تضعنا شعرية الانفجارالكبير، في عمق تلك اللقطة التأسيسية التي تظهر فيها الكتلة النارية الأولى،وقد تناثرت مزقا وشظايا على امتداد فراغها اللانهائي،معلنة بذلك عن مشروع إبداع وتدبير مستقبلي لأكوانها اللآمتناهية،سواء من حيث تعدد بنياتها ومكوناتها، أو من حيث تباين مستويات قربها وبعدها،وضآلة أو كبر أحجامها ،فضلا عن تنوع تموضعاتها المراوحة بين وضوحها النسبي وغموضها المطلق.وهو مشروع- إن صح التقدير- يتأسس كما هو ملاحظ على منهجية قراءة دلالة الانفجار في سياق تلك الانفصالات القسرية والتلقائية التي أقرتها وأملتها قوانينه،وحولتها في نهاية المطاف،إلى سمة ملازمة لمختلف ما تنتظم فيه عناصر الكينونة، من تعالقات لا تشكو بالضرورة من لوعة ورعب القطائع،دون أن تستبعد في نفس الآن احتمال تعرضها لقسوة اختباراتها. حضور قوة الانفصال هذا،لا ينحصر فقط في ما يوحي به انفجار للكتلة الأولى من تآويل،بل يُستقرأ أيضا من أدبيات النصوص الدينية المحيلة على العقاب السماوي الذي تعرض له الكائنان الأولان،والمتمثل في فصلهما معا عن قرب المقدس ،من خلال إنزالهما حيث هما الآن. إن محنة هذا الانفصال باعتبارها لحظة فارقة بين زمن الديمومة وزمن الفناء،تحضر باستمرار كوشم ملتهب، لا يكف عن تهديد ذاكرة الكائن باحتمال حدوث قطيعة، قد تعلن عن حضورها على نسيج صيرورته،تماما كما هو الظهور المباغت لتلك الصاعقة المنذرة بأكثر من احتراق،و كتدخل مداهم يبطل كل نية مبيتة في الاندماج، و كملحاحية عنف يتربص بموضوعه،أو دعوة مبيتة لاستئنافٍ جديدٍ من موقع مغاير، بحثا عن احتمالٍ مستشرِفٍ لحضور ما. يتعلق الأمر هنا بذلك الصراع الدائرة رحاه بين زمن الكتلة الأولى، بما هو زمن المشترك، المنصهرة ذواته في بنية العام، وبين زمن الانفصال الذي تلاه، بما هو زمن المتفرد المسبوك في بنية الخاص.وكما هو متداول،فالجمع/المشترك يتصف بحرصه الدائم على توظيف سلطته، الموجهة إلى محو كل ما يمكن أن تُحْدثه خصوصيةُ المتفردِ من اختلافٍ،اعتمادا على ما يمتلكه من إوالياتٍ شبكيةِ،محكمة من حيث قوة الانحباك،و حنكة التدبير. إن هاجس تحقيق ظاهرة المشترك،من خلال تجويد هندسة بنائها،إلى جانب إغنائها ورعايتها، بهدف تحفيز الجمع على تبنيها ومباركتها،هو أحد المشاريع المركزية التي تسهر كل من السلطة المتعالية والأرضية على إنجازها،عبر آلية صهر الذوات المفردة في الجسد العام، كعامل أساسي من عوامل توفير إمكانية الحراسة والمراقبة ،إلى جانب فرض إمكانية التحكم والتوجيه .ذلك أن المشترك يُمَكِّنُ السلطة من ضبط نوايا المنفلت، وتقييدها قبل فوزها بغنيمة التحقق .ومع ذلك، فإن الخاص بما هو شخصي متفرد وذاتي،ومنفلت أيضا ،يظل محتفظا بحضوره وبسماته ولو بمقدار، دون أن يعلن بالضرورة عن حضوره ،باعتبار أن إمكانية الإعلان عن خصوصيته، غالبا ما تكون في حكم المستحيل،مما يُكرِه الخاص على تكريس وجوده بصمت وحكمة في تضاعيف المشترك، باستثناء تلك الحالات التي يجنح فيها إلى تكسير طوق الكتلة المكرس بسلطة العرف. المنفصل وتواطؤ الكتابة من المحتمل، أن مرجعية قوة الوجود،والتباسه الكبير،إلى جانب انغلاقه الدائم، بفعل تنضيده المضاعف لعلاماته ودلالاته،تعود أساسا، إلى قوة ذلك الانصهار الكبير القائم بين عناصره المنقلبة على قوانين الانفصال،كما تعود إلى تداخل العلاقات التي تنسجها أصوات هذه العناصر مع صورها،و تفاعل أجسادها بلغاتها. لذلك فإن لذة /محنة تلقي الوجود هي نتاج طبيعي لهذه التداخلات والتشابكات البالغة التعقيد،و التي يكمن مصدرها في حنين العناصر المتشظية والمتطايرة في آن، إلى استعادة تلاحمها ،أملا في استحضار زمن الكتلة بحجمها الأولاني والبدئي،أي العودة إلى ما قبل الانفجار الكبير، والتي ستظل حلما مؤجلا إلى الأبد. كما أن وعي العناصر باستحالة تحقيق هذه العودة /الاستعادة ،هو ما يؤجج نار احتداماتها الداخلية بمضاعفة عنفها وجموحها،في أفق تحقيق الحد الأدنى من تلك الالتحامات المتأبية. الكتابة ترصد ذلك،من أجل مضاعفة تفاعلاته، وتصعيد احتدامها،بتواطؤ ممنهج مع السلالات المنحدرة من رمزية الانفجار العظيم،قصد الاستمرار في تعميق حالة الانفصال،وتصعيد حالات مكابداته، انسجاما مع منطقها الخاص، المتمثل في هوسها العارم بتأليب التجاذبات الحتمية على ظلالها . على أساس ذلك ،تدرك الكتابة بحدوساتها اللآهبة، أن ما من منطق لاشتغال الانفصال،وما من استراتيجية محددة وواضحة له ،وكما لو أنه ثمل أبدا بخمرة أبدية لا يتسرب الصحو إلى مفاصلها، نراه ينتشي بفصل الرأس عن الجسد ،و واستئصال الأجساد عن جذورها ، على غرار انتشائه بفصل تاج الديكتاتور عن كراسيه. إنه غير ملزم بتنفيذ خطة ثابتة، و لا بالإخلاص لرؤية أخلاقية للذات أو العالم .إنه يكتفي فقط بالبحث عن صيغة أكثر حداثة لفصل هذا عن ذاك ،حيث لا يتعلق الأمر بطيش مضمر،أو فوضى غير مهيأة للردع أو التنظيم ، بل بالوفاء المثالي لشعرية الانفجار العظيم ،ولحركية قوانينها الطبيعية التي على أساسها يتشكل إيقاع الوجود في علاقاته بالموجود.وهي ذات القوانين المتبناة من قبل كتابة ليس لها أبدا أن تلتزم بإملاءات القوانين. اللازمني وحظوة الاستغراق تبعا لذلك، يمكن القول إن البعد المأساوي لعلاقة الكائن بالزمن،يكمن في تعرضه الدائم لخيمياء هذا الانفصال المتعدد الأشكال،مما يحول دون تحقيقه للحد الأدنى من الاستغراق في دينامية الحاضر، الذي تتحقق بموجبها فرصة تملك الزمن،باعتبار أن إمكانية الاستغراق في قلب الحاضر،غالبا ما تكون مقيدة بالانجراف الإرادي واللاإرادي للكائن، مع تلك التيارات الاسترجاعية، المنبعثة سواء من ذاكرة ماضيه أو من تباشير مستقبله،وهو ما يعني وقوعه التدريجي،تحت طائلة تغييبه المزمن عن لحظة الحضور،حيث تبدو استراتيجية الحاضر معنية بتدبير آلية احتوائك تماما، إلى درجة إفنائك فيه، كي يصرف بصيرتك عن رؤيته وعن تعرفك عليه. في قلب ردود الفعل/ الأفعال المثارة من قبل متوليات الفقد أو الانفصال،التي يقودها الزمن إلى أقبيته المحفورة في تلك الشعاب الغامضة كي تكون جد فريبة من قدميك، -بفعل قوة الاستعادة- تتشكل مدونات شعريات الكتابة.