عبَر أرتير رامبو سماء الشعر كنيزك محكوم بسرعات قصوى وأسس لصورة الشاعر كعابر بنعال من ريح. لقد سماه الناقد موريس بلانشو «نبي انعدام الصبر»، حين أسس لشعرية التيه والصمت والحداثة المطلقة. سبعة وثلاثون سنة (1854 1891) كانت كافية بالنسبة إلى رامبو ليقول كل شيء ويكتب القصائد التي شكّلت إسهامه الأساس في ديوان الحداثة الشعرية، وليطلق الشعر ويذهب إلى الحبشة وبعدها إلى عدن ليعمل كتاجر سلاح. لقد تماهى الشعر عند رامبو مع الغرب الأوربي. وحين صمت نهائيا، هاجر المنطقة الجغرافية والرمزية التي انتمى إليها، شعريا وثقافيا، في اتجاه مناطق الآخر، المختلف جذريا. تمثلت إحدى سمات عبقرية أرتير رامبو في قدرته على إيجاز كل تصوراته حول الشعر في بضع كلمات وصيغ تعبيرية هامة ودالة، ترجمت رؤاه الشعرية ضمن ما اصطلح نقاده وعاشقوه ودارسوه على تسميته رسائل الرائي (Le voyant). استدعت هذه الرسائل العديد من التأويلات التي منحت تلك الصيغ التعبيرية إما دلالات ضيقة أو أخرى واسعة تتجاوز منطوقها بكثير. يتعلق الأمر هنا برسالتين مؤرختين بتاريخ 13 و15 ماي 1871، لم يتعرف عليهما القراء إلا في بداية القرن ال20، حيث نشرت الرسالة الطويلة الموجهة، بتاريخ 15 ماي، من طرف رامبو للشاعر بول دوميني في «المجلة الفرنسية الجديدة» في أكتوبر 1912. أما الثانية، الأقصر، فقد نشرت بتاريخ 1928 في «المجلة الأوربية»، بمبادرة من جورج إزامبار، الذي كان صديق رامبو وأستاذه، المرسل إليه. لقد استندت الكثير من نظريات وتيارات الحداثة في الشعر والأدب، عموما، إلى هذين النصين الهامين وتم طرحهما والتأكيد عليها وعلى صيغهما التعبيرية باعتبارها معايير ضرورية، وحتى تيارات ما بعد الحداثة نفسها استندت إلى الرسالتين لتمتاح منهما الكثير من الأفكار والأصداء النظرية المتباينة. كان عمر جورج إزامبار، أستاذ البلاغة الشاب، قريبا جدا من عمر رامبو، حين عين مدرسا في «كوليج شارلفيل»، لذا أثر عميقا في الشاعر ووجه قراءاته وأنقذه، مرارا، من الكوارث التي أقحم نفسه فيها. أما بول دوميني فكان، شيئا ما، أكبر من رامبو، حين أصدر ديوانا شعريا أهداه إلى الشاعر الناشئ. يشير رامبو في رسالته إلى إزامبار إلى بعض الأفكار، مثل سلبيات العادات ومساوئ الشعر الذاتي وضرورة تأسيس شعر موضوعي، مؤسَّس على النذالة والإسراف وبلوغ المجهول، ليصل، في رسالته تلك، إلى تلك الصيغ النظرية المسكوكة التي طرحها، نوعا ما، كبرنامج شعري خاص به، وتبناها النقاد والمحللون في ما بعدُ، كل في الاتجاه الذي يريده. يدحض رامبو، كليا، مبدأ الخضوع للقواعد والأعراف الاجتماعية ويشعر بأن لديه قوة تسمح له بالبقاء على قيد الحياة من خلال لعب دور البهلوانات المستفزة أمام الكل. يؤكد رامبو، أيضا، أن الشاعر هو وحده من يجسد المعاناة، في أقصى صورها شفافية، ويعمل على ابتكار كل ما هو وحشي ومتسخ وسميّ، قولا وفعلا. ما يرنو إليه رامبو، كما يقول لإزامبار، هو خلخلة الأسس الاجتماعية واستغلال شروخها، حتى ولو كان ثمن ذلك المعاناة، التي تؤدي، في نهاية المطاف، إلى اعتراف المجتمع بعبقريته النابعة من المجازفة. يركز رامبو، في برنامجه الشعري، على أن يصير نذلا ما أمكنه ذلك، لأن النذل هنا هو الشخص الثوري. لذا يستعيد الشاعر هذه الكلمة، للسخرية منها، لكن طموحه الأكبر، كما يعبر عن ذلك في رسالته، هو أن يصير رائيا. «أريد أن أكون شاعرا وأعمل لأصير رائيا»، يقول رامبو. لا علاقة للشعر، من وجهة نظره، بالإلهام، بل بالإرادة البانية، التي يجب العمل من أجلها، باستمرار. إن الشعر، حسب رامبو، مغامرة تفترض الاشتغال على الذات وضدها، في الوقت ذاته. إن الشاعر الرائي هو من يرى غير ما يراه الأحياء العاديون، عبر تفكيكه معالمَ الحياة الاجتماعية، الكائنة سلفا، معبّرا عن فرادته وتميزه. هنا بالذات نصل إلى القول الآخر، الأساس: «يتعلق الأمر ببلوغ المجهول، عبر تشويش الحواس كلها»، يقول رامبو. ينضاف «المجهول» إلى «الرأي» و«الرؤية»، التي يرى الشاعر صعوبة شرحها لصديقه، مؤكدا أن الموهبة الشعرية وحدها لا تكفي وأنه من الضروري الاضطلاع بأشكال هائلة من المعاناة، حتى يلد المرء شاعرا ويعترف بنفسه كشاعر. «من الخطأ القول: أنا أفكر، إذ يتوجب القول، إنهم يفكرونني، واسمح لي بهذا التلاعب بالكلمات»، يقول رامبو. لم يعد المعروف والمألوف الأرض الشعرية التي يحيى فوقها رامبو، لذا يُحدث قطيعة جذرية معها. يجب ألا ننسى أن اشتغال رامبو على المجهول يحيل، ضمنيا، إلى اشتغال فرويد عليه في نهاية القرن ال19، في إطار التحليل النفسي. تكمن أصالة رامبو في تغييره: «تشويش الحواس كلها»، الذي يشير إلى المعاناة، ذات المرجعية المسيحية، وإلى القوة الجوانية، التي من خلالها يؤكد الشاعر هويته. إن الحصة الملعونة التي يتلقاها الشاعر لا يمكنه الحصول عليها إلا عبر هذا التشويش. يشير رامبو، في آخر سطور ديوانه «فصل في الجحيم»، إلى ضرورة امتلاك الحقيقة، روحا وجسدا. إنها، بلغة دولوز وغاتاري، الماكنة الراغبة ضد الماكنة الاجتماعية. نصل هنا إلى القول الآخر، الهام، في رسالته إلى إزامبار: «الأنا آخر (Je suis un autre). إنه القول الذي توقف عنده الكثير من النقاد والفلاسفة شرحا وتأويلا، والذي يشير، بعيدا عن البرنامج الشعري، إلى انقلاب فكري على محورية الذات الديكارتية المفكرة، التي تقول: «أنا أفكر، إذن، أنا موجود»... تتحدد الأنا عند رامبو انطلاقا من غيريتها. إن «الأنا» هي بالنسبة إلى الخشب كالآخر، الذي صار إليه، حين تحول إلى كمان. إن الشعر الموضوعي الذي يدعو إليه رامبو يفترض الذهاب نحو الآخر، ليمتاح منه معالم قوله الشعري، الآخر، الذي هو داخل كل واحد منا الجانب المجهول والملعون، الذي يميز الإنسان. إن همّ رامبو الأساس هو عزل الذاتية وإقصاؤها كليا. مع رامبو، يسرق الشاعر النار، فعلا، لكنه يفتض، أيضا، الذاتية التي انتهى زمنها، متحديا أولئك الذين يتحدثون عن أشياء لا يفهمونها. تجسد الرسالة التي بعثها رامبو إلى صديقه وأستاذه جورج إزامبار كل السمات التي بنى عليها تصوره للكتابة الشعرية، أي تجاوز الذات لصالح شعر موضوعي منتزع من عنف الحواس ومفتوح، بالضرورة، على دلالات جديدة. كانت هذه الرسالة شبيهة، إلى حد ما، بنداء استغاثة، إذ أنهاها رامبو قائلا لمراسله: «أجِبني»، وكأنه على وشك الغرق في المجهول، ويحتاج إلى منقذ متواطئ معه. يتحدث رامبو، في الرسالة الثانية، الموجهة لبول دوميني، عن مستقبل الشعر. لا يتبنى في هذه الرسالة هيأة الأستاذ، كما فعل في رسالته السابقة، لأنه يتحدث كشاعر إلى شاعر آخر، موضحا الأفكار الحدسية التي ذكرها لجورج إزامبار ومحددا صوره للشاعر الرائي. يتحدث رامبو، نثرا، عن الفترة الشعرية الأصيلة من الشعر الإغريقي إلى الرومانسية، طارحا سؤال العلاقة بين الجمال والأخلاق، واضعا تخطيطا أوليا لبورتري الشاعر كعالم أو عارف أولي وكسارق متعطش للتقدم، قائلا: «من حق الجدد رفض الأسلاف: إننا في بيتنا ونملك الوقت كله». كل هذا الماضي الشعري لا يستقيم، في نظر رامبو، لذا يستعيد الجمل الحاسمة التي ذكرها في رسالته الأولى بتاريخ 13 ماي مثل «الأنا الآخر»، قائلا: «أشهد انبثاقا فكريا: أراه، أنصت إليه، أرمي بسهم، تتململ السمفونية في الأعماق أو تقفز، دفعة واحدة، إلى الواجهة». إن الشاعر هو من يتأمل إبداعه ويجهد نفسه لفهم مصدره. يستمر رامبو في توظيف استعارة الخشب، الذي تحول إلى كمان، عبر النحاس الذي تحول إلى آلة نفخ موسيقية لا يمتاح الإبداع كنهه، حسب رامبو، إلا من تلك الأعماق السحيقة، اللا واعية، التي انكب التحليل النفسي على دراستها وتحديد آلياتها، لكن القفز دفعة واحدة إلى الواجهة يعني أن النزول إلى أعماق الغرائز ليس ضرورة حتمية، لأن الآخر، المقابل للذات، بإمكانه الإقلاع بسرعة، تماما كما الصدف المرحة أو الكتابة الشعرية التلقائية، التي مارسها السرياليون، والتي تنفصل عن ضرورات العقل والأخلاق، للتعبير مباشرة. يسخر رامبو من «الأغبياء القدامى»، الذين لم يعثروا سوى على المدلول الزائف للذات (ربما كان ديكارت منهم؟) والذين جمّدوا كل قدرة على التفكير بذكائهم الأعور. ينتقد رامبو، أيضا، الكتاب والشعراء الذين اختزلوا أنفسهم إلى مجرد موظفين صغار، لا يسائلون اشتغالهم وعملهم المبدع، ويعيد الاعتبار إلى الشعراء الإغريق، الذين كان همُّهم الأساس جعل «القصيدة تفرض إيقاعها على الفعل»، وهي طريقة مثلي لعدم الانفصال عن الواقع والحفاظ على التبادلات الجدلية معه. كما نعثر عليها في مسرحيات سوفوكل. لقد اشتغل هؤلاء انطلاقا من ذكاء كوني وأسسوا لاشتغال العقل داخل الإبداع وتلاشى كل شيء بعدهم.. لا يكتفي رامبو بإعادة الاعتبار إلى النموذج الإغريقي ضد النماذج اللاتينية والفرنسية، بل يتجاوزه، مشددا على صورة الشاعر الحديث، قائلا: «لن يفرض الشعر إيقاعه على الفعل، بل سيكون سابقا عليه»، وهو ما يعني أن الكتابة لن تصير تابعة للواقع المعيش من طرف الكاتب، بل ستستبق كل تجربة معيشة، إما عبر إعلانها أو استدعائها، جوانيا. تنتهي الرسالة إلى بول دوميني باستحضار الكلمتين اللتين استعملهما سابقا، وهي «الرائي» و«المجهول»، بشكل أكثر دقة، مركزا على الطريقة التي يصير بها الشاعر «رائيا»، وهي الغوص في المجهول، لذا فإن «الدراسة الأولى التي ينجزها الإنسان الذي يريد أن يكون شاعرا هي معرفة ذاته معرفة تامة». يجب أن يكف الشاعر عن نحت تمثال لذاته والوقوف فوق قاعدة هشة وأن يصير المريضَ الكبير والمجرم الكبيرَ والملعون الكبير، حتى يبلغ المجهول ويكتشف الوحوش الكامنة في أعماقه. إن وجه المبدع لا يجب أن يكون نظيفا أو أملس، بل أن تطفح كوامنه الملغزة والمتوحشة على الملامح مباشرة. إن الشاعر هو من سيحدد كمية المجهول، المستيقظ، حتما، في جوانية عصره والروح الكونية التي تسوده. بعد الرسائل والأعمال الشعرية، ترك رامبو كل شيء وراءه وذهب بعيدا. ترك الحداثة الشعرية والغرب. يرى أدونيس، الشاعر السوري، أن شعر رامبو غريب عن الشعر الفرنسي وأنه ينتمي، سلاليا، إلى الجنون الصوفي، عبر الرفض الحاسم لكل العناصر الموروثة عن الثقافة الإغريقية والثقافة اليهودية المسيحية، ورفض الغرب، كله، ككيان ثقافي. يرنو رامبو، حسب أدونيس، إلى الالتحاق بالأفق الشرقي، الصوفي، من خلال نفيه قيم الغرب. يمنح أدونيس رسائل الرائي أهمية قصوى، حين يعتبر أن تشويش الحواس كلها هو التحرر من أسْر الصورة الضيقة التي لا حياة فيها، أما «الأنا /الآخر» فقد اعتبرها أدونيس دالة على الوجود الذي يمكن، على الصعيد الذاتي، أن يكون شيئا، وعلى الصعيد الموضوعي، النقيض المطلق لهذا الشيء... هنا، بالذات، تتجسد التجربة الجوانية أو الصوفية التي تروم امتلاك المتعذر امتلاكه. لقد تخلى رامبو، الشاعر الرائي، عن الغرب، انطلاقا من الأداة الشعرية التي اختارها، ليهاجر نحو ممارسات الشرق، السرية، ويسحر الشعوب الأولى، تماما كما شاعر راء يشتغل، حتى عبر الصمت، على كلامه الأساس...