كان آرثر رامبو في التاسعة عشرة من عمره حين أنجز، ونشر، مجموعته الشعرية الرئيسة »موسم في الجحيم«، تلك المجموعة التي جعلت منه، على الفور، ليس شاعراً فرنسياً كبيراً فحسب، بل علامة على جيل وزمن بأسرهما، وربما ايضاً خلاصة لثورة فنية واجتماعية عاشتها فرنسا طوال عقود من القرن التاسع عشر. ومع هذا، كانت هذه المجموعة آخر ما عرف من عمل شعري لرامبو، ينشر مجموعاً على ذلك الشكل. فالشاعر لم ينشر بعد ذلك سوى مراسلاته اللاحقة (والتي تكشف حقاً عن لا مبالاته بالأنواع الأدبية كافة خلال السنوات الأخيرة من حياته)، كما نشر تقريراً عن الأوضاع الافريقية كان بعث به من شرق افريقيا الى الجمعية الوطنية الجغرافية. ونحن نعرف بالطبع ان رامبو امضى آخر سنوات حياته بين عدن وأريتريا والحبشة، يغامر ويتاجر بالأسلحة حتى أُصيب بورم في الركبة أقعده في مستشفى باريسي حيث فارق الحياة. إذاً، من هذا نعرف ان »موسم في الجحيم« كان آخر ما نشره رامبو من أشعاره، ما يعني ان عبقريته الشعرية، التي طالما جرى الحديث عنها. واعتبرت مؤسسة للشعر الفرنسي الحديث، على خطى فيكتور هوغو وشارل بودلير، إنما تجلت خلال سنوات مراهقته، لتختفي بعد ذلك. وعلى هذا يبقى »موسم في الجحيم« شاهداً على شعرية رامبو، وحاضراً في الحياة الشعرية حتى طوال القرن العشرين نفسه. والطريف هنا ان رامبو نشر »موسم في الجحيم« على حسابه في بروكسيل لدى ناشر نسي ان يدفع له كلفة النسخ الخمسمئة التي طبعها من المجموعة، فما كان من هذا الناشر إلا ان اخفى الكتب في مكان لم تكتشف فيه إلا في العام 1901، أي بعد عشر سنوات من موت رامبو. بل حتى هاوي الكتب الذي اكتشف وجود المجموعة ظل ساكتاً عنها حتى العام 1914 حين أعلن ذلك للمرة الأولى، مكذباً خرافة كانت تقول إن رامبو نفسه كان هو الذي مزّق نسخ كتابه خلال حياته. المهم ان »موسم في الجحيم« أتى على تلك الشاكلة ليبدأ، في حياة رامبو الشعرية القصيرة، دورة جديدة، بعد دورة أولى كانت تجلّت في قصيدة »المركب الثمل« وفي »قصائد«. ففي الدورة الأولى كان رامبو يكتب ويعيش منعزلاً، أما حين كتب قصائد »موسم في الجحيم«، فإنه بدأ يختلط بالأوساط الأدبية الفنية في باريس، وكان أنهى كتابة »الإشراقات« على شكل تجربة جمالية خالصة، ومن هنا ما يقوله الباحثون من ان »موسم في الجحيم« إنما يبدو في هذا السياق اشبه بالوجه الآخر ل »الإشراقات«، إذ انه ينتمي الى إطار نسبي مرتبط بعض الشيء بالواقع اليومي، معبّراً في الوقت نفسه عن »حياة داخلية ذاتية« و »منظور موضوعي اجتماعي«. صحيح ان رامبو لا يتناول هذا المنظور من زاوية مباشرة، ولكن الأشعار نفسها، إذ كتبت بين العامين 1872 و1873 اللذين كانا عاصفين في باريس كما في حياة رامبو الشخصية، تغلّف بوضوح ما يترتب على ذلك الواقع. وهكذا نجد في القصائد آثار علاقته الشائكة مع فرلين، وآثار رحلته الى لندن برفقة هذا الأخير، ثم لقاءهما معاً في بروكسيل بعد رحلة لندن الثانية، والاتفاق على تخليهما النهائي عن بعضهما بعضاً، والرصاصة الجارحة التي أطلقها فرلين من مسدسه على شاعرنا. والحال ان هذا كله نجده ماثلاً، وفي شكل تباعي، في الأقسام التسعة التي تتألف منها المجموعة، بعد المقدمة: »في الماضي اذا كنت أتذكر جيداً...«، »دم فاسد«، »ليلة الجحيم«، »هذيان - 1- العذراء المجنونة - الزوج الجهنمي«، »هذيان -2- كيمياء الحرف« (وفي هذا القسم أدرج رامبو ستاً من آخر قصائد نثرية كتبها وهي: »أغنية من اعلى برج« و »دمعة« و »جوع« و »الأبدية« و »فكرة جيدة للصباح« و »آه ايتها المواسم، آه ايتها القصور«) ثم »المستحيل« و »الإشراق« و »الصباح« و »وداعاً«... اننا وفق معظم دارسي اعمال رامبو، »لا يمكننا ابداً ان نلخّص غنى هذه القصائد وكثافتها التي يبدو ان الشاعر قد أراد ان يموضع فيها، بشكل فيه شيء من النظام، كل المشاعر والرؤى والأفكار والعواطف التي كانت تشتعل في أعماقه، وذلك عبر عبارات سريعة قصيرة وملاحظات قد تبدو في بعض الأحيان متناقضة، ولكنها تتحرك وتعيش وتترابط بنفس واحد، فيه حتى لحظات الصمت تتخذ قيمتها الإيجابية«. وحسبنا هنا في مجال »التفسير« ان نذكر ان آرثر رامبو، حين سألته امه عن المعنى الذي يتوخى التعبير عنه في هذا الكتاب أجابها: »لقد أردت فيه ان اقول ما اقول فيه، أدبياً وفي كل المعاني«. غير ان هذا الغموض الذي يضيفه جواب رامبو الى أمه، من حول نصوص كان من الواضح انه، ايضاً، اراد منها ان »تعيد الى اللغة صفاءها وبهاءها«، هذا الغموض لم يمنع الباحثين من ان يتلمسوا في المجموعة كلها عدداً من المواضيع الرئيسة التي يبدو وجودها، بالنسبة إليهم واضحاً: مثل »البراءة والذنب«، »نشوة الحس ونشوة الروح«، »السيطرة والخضوع«، »الثورة والعقاب« و »هذا الشعور بأن الكلام وصاحبه يوجدان هنا داخل أوالية، داخل كذبة يرتبط كل شيء فيها بازدواجية لا يمكن الإفلات منها إلا بعيشها حقاً، وباستخدام كل موضوعة من اجل القضاء على ما يجابهها في تلك الازدواجية«. وهذا كله لا يمنع الشاعر في الوقت نفسه من ان »يتمسك بمصادر الذهنية الفنية ومنابعها: تلقائية لا لبس فيها، وحدة ابداع شديدة التناسق«. ولعل هذا كله هو ما جعل الباحثين يرون ان رامبو قد تمكن هنا، وعلى رغم صغر حجم هذه المجموعة، من ان »يدرك جذور الأساطير واستقلالها، وقوة ما لديها من قدرة على ان تكون مخطئة ومدمرة في الوقت نفسه«. وأيضاً يبدو رامبو في بعض صفحات هذه المجموعة وكأنه حقق تلك الرغبة التي كان عبّر عنها في نص سابق له هو »رسالة الرائي«، والتي تكمن في التوصل المنهجي الى معرفة »الروح« نفسها عبر إدراك كل مشوهاتها وانحرافاتها. ومن هنا يشعر القارئ وكأن شاعره يعيش انحرافاً في تجربته نفسها (لكنه انحراف صحيّ بالنسبة إليه) بمقدار ما تزداد معرفته التي يتوخاها. ولعل هذا كله، كان هو ما حدا بدارسي حياة رامبو وأعماله الى القول انه، مهما كان القارئ على علاقة برامبو وأشعاره، ومهما كان من شأن موقفه المدرك لجوهر شاعرية هذه القصائد، لن يكون في وسعه ان يدرك محمولها الحقيقي وقوتها، إلا اذا عرف كيف يموضعها في مكانين في الآن نفسه: في مكان يكشف علاقتها بمنظور الحركة الشعرية الفرنسية من رومنطيقية فيكتور هوغو الى سوريالية الربع الثاني من القرن العشرين، وفي مكان آخر يكشف علاقتها بالذهنية التي كانت تهيمن على رامبو إزاء الأوضاع السياسية في فرنسا خلال ذلك الزمن، ولا سيما كنتيجة للفشل الجارح الذي كان من نصيب اكبر ثورتين فرنسيتين حصلتا خلال القرن التاسع عشر: ثورة 1848 وثورة 1870 (الكومونة)... وكل هذا جعل رامبو يعيش، خلال فترة قصيرة من الزمن، كل الحركات الفنية المتتابعة (من الرومنطيقية الى الطبيعية وصولاً الى حركة »الفن للفن«) ويعبّر عن هذا كله، وعن خلفيته السياسية والتاريخية (وحتى عفوياً) في »موسم في الجحيم«. إذاً، في هذه المجموعة اختتم آرثر رامبو حياته الشعرية، هو الذي كان بدأ باكراً لينجز كل حياته الشعرية بين سن السادسة وسن العشرين، في حمى روح وثّابة تبدو دائماً تواقة الى المطلق والى الثورة. ولد آرثر رامبو في شارل فيل العام 1854، وربّته أمه في شكل حوّله الى فتى شديد القسوة واللؤم، فما كان منه إلا ان دخل سريعاً في صراع مع القيم العائلية، انتقل معه لاحقاً ليصبح صراعاً مع القيم الاجتماعية. وهذا ما جعله يتحمس للكومونة لاحقاً، ثم حين تفشل يعتبر خط حياته متجهاً الى الشرق، قبرص فمصر فالشرق الافريقي، ولكن ليس كشاعر، بل كمغامر، وتاجر سلاح، وهو مات شاباً في السابعة والثلاثين من عمره.