أعني تلك الشعاب التي تفصل الهنا و الآن عن ذاكرتك،كي لا يصل بينهما شيء ما،عدا برزخ تستطيب الكتابة إقامتها فيه، أملا في التخلص من سلطة أي زمن ثابت ومعلوم .ومع ذلك،لاشيء يمنع من التساؤل عن دلالة سلطة الحاضر، مادام كل من الماضي والمستقبل،لا يستعيدان حضورهما إلا بأمر منه. هو الذي يستمد سلطته من قدرته على مركزة أكثر من زمن،في تضاعيف تمظهره المنفلت دائما، متخذا بذلك شكل حضور متواجد خارج كل زمن واضح المعالم ،بفعل امتلائه شبه المكتمل وشبه المبتور في آن. بمعنى أنه مصاب بنقصانه البنَّاء والواعد والمسانَد كذلك، بنداء العودة، تلك التي على أساسها يتحقق فعل التواصل مع ما انفصل، كما يتحقق مع ما هو في طريقه إلى الانفصال.ذلك ما يضعنا في قلب تلك المسلمة التي تتبناها الكتابة،والقائلة باستحالة تحمل الكائن لإيقاع الزمني،ما لم تتخلله إيقاعات اللآزمني،علما بان الدلالة الموضوعية للكينونة،لا تتبلور إلا من خلال تقاطعهما وتفاعلهما معا.علما بأن هذا التفاعل الثنائي في تقاطعه وتكامله، قابل لأن يكون مصدرا لذلك القلق الكبير الذي يحدث أن يعصف بالذات ،خاصة وأن الزمني يمتلك بمفرده، ما يكفي من القدرة على التدمير الواعي وغير الواعي لها،بفعل ما يمتلكه من سلطة احتوائية،تماما كما هو الشأن بالنسبة للآزمني.نستحضر في هذا السياق الترسانة المرئية و اللامرئية الموظفة من قبل العولمة المتوحشة من أجل تلميع صورةِ مشتركٍ،يختص في محو كل حضور ذي طبيعة فردية وذاتية، كلما غامر بالإعلان عن خصوصيته المنفصلة،وذلك من خلال عملية تذويبه واحتوائه،باعتماد تقنيات متقدمة ،معدة خصيصا لهذه الغابة،قوامها إضفاء حالة الفردنة العقلانية للجمع،عبر تصنيع جمالي وعلمي لنماذج إعلانية مسبوكة في بنية جمع ظاهره مفرد، وباطنه جمع يغري الذات المفردة بالتخلي عن هويتها ،كي تتماهى تلقائيا وعن قناعة،مع النموذج المصنع / النمط،حيث يتمكن المشترك ذاته، من وضع حد لأي عقوق محتمل، يمكن أن يعرقل خلسة حركة السير العام للكتلة/ الجمع. تقول الكتابة لقد تبدد الكل مؤقتا، فلم يعد له من وجود.وهاهو ذا الجزء/المنفصل، مقبل على تجاوز جزئيته، ليس من أجل أن يتحول إلى كل،ولكن من أجل أن يتحول إلى بنية منفصلة، أي إلى ذات مستقلة بذاتها،ضمن تلك العلاقة الواسعة والمرنة، القائمة بينها وبين باقي الذوات التي أفلحت هي أيضا في تحقيق انفصالاتها.إن الكل هنا، قد سلَّم بفقدان أصله الأولاني ، فلم يعد متماسكا و لا متلاحما وفق ما تقتضيه سلطته ،ولكنه أمسى بدلا من ذلك متماسكا ومتلاحما على المستوى الدلالي،كما على المستوى التواصلي،وضمن قوانين التبادل السياقي التي تقترضه الضرورة الكامنة خلف ملحاحية إنتاج خطاب ما،استجابة لمقام محدث، باعتبار أن إنتاج الخطاب،هو نوع من الإنصات الاختباري والمتوجس، لصيرورة هذه العلاقة ولآفاق تحولاتها. مغايرة الإقامة فوق سقف النص إن الإقامة فوق سطح النص،هي إحدى أدق مظاهر انفصال المعنى عن معناه.والمعنى المنفصل هنا ليس نهاية مطاف كتابة أو قراءة ،ولكنه و بانفصاله عن ذاته يتحول إلى طريق مؤدية،إلى المعنى/معناه،وذلك بالنظر إلى استحالة الحديث عن معنى شعري مكتمل إلا عبر إلحاقه بأحد حقول الدرس الميتافيزيقي،هناك فقط وخارج طقس الكتابة ،حيث تتحقق الاكتمالات والتماسكات المغلقة على تعاليها. إن انفصال المعنى عن معناه المتعالي، هو ما يحوله إلى طريقة /طريق/ طرق / للبحث عن أصل لم يعد ملزما بالانتماء إليه. أصل سيقتصر على ممارسة فعل التنبيه ،متقمصا بذلك دور دليل يوحي بحضور مكان ما يحتجب فيه شيء ما اسمه المعنى.وفي انتظار أن يتحقق ذلك أو لا يتحقق، يطيب للكتابة أن تقيم فوق سطح النص، حيث عليك أن تكون مكشوفا تماما ،في تلك الجهة المضادة للمكان الذي يُنتظر أن تَستقبل فيه الكتابة، وأن تُستقبل .أي خارج الملاذ الذي لم يعد له سلطة عليها ، ولم تعد تابعة لرعايته وحمايته. إقامة الكتابة فوق السطح تؤرق الملاذ، بفعل تواجدها خارج سلطته.إنها فعلا مقيمة في فضائه وفي محيطه، لكن في تلك الجهة التي لا تستطيع يده أن تمتد إليها، لا بالقراءة ولا بالمحو. ما فوق سقف النص ،معرض دائما لصواعق المنفصل و أنوائه، للطارئ والمباغت ، علما بأن النص/ الملاذ هنا،واع بحضورك خارجه.إنه يستنشق رائحة نعليك اللذين سيطيران للتو مع الريح. ينصت إلى ضحكك وصراخك ، لكنه لا يملك القدرة على احتوائك أو الإلقاء بك من عل في اللحظة المناسبة . إن الإقامة هنا فوق سقف النص ، لا تعني أنك في ملاذ محايث يحمل اسم السطح، باعتبار أن السطح هو البنية الأساس المنتمية بالقوة وبالفعل إلى بنية السقف، باعتباره هو أيضا مستوفيا لشروط الطمأنينة والأمان، التي يتوفر عليها الملاذ،بل تعني تواجدك في مكان منفصل، و مسور برمزية السقوط ومجازاته.لذلك، فإنه يُلزمك بالوقوف الواجف حيث يجب عليك أن تظل في منأى عن حماية الكتلة ،و حيث لا حق لك في الحركة مادمت محروما أساسا من حظوة السير،من الحبو في أي اتجاه من اتجاهات القول.موقع سيحرمك من شهوة الاستجابة إلى نداءات الاتجاهات،كما يحرمك من أية إمكانية لتجريب إبدالاتك المحتملة.حيث الإبدال الوحيد المتبقي لديك، هو إبدال كتابة، ستحولك حتما إلى رخ يفرد جناحيه الكبيرين، كي يطير باتجاه ما بعد السماء، ما بعد التاريخ، وما بعد الانفصال.