خلال مساءات الصيف، سأنصرف في الطرقات، ملدوغا بالزرع، وماشيا على ألأعشاب الخضراء، حالما، ومتحسسا بالرطوبة على قدمي، سأترك للهواء أن يسبح من حول رأس العارية. ولن أتكلم، ولن أفكر في أي شيء، ولكن الحب اللا متناهي، سيتصاعد روحي، ولسوف أمضي، بعيدا كل البعد، مثل أي غجري، عبر الطبيعة، سعيدا، كما لو كنت، مع امرأة.
عن السيرة الذاتية للشاعر ولد الشاعر الفرنسي " Arthur Rimbaud " " آرثور رامبو" في "شارل ڤيل " سنة 1854. و نشأ في وسط أسرة متوسطة الدخل. حيث أن أمه" Vitalie Cuif " ، " ڤيتالي كويف " كانت تنحدر من عائلة مزارعة، في حين كان زوجها، ضابطا في الجيش. هذا الزوج الذي كان لا يزور بيته إلا نادرا. وهذا الذي سيهاجر بيته نهائيا و ابنه رامبو، لم يتجاوز سن الرابعة بعد. والصورة الوحيدة التي احتفظ بها الطفل عن أبيه، كانت تلك التي تدور رحى ضجتها، بينه وأمه. وبالرغم من هذه الحياة الأسرية المضطربة، فإن رامبو، كان تلميذا مواظبا وناجحا، بل ومتفوقا في حياته المدرسية. و لنا شهادة هامة بهذا الخصوص، شهادة أستاذه "Georges Izambard"جورج إيزمبار، الذي كان يدرسه مادة البلاغة، حين التحاقه بالثانوية سنة 1870، والذي قال عنه :" لقد كان نوعا ما، قلقا، إلا أنه كان عاقلا، هادئا، وشديد النظافة في ملبسه، كما في ترتيب أدواته المدرسية". وهذا الأستاذ الصديق، إذا صح التعبير، سيلعب دورا وجيها، في حياة الشاعر. بل دور المرشد الأول، في توجيه رامبو نحو فضاء الشعر. فلا اندهاش إذن، إذا علمنا بأن شاعرنا، كان يحتل المرتبة الأولى في ثانويته. وحين اندلعت الحرب بين فرنسا وبروسيا، لم يشعر الشاعر رامبو، بأي قلق وطني. لم نلمس لديه في هذه المرحلة، ذاك الحماس الوطني، الذي كنا ننتظره منه. بل رؤية إنسانية ستتجلى بوضوح في أشعاره المستقبلية. وفي هذه المرحلة العصية بالذات، تجلت له سبل الطريق. أي أصبحت حركة المشي لديه، بداية لرحلات لا نهاية لها، رافقته لغاية مماته. وهذا ما يفسر مقولة الشاعر "فرلين" الذي وصفه ب: " شاعر الأحذية الطائرة". ونضيف حدث انتفاضة " كُمونة باريس " في سنة 1871 التي كانت تطرح نفسها، كبديل سياسي ومؤسساتي، للإمبراطورية المنحلة. فلقد علق رامبو آماله، على هذه الحادثة التاريخية، في انتظار مستقبل إنساني أفضل. -1- الرائي أو الشواف. في هذه المرحلة الانتقالية العصية، حرر " رامبو " رسالتين لأستاذه "جورج إيزمبار"، يشرح له فيهما، تجربته الشعرية الحديثة. وبالفعل كشف له فيهما، عن منهجيته الجديدة، حيث فصل بوضوح وبشكل دقيق، أهدافه الشعرية المستقبلية. ولسوف نعرض لهاتين الرسالتين بتحليل، هو في غاية الأهمية. وفي هذا السياق التّراسُلي، يقول رامبو عن نفسه بأنه " سارق نار " لأن الهدف الشاعري لهذه الرؤيا، هو ما سماه وأدرجه في مذكرته،قائلا بخصوصه:" هدفي الشعري هو الخلل المُعَقْلَن لجميع الحواس". بحيث أن الشاعر سيصبح وهو في أشد الحاجة لكل عقيدته الشعرية، وكل قواه الما-فوق بشرية. بحيث، أنه سيصبح، من بين جميع المرضى، المريض الأكبر والجريح الأكبر والمنبوذ الأكبر، بل المتعالي على عالم البشر. وفي هذه المرحلة، المتