحد أبعادها، فالتأويلية نظرية للتفسير المسيحي في الماضي وفنا للفهم والتأويل في الحاضر،ولها حلقات إضافية غوصا على المعنى في حقول المعرفة المعاصرة. لقد كانت التأويلية - وهو المصطلح الذي ارتضاه المؤلف في كتابه - وهي ترجمة لمفهوم آخر شديد الارتباط بالتأويل بوصفه بعدا من أبعادها وهي الهيرمينوطيقا. وتعني الكلمة ذات الأصل الإغريقي استنباط الدلالة التي تعبر عنها النصوص الكلاسيكية، وتتضمن معاني التعريف والشرح والترجمة والتأويل والتعبير. ويمكن إجمال استعمالات المصطلح فيما يلي: - فن تأويل الآثار المكتوبة. - بحث مبدأ الانسجام بكيفية تجعل كل جزء منه مؤَوَّلا حسب تجانسه الكلي. - تعدد محاور التأويل وتنوعها حول المعنى الكلي للنصوص. - تسعف الهيرمينوطيقا في تأويل الرموز والديانات وأشكال التعبير، أي أنها نظرية تأويل للعلامات. 2 نستكشف مما سبق أن التأويلية أو الهيرمينوطيقا تستهدف حل شفرة الموضوع الديني في النصوص والطقوس والشعائر والمعتقدات الأرضية والسماوية في شقها التراثي والنصراني، غير أنها انتقلت من مجال علم اللاهوت إلى آفاق ودوائر عدة تشمل كافة العلوم الإنسانية كالتاريخ وعلم الاجتماع والانتروبولوجيا وفلسفة الجمال والنقد الأدبي، ما يفسر أن طموح الهيرمينوطيقا تطور مع الفلسفات المعاصرة وأصبح ينزع إلى فن الفهم في صيغته التأويلية المتعلقة بأشكال الإبداع أو فهم الفهم، هكذا تحررت منذ جهود وليام ديلتاي وشلايرماخر وهايدغر وهابرماس وغادامير وبول ريكور من الهالات الكلاسيكية وانشغالاتها لتنخرط في قضايا عصرها. كيف شغَّل الباحث محمد بازي أدوات هذه النظرية الواسعة الإهاب في التاريخ تأليفا واشتغالا ومجالات بحث واسعة؟ ومن أي مدخل انطلق في متابعة التأويلية العربية وامتلاك رؤيتها لاشتغال المعنى وبروزه ونموه الدلالي ؟ لقد حضرت روح التأويلية بما هي تساؤل وبحث مستمر، واهتبال متواصل تجاه النصوص والرؤى والنيات والأعمال التي شكلت عمارة الكتاب بلبوس نلمس مظاهرها الدينية والأدبية والعلمية والفلسفية، وهو الحضور الذي استدعته أسئلة البحث ومساراته، حيث لم يغرق قارئَه بفرش نظري عام، بل اكتفى برصد الحدود العلمية والمنهجية التي ترتبط باشتغاله كأداة للتفكيك والشرح والفهم. معمارية الكتاب بنى المؤلِّف عمله العلمي الجاد من موارد جمالية وأدبية ونقدية ودينية وفلسفية، ما يسَّر له رحابة معرفية نادرة تمهد مسارات القارئ وتحث خطاه أماما. إذ استهل بمفتتح ابتهالي يسع نداءات الروح في حضرة ملكوت المعنى، حيث ملائكة الفهم تمد إلى السر التأويلي بجرعات علوية تتسقطها الأنفس العطشى إلى غيث الأنوار، تترى خلفه أحد عشر فصلا والمفاتيح السبعة والأقفال الثمان كلها للقارئ ساجدة. سبعة مفاتيح كأنها سبعة أشواط يقطعها القارئ سعيا بين رؤية ومفهوم، وبين أطر مرجعية ورؤى سياقية، وبين خطاب وخطاب، وبين تقابل و تساند وتناسب، وبين مساق وسياق وأنساق. وثمان حجج بين مداخل ومسارات واستهلالات ومنطلقات ودوائر صغرى وكبرى، المفاتيح السبعة كأنها أيام الله سبعة، تطرح سؤال التأويل كآلية بناء ، من حيث هو حركة ذهن، ومن هو علم ونسق وتراكم ، ومن حيث هو مشروع مفتوح ممتد لا ينتهي، تخترق أفعاله الزمان ، ما يعدد حلقاته وإنتاجياته، وهو ما يؤسس سيادته، ويرسخ روحه عبر النصوص والإنسان. ومع اتساع الكفاية المنهجية والمعرفية الملائمة في اقتراحاته تبرز آفاق الاشتغال التساندي. يتم هذا الخلق التأويلي البليغ معتمدا تصورات الثقافة العربية الإسلامية في اهتبال المعنى من جهة، كما لم ينس من جهة ثانية تصورات غربية تتكئ على خلفية هيرش وراستيي وايكو وتودوروف حول استعمال النص وتعدد القراءات، ما أنتج في ذكاء خالص اقتراح إجراءات عملية تنظيمية للممارسة التأويلية اسماها : الدوائر الصغرى والدوائر السياقية والتي تضع رهن فهم النصوص إمكان تلق ايجابي للنصوص وتحليل الخطابات التأويلية وطرائق تشكلها لرصد صيغ الوعي الكامنة فيها برد ذلك إلى مرجعياته ومساقاته. ولأمر ما يلح المؤلف أن اشتغال التأويل في الوعي البشري يرتبط بسؤال المعنى من حيث بناؤه إنتاجات واختيارات المؤلف بجعله غامضا أو واضحا أو مقتفيا مساراته ومقاصده، وهو ما دعاه للانطلاق في المباحث المتصلة بالتساند التأويلي وتجلياته من سؤال قاعدي: ما الذي يحقق لدى قارئ معين بلاغة تأويلية كما تحققت لصاحب النص بلاغة إنتاجه؟ وتوسل إلى ذلك الأمر مطية التساندية والأنساق والمساقات والأنساق النحوية والبلاغية وغيرها، وهو ما يسَّر له طرح منهاجية ناظمة مبنية على استنتاجاته السالفة أسماها: التأويل التقابلي التساندي، الذي سيكون له أفضل الأثر في تجربة التلقي والتأويل عبر الكتاب، ليختم سِفْرَه بأقفال مفتوحة وفاتحة للمنجز في مرايا المأمول، غير أنها مازالت مُشرعة وللأبد على أفق قلق كل المؤولين وقوفا على أسرار التأويل ومباهجه. أقفال ترصد الجهد النظري التركيبي الذي بذله الباحث مشفوعا بإجراءات تأويلية ترفد النظر إلى الخطاب في شموليته، موضحا أن المؤلَّف قيد التنضيد قد انتفع بجهود السابقين، والكثير من تصوراتهم في التأسيس واصطناع مفاتيح تأويلية التساند والتقابل، مبرزا أن اقتراحه الإجرائي المتمثل في التأويل التقابلي تتميم للنموذج التساندي بما هو خاصية كونية وإنسانية ومعرفية وتأويلية مراعيا مقامات المتلقين، مستجيبا لواقع النصوص، ما يعني أن تأويلية التساند والتقابل إجراء يدعو إلى تأنٍ وتمهلٍ في تتبع موضوع التأويل، والتزود بما يكفي من المراجع والسجلات الداعمة، لأنه نموذج يتسم بالدورانية والتساندية والانفتاحية والتعاقدية والتقابلية. وهذا أمان من الزيف والنقص يطرحه الباحث أمام محللي الخطاب ومؤولي النصوص عند اقتحام موضوعاتهم. وتلي المفاتيح السبعة الفصول الأحد عشر. ولقد انصب الفصل الأول على كيمياء التأويل، سعى فيه إلى إعادة بناء المفهوم في معناه ودلالته وصلته بالتأويلية التي ارتضاها النسق التأويلي العربي الإسلامي، مكتشفا حدود التماس بين التفسير والتأويل، وأسه الايتمولوجي وأنماط وعيه لدى السلف ومعانيه ودلالته في القرآن وعلاقته بعدة نقلية واسعة. مستشهدا بأعلام لهم السهم الوافر في هذا المجال كالسيوطي وابن كثير ، مكتشفا بلاغته التي تقوم بين بلاغة الترجيح وبين التأويل المفْرِط والمفَرِّط، مبرزا أن نتائج التأويل لدى الغلاة وأصحاب الإفراط قادت إلى كوارث حقيقية بألم مضاعف كلفت الأمة أعمارا من الدم واستباحة أرواح الناس ليخلص إلى أن: - التأويل تفاعل معرفي بين بنية ذهنية وبنية نصية وبنية سياقية مؤطرة ببنية من النصوص الغائبة، ولذلك فهو يراه متضمنا التفسير من حيث هو نظر في الظواهر. في حين انصرف الفصل الثاني إلى رصد اشتغال تأويلية الارتداد ، من حيث هي حركة ذهنية تأويلية ، تولي شطر المرجع والأصل والنقول والنصوص الموازية، وتأويلية الامتداد من حيث هي امتداد نحو الغاية الدلالية للنص المؤوَّل أو مقصده، ولقد سار الباحث في هذا المسار اعتمادا على مفاهيم المعنى والقصدية والنص والسياق لضمان نجاعة تساند المؤشرات التركيبية والاستبدالية كاستراتيجيات داعمة للتأويل،عبر تمثلٍ دقيقٍ لإرغامات الفعل التأويلي وقيوده، وضوابطه النصية والسياقية، مادامت كل عملية تأويلية تنشأ معها فروض وحدوس واحتمالات عديدة للمعنى ، ولابد والحالة هذه من اعتماد معايير وإجراءات اختيارية. ولصيانة هذا التصور من عبث الأهواء، أردف إرغامات الفعل التأويلي وقيده بحدود أخرى، هي المقاصد وحدود التأويل، وحدود الكفاية التأويلية، وضمان وصف حقيقي لأنماط القراءة وتأويلها ودوائرها الصغرى والكبرى، كل ذلك على قواعد صلبة. وفي الفصل الثالث قارب قضية التعدد التأويلي في علاقته باللغة ومشكلات الفهم وأدوار السياق، مستشكلا صيغ اشتغال اللغة على محوري الإنتاج والتلقي بلغة مفهومية أكثر غورا ورصدا لأدوار السياق والمساق في إنتاج تأويلية تتسم بالتعدد، وقد قصد إلى ذلك من خلال مداخل: اللغة الرمزية وتأويل ذي الوجهين ووضع المقبولية التي تسم التأويل ، وحدود الصحة مع رغبة ظاهرة لدى المؤلف في إسقاط مبدأ المقصد المتصل بالمؤلف ، لأن معاني النص لها مضايق أخرى تشترط القارئ. وفي الفصل الرابع يقترب من إشكال الإشكالات التي استدعت هذا التأويل إلى ساحة الفهم، وهي معضلة إشكال المعاني، والذي يرجع أصله إلى: - الازدواج اللغوي من حيث عزل البنيات الدلالية عن فضائها. - البنيات البلاغية والمجازية ومقاصد المنتج واحتمالاته وتباينها وتخالف الأفق التصوري والجمالي. - عسر انصهار الآفاق القرائية - فجوات الفهم ومسافات الإفهام بين طرفي التواصل . وفي الفصل الخامس، لاحق بناء المعنى واستراتيجيات تلقيه عبر منطلقات التأليف، بما هو معنى في ذهن صاحبه، إلى أن يستوي كلاما مثبتا بنص مشاع، ممثلا لذلك من مدونة النقاد والمتأدبين العرب والشعراء وأسباب القول وسياقاته، ليرصد تجليات المعنى من خلال تلقيه، وهو ما سيمكن من بلاغة تأويلية عبر مدونة ذهنية معروفة ومرجعية في إطار تدبر وتمحيص آخذا بالاعتبار انفتاح النص وواقع معايير التأويل.ومن خلال التعاقد التأويلي حاول الباحث أن يرصد مسارات النص ودوائر بناء المعنى المنفتحة على محيطها ، وهو ما يعدد مستويات بناء المعنى، ليهتدي في الأخير إلى رسم معالم القارئ البليغ بدلا من القارئ الضمني (المثالي) عند إيزر . وفي الفصل السادس سعى إلى رصد أجهزة القراءة التأويلية من خلال تساند آلياتها في خطابين تفسيرين معروفين في الثقافة العربية الإسلامية وهما تفسير "الكشاف" للزمخشري و"تفسير القرآن العظيم" لعماد الدين ابن كثير في تفسيرهما لسورة الفاتحة، محددا منطلقات القراءة التأويلية وموجهاتها في خطاب التقديم، وحاول تشغيل مدونته التأويلية، من خلال تجليات اشتغال التأويل الظاهري ، فحاول رصد الدوائر الصغرى لدى المفسرين واشتغالها بأدواتها البانية، مثل المدخل الصرفي والمدخل النحوي والمدخل البلاغي ومدخل القراءات.لينتقل إلى ملامسة آليات التأويل السياقية من خلال انفتاح التأويل النصي على الدوائر الكبرى من خلال معطيات السورة وموازياتها القرآنية وموازياتها النصية الحديثية، والاعتماد على مأثور الصحابة، والعودة بالمعنى إلى أصوله باستثمار الشواهد الشعرية ، كما هو الحال في الاستدلال على أي مسألة لغوية أو دلالية أو بلاغية أو اشتقاقية، ليخلص إلى أن مشروع القراءة التأويلية وتصوراتها لأنساق الفهم وآليات الاشتغال فعل شمولي لا يتم إلا لفئة مخصوصة، هم المؤولون البلغاء والراسخون في العلم لامتلاكهم أجهزة وصفية متعددة المشارب بحلقات فهم نصيةٍ مشكلةٍ من نصوص غائبة. وفي الفصل السابع سعى إلى تبين صيغ التساند التأويلي في خطاب الشرح على مستوى الدوائر الصغرى والدوائر الكبرى، انطلاقا من كتاب "التبيان" في شرح الديوان لأبي البقاء العكبري، وسيتم اكتشاف حدود الدوائر الصغرى والكبرى من خلال متابعة أنساق بناء المعنى في شرح الديوان ،بالوقوف على حدود القراءة وآلياتها عبر المداخل المرتبطة باللغة والنحو والاشتقاق والبلاغة ، ثم اكتشاف الآليات الخارجية العاملة في خطاب الشرح كالمناسبات ومقامات الخطاب والاستراتيجية القرائية والاستدلال والخبر المتصل بسيرته. نكتشف من خلال وقوف الباحث جليا أمام اشتغال التأويل في شرح العكبري لديوان المتنبي أن الشبكة التأويلية العاملة في هذا الخطاب قائمة على تقاطع الآليات وتساندها وانفتاح الدوائر النصية الصغرى على دوائر كبرى موسعة تعمل فيها النصوص القرآنية والحديثية والشعرية والحكائية والخبر والأمثال والتواتر على رفد التأويل ودعمه " لأجل إيجاد بلاغة تأويلية يحصل فيها الانسجام الكلي بين القراءة والنص ومقاصد منتجيه وقيود المنظومة والنسق الثقافي الذي تم فيه التأويل" محمد بازي : التأويلية العربية ص 217 ويتابع في الفصل الثامن ترسيخ اجتهاده في الفصل السابع ، إذ يطرح في سياق بنائه المنهجي لمفهوم المستويات القرائية ملامح منهاجية التأويل التقابلي مؤكدا الطابع التساندي والتعاوني المتسم بخصائص الانفتاح والدوران والتعاقد يكشف أصالته ما ينتج عن جمالية التقابل ، التي لا تخرج عن أنها تتميم للنموذج المقترح ، حيث انطلق من كون القراءة تأويل يتم في عمقه من خلال تقابل نووي مركزي في إطار وحدة بين الذات والموضوع، ثم تتوسع دائرة الفهم بإنشاء تقابلات استتباعية تفصيلية أو جزئية. ليخلص إلى أن المشروع التأويلي الموسع القائم على التساند والتقابل قادر على ضبط كلية المعنى وممارسة تأويل مقبول له على حظه المعلى من الوجاهة والاستقامة . وفي الفصلين التاسع والعاشر عاد الباحث إلى امتصاص جزء من روح الفلسفة التأويلية التي تحكم تصوره المنهجي، فقسم التأويل بالتقابل إلى تقابلات نصية مؤطرة وتقابلات موسعة تتصل بالنص والسياقات والأنساق والخطابات والمقاطع والتعدد. فتابع منهجية التساند عبر التقابلات التي تسقطها من مؤشرات نصية ظاهرة من خلال : التناظر والتراتب والتساند والتشارك وغيرها، ليوسع تقابلاته إلى حدود النص وسياقه ونظائره وأنساقه وبين داخل النص وخارجه ومقاطعه وفقراته.كل ذلك عبارة عن إجراءات قرائية موسعة تتم بين النص ومراجعه وسياقاته، وكلها مؤطرة بإستراتيجية تقابلية في الفهم والتأويل بإدراك الباطن والظاهر والحاضر والغائب. وفي الفصل الأخير قدم الباحث قراءة ثرية لنص شعري لشاعر العربية الأكبر أبي الطيب المتنبي، دعما للفصول النظرية بنى هذه المقارنة التأويلية التقابلية التساندية لتجريب صلاحية أدواته ومنهجيته وبلاغته التأويلية منطلقا من البنيات النصية من كلمات وجمل وانساق نحوية وبلاغية ، متوقفا عند التقابلات الظاهرة والخفية منتفعا بموارد سياقية مساندة، فأثبت القصيدة كاملة، ثم جرب آلياته التأويلية، إذا بدأ بالتقابلات السياقية للمتنبي وسيف الدولة ثم التساندية التأويلية وتجلياتها اعتمادا على الموازيات الشعرية التي تغني المعنى المبني إنتاجا وتلقيا أو توسعه أو تمده ، ليتضح في الإفهام ملاحقا لوحات الحكمة والرثاء والعزاء وغيرها. ويختم المؤلف مصنفه الثري بأقفال ثمان سبق إليها الكلام في ما تقدم، مؤكدا فيها جدة التأويل وفرادته وآفاقه ورحابته باسطا خلاصات عن البلاغة التأويلية التي كان وكده ملاحقتها وصفا وغوصا وتبصرا وفهما معترفا بفضل الماهدين الماجدين قبله، مفصحا عن تواضعه أمام اتساع عوالم التأويلية. ولقد كان طرحه العلمي مقتفيا روح التأويل بوصفه قراءة ودودا للنص وتأملا طويلا في أعطافه وثرائه، وحوارا خلاقا بين القارئ والنص، حوار يضفي على النص معنى يشارك فيه طرفان، إذ ليس للنص معنى بمعزل عن قارئ نشيط يستحثه، ويقلب فيه الظن بعد الظن. الاشتغال المفهومي للكتاب يقع كتاب " التأويلية العربية" لمحمد بازي في صلب السؤال المفهومي العام ، من حيث أبعاد الفهم والمقاربة والنقد التي تتعالق وسائر أنواع الانشغال المنهجي بقراءة النص واستكشاف بنياته وإنتاج معرفة بمراجعها وآفاقها، ما جعله كتاب اشتغال معمق على مفهوم التأويلية، والتأويل بفروعه وصيغه، برصد التصورات والأنساق والأشكال الثقافية والتفاعلات والتقابلات والدوائر رصدا للمعنى وبنائه في إطار اقتراح شخصي مشفوع بكفايات تفسيرية. لقد أوتي الباحث فهما رضيا، إذ صاغ عمارته المفهومية البيانية في إطار نسقي، تتعالق فيه شبكة المفاهيم، وتترابط في دائرة هيرمينوطيقية يقودها التقابل والتناظر والتفاعل دون أن ينبو بعضها عن بعض. إذ تخففت لغته المفهومية من إسار الإغراق في التنظير العام ، فلم يخض في سجال نظري لملاحقة صيرورة المفهوم ولا سيرورته، بل أمسك ببوابات عبوره المنهجي، وأصلها في إطار نسقي –سياقي لا يكتفي بمقاصد المعنى العام، بل بالتبيئة والغرس، ولعل رؤيته التأويلية المنبنية على حركة الارتداد نحو المرجع والامتداد نحو الغاية أكبر مفسر لتلك الرؤية؛ فلا يعثر القارئ على تفاصيل مجانية تمس مختلف الحقول المعرفية، التي استخلص منها الباحث روح التأويلية والتأويل ، بل ثمة إجراءات دقيقة في استثمار المفهوم حتى يظل أداة إجرائية. هكذا التفت إلى المفاهيم التي ترتبط بمفهوم التأويلية والتأويل كالفهم والتفسير والمعنى والشرح والتعبير والقراءة، وسائر المفاهيم التي كانت أدوات اشتغال كالنص والسياق والانسجام والموسوعة والأطر والمدونات والخطاب والسياق والمساق والبنية والموازيات وغيرها، منتفعا بكل عدتها الإقرائية مستنبتا إياها في تربة خاصة هي العبور بين النص في انتمائه إلى التراث وبين قراءته المعاصرة وفق رهاناتها وأسئلتها المسكونة بروح العصر. أصالة البحث وقيمة الباحث تكشفها شجاعته في الاشتغال على بنية المصطلح بالتوليد والخلق والتعريب والحصر والاقتراح والترجيح والتشبيك والتوضيح والتمحيص والتنظير، وهو الأمر الذي لا يدركه إلا أفراد الرجال، الذين استووا في العلم ، وقال الناس بإمامتهم بالمعنى المعرفي ؛ فالباحث فيما هو منشغل بتأطير أطروحة السؤال الكبير والعام في المؤلف: ما الذي يحقق لدى قارئ معين تأويلية بليغة كما تحققت لمنتجي النصوص بلاغة إنتاجية؟ لم تستهوه الفقاعات النظرية المتطايرة في سماء الغرب، بل رفض حتى استخدام المفهوم بلفظه اللاتيني، ونظر لمفهوم آخر دارج واصله برؤيته المنهجية، مهيئا له كفاية وصفية، ولم يقع أسير التصور الغربي ، وما أكثر السائرين في ذاك السبيل حتى وقع الحافر على الحافر ، ولم يجدوا في أنفسهم حرجا من ذلك التقليد الذي لا يضيف فضلا للغتنا العربية. وللباحث فضل الإضافة في مجهوده الجبار، فثمة مصطلحات ومفاهيم لا نكاد نرى من سبقه إلى اقتراحها في الاشتغال التأويلي : مفاهيم الدوائر الصغرى والكبرى والارتداد والامتداد والتساند، وغيرها من المصطلحات التي أصلها وزاد في توسيع رؤيتها وآفاقها كمصطلح التقابل والموازيات وغيرها. وأختم مداخلتي بقولة للمؤلِّف في نهاية المفتاح السابع في مستهل الكتاب، بعد أن أحورها لفائدتي كي تدل على حالي ومآلي : لقد قصدت بهذه القراءة الصواب والحق، ونية الرجل أولى من العمل. وكتاب (التأويلية العربية نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات) بحر من لم يركبه فقد سمع خبره ومن رأى من السيف أثره فقد رأى أكثره. فليغفر لنا القارئ الكريم زللنا بالحِلم؛ لإقرارنا بالنقص المركب في جبلة المتعلمين في مقارعة العلم، ومن أراد عيبا وجده ، ومن فحص عن عثرة لم يعدمها، وحسبي أني نلت شرف الانتماء إلى أرومة العلم باهتبال هذا السِّفر الثري.