"غرفة الشعر" يسودها الهدوء، ثمة بعض الكراسي المخصصة للراغبين في قراءة الأعمال الشعرية، فالسيتي لايتس مكتبة شعر بالأساس، ويكفي أن مؤسسها شاعر و أهم الذين ذاعت شهرتهم من هذا المركز كانوا شعراء. يمكن أن تفتح كتابا هناك و تجلس طوال النهار، لن يسألك أحد ماذا تفعل، و لن يطلب منك أن تغلق الكتاب و تعيده إلى مكانه، لن يشهر في وجهك إعلانا يفيد أن تصفح الكتب ممنوع، الشيء الوحيد الممنوع هنا هو إزعاج القراء. ? - 1 - مرت ستون سنة بالتحديد على تأسيس السيتي لايتس في سان فرانسيسكو، City Lights Books المكتبة الشهيرة و دار النشر و المركز الثقافي الكبير الذي يقترن اسمها بجيل البيث، الجيل الذي حول وجهة سفينة الشعر الأمريكي من الرومانسية و التجريدية، و جعلها تتجه بشكل أقوى نحو أرض البوهيمية و العري الإنساني و إخراج كل ما يعتمل بالداخل السري ووضعه على الرصيف أمام الجميع و دون حرج. قامت السيتي لايتس سنة 1953 على أنقاض بناية أسقطها زلزال 1906 بسان فرانسيسكو المدينة التي هدأت بعد تاريخ من الزلازل، و الفكرة كان وراءها بتر د. مارتين و لورنس فيرلينغيتي، سينسحب الأول بعد سنتين، و إن كان في الحقيقة هو القادم بالفكرة منذ نهاية الأربعينيات من نيويورك، مستوحيا الاسم من أحد أفلام شارلي شابلن، لكن على أساس نشر مؤلفات تعنى بالسوسيولوجيا، أسس في البداية مجلة و نشر الأعمال الأولى لكتاب منطقة الخليج الرئيسية من مثيل: فيليب لمانتيا وباولين كايل وجاك سبايسر وروبيرت دونكان وفيرلينغيتي نفسه. في تلك الفترة كان فيرلنغيتي يتمشى على مقربة من بناية الأرتيكَز، بشارع كولومبوس بالساحل الشمالي في سان فرانسيسكو فالتقى بمارتين يوزع إعلانا لمحل كِتاب الجيب(Pocket Book Shop) ، و اقترح عليه أن يكون شريكه. كان الموقع الذي تم اختياره صغيرا في البداية، و مع تعاقب السنوات اتسعت مساحة المكتبة لتشغل البناية بأكملها، لكن مارتين عاد قبل أن تعرف "أضواء المدينة" النجاح و الشهرة إلى نيويورك وأنشأ هناك مكتبة "نيويوركر" التي تخصصت في مجال السينما. شيئا فشيئا ستتحول سيتي لايتس إلى أول مكتبة ورقية في غرب الولاياتالمتحدة. بعد ثلاث سنوات من تأسيسها ستصبح معروفة عالميا بسبب المحاكمة التي تعرض لها فرلينغيتي لأنه تجرأ و نشر قصيدة "عواء" لألن غينسبرغ، و كانت التهمة هي "نشر الفاحشة". و عليه يمكن القول إن التاريخ الحقيقي للسيتي لايتس بدأ مع "عواء" التي سيتجاوز عدد طبعاتها الأربعين و ستكون سببا في اغتناء فرلينغيتي حيث أصدر منها أكثر من مليوني نسخة، و إذا كان من شخص- إضافة بالطبع إلى فرلنغيتي- قد أعطى لهذه المعلمة الوهج و الانتشار و الشهرة فهو ألن غينسبرغ الذي كان حاملا لفكرة واضحة و هي الخروج بالأدب إلى الشارع، و الدخول به إلى كل الأزقة التي تبدو محرمة و ممنوعة، و جعله لافتةَ مقاومة ضد كل أشكال التسلط. ليس وحده فحسب، بل إن كل كتاب المرحلة كانوا وراءه، أولئك الذين سيجدون أنفسهم تحت يافطة كبيرة كُتب عليها "جيل البيث"، و كان هو بمثابة الرمز و الزعيم. شغل مع رفاقه الصف الأول في حركات الهيبيزم، و نفث الكثير من الأفكار ? الصائبة و الخاطئة أيضا-في الهواء الأمريكي. لم تتولد فكرة "جيل البيث" بين جدارن السيتي لايتس، لكنها نمت و تطورت هناك، فخلال الأربعينيات التقى ألن غينسبرغ بجاك كيرواك و وضعا اسم الجيل، و كان أبرز كتاب هذا الجيل إضافة إليهما هم لوسيان كار ونيل كاسيدي و و ليام براوز و بوب كوفمان و كَاري سنايدر، لكن أول من تحدث إلى غينسبرغ عن أدب القاع و خبرّه بضرورة الخروج بالشعر من الصالونات الفخمة إلى الشارع كان هو غريغوري كورسو الذي سيصدر لاحقا قصيدة "القنبلة" التي كانت احتجاجا على استخدام القنبلة النووية آنذاك. و بين "عواء" ألن غينسبرغ و "قنبلة" غريغوري كورسو و "طريق" جاك كيرواك ستتحدد معالم الجيل، و تتحدد بالتالي ما يريد الوصول إليه. - 2 - في بالو ألطو على بعد نصف ساعة من سان فرانسيسكو التقيتُ صديقا دلّني على رجل كان يعمل في سيتي لايتس نهاية الخمسينيات، اسمه ريتشارد، رجل نشيط و خفيف ظل رغم أنه تجاوز عتبة الثمانين، دعوتُه إلى كأس شاي بإقامة دجيراسي، الضيعة التي قضيتُ فيها شهرا من الصيف الماضي فلبى الدعوة. حين جلس على أريكة بين الكتب تنسم هواء الماضي و أخبرني أنه يعرف عائلة دجيراسي، و حدثني عن ابنته بّاميلا الشاعرة و الرسامة التي انتحرت في عز شبابها، كانت تعشق الحياة في الغابة، و إكراما لذكراها أقام الوالد هذا المنتجع الأدبي، إيمانا منه بأن الأدب و الفن و الجمال أشياء تستمر مع الأجيال المتعاقبة و تستمر معها روح ابنته في الحضور و التطواف هنا بين الأشجار في ليالي كاليفورنيا. سألت ريتشارد عن علاقته بالسيتي لايتس، فخبرني أنه كان يشتغل هناك لينعم في جنة الكتب وفي الآن ذاته ليعدّ دكتوراه في القانون، تحدث بحماس عن تلك المرحلة التي لم يكن جيل "البيث" يشكل فيها ظاهرة أدبية فحسب، بل فلسفة حياة، فلسفة مضادة للنظام العام في البلاد، و لكل مفاهيم الانضباط، فلسفة حملت معها قيما إنسانية كبيرة، و حملت معها أيضا قيم "الانحراف". تحدث عن الشَّعر الطويل غير المصفف لنساء تلك الفترة وعن العباءات التي كان يلبسها شعراء البيث أثناء إلقاء قصائدهم في الشوارع و الأماكن غير الرسمية. عن حياة الهيبيين الذين كان هو نفسه واحدا منهم، عن لقاءات غينسبرغ و كيرواك و برّاوز و كورسو و غيرهم في الطابق الثاني من السيتي لايتس. سألته أيضا عن فرلنغيتي، كنت أعرف أنه لا زال على قيد الحياة، لكنه بعيد على ما يبدو من سان فرانسيسكو، فخبرني أن الرجل يقيم في ضيعة ليس بعيدا عن المكتبة فحسب، بل بعيدا عن الجميع. فرلنغيتي الرجل الذي كان يقود سفينة في الحرب العالمية الثانية جاء إلى الأدب من الحرب ليفتح معارك كبرى في ساحة الكتابة و ليسهم في تأسيس جيل سيظل صداه كبيرا ليس في كاليفورنيا و أمريكا فحسب، بل في الجهات الأربع للعالم. لم يكتب الشعر فحسب، بل القصة و المسرح و النقد، إضافة إلى ولعه بترجمة أعمال أدبية عن اللغتين الفرنسية و الإيطالية، كما أنه كان رساما أيضا. عاد من باريس في الخمسين من القرن الماضي حاملا دكتوراه من جامعة السوربون و استقر في سان فرانسيسكو، حصل على الكثير من الجوائز في أمريكا و خارجها، لكن أجمل ما حازه في حياته -حسب ريتشارد- هو لقب شاعر سان فرانسيسكو الأكثر تقديرا (San Francisco?s Poet Laureate). أول موظف في السيتي لايتس هو شيغ موراواس، و اللافت في الأمر أنه قبل العمل بدون راتب، و من بين أبرز الذين اشتغلوا في المكتبة نانسي بيتيرز التي كانت تعمل في المكتبة العامة للكونغرس، أقنعها فيرلنغيتي فانضمت لفريقه سنة 1971، و تقول عن تلك التجربة: ""عندما التحقت بالسيتي لايتس مع لورنس كان واضحا أن المكان مركز للاحتجاج، إنه مكان للناس ذوي الأفكار الثائرة، إنه للناس الذين أرادوا تغيير المجتمع. عندما بدأت العمل لأول مرة في مكتب التحرير الصغير، طيلة الوقت، كان الناس الذين عرفهم فيرلينغيتي في الستينيات يزورون المكتبة بدون مواعيد محددة، كان العمال يعملون في مطابع تحت الأرض، يحاولون قدر الإمكان توفير البديل لوسائل الإعلام الرئيسة، لقد كانت فترة الاضطهاد وتجسس شرطة الإف بي آي علينا." - 3 - حين تصل إلى منطقة النورد بيتش و تعبر شارع كولمبوس، ستجد نفسك في تلك الزاوية التي تحتلها بناية الأرتيكَز أمام واجهة زجاجية كبيرة على امتداد هائل، حيث تبدو رفوف الكتب بالداخل حاملة آلاف العناوين من القارات الخمس مترجمة إلى الإنجليزية، ستجتاز الباب و الكونتوار و تعرج يمينا عابرا بين عشرات الرفوف لتصعد عبر أدراج الخشب إلى الطابق الثاني حيث كان يجلس شعراء البيث، و ستلمح في الطريق إلى "غرفة الشعر" صورة كبيرة للأب الروحي والت وايتمان و أخرى غير بعيدة عنها للرمز الكبير في تاريخ الشعر الأمريكي إزرا باوند. "غرفة الشعر" يسودها الهدوء، ثمة بعض الكراسي المخصصة للراغبين في قراءة الأعمال الشعرية، فالسيتي لايتس مكتبة شعر بالأساس، ويكفي أن مؤسسها شاعر و أهم الذين ذاعت شهرتهم من هذا المركز كانوا شعراء. يمكن أن تفتح كتابا هناك و تجلس طوال النهار، لن يسألك أحد ماذا تفعل، و لن يطلب منك أن تغلق الكتاب و تعيده إلى مكانه، لن يشهر في وجهك إعلانا يفيد أن تصفح الكتب ممنوع، الشيء الوحيد الممنوع هنا هو إزعاج القراء. في "غرفة الشعر" حيث لا يوجد الشعر وحده فحسب يستوقفك جناح كُتب أعلاه (Beat Literature)، "عواء" بالطبعات القديمة و الجديدة و بأكثر من غلاف، الأمر ذاته بخصوص "على الطريق" لجاك كيرواك، و "الوليمة العارية" لوليام براوز، و "المطر القديم" لبوب كوفمان، و "جزيرة السلاحف" لغاري سنايدر و عدد آخر من العناوين للكتاب الذين نشئوا تحت سماء البيث. الهدوء ذاته يمكنك أن تشعر به في الطابق الأرضي، حيث قطع الآجر الأحمر التي تمنح هذا الفضاء دفئا خاصا، و حيث لا أحد يحرس المكان، الكتب تحرس بعضها. الرفوف العديدة تحمل كتبا صنفت حسب نوعها، ثمة جناح مخصص للأدب الأوربي بكل رموزه، و آخر لأدب الخيال، و ثالث للفن، و رابع للنقد، و أجنحة أخرى للمسرح و علم النفس و السياسة. تسحب كتابا صغيرا فيه القليل من الكلمات، جملة أو جملتان بمثابة تعليق عن صور من الصور العديدة التي تؤرخ لجيل البيث، كل شيء هنا يشير إلى تلك المرحلة، كأن لورانس فرلنغيتي يريد أن يؤكد على أن السيتي لايتس كانت من أجل البيث و ستبقى كذلك، و كأنه رغم عزلته و ابتعاده عن الساحل الشمالي و عن شارع كولمبوس لا زال يعيش هناك في خمسينيات و ستينيات و سبعينيات القرن الماضي رفقة أصدقائه في الأدب و الفكر و الجنون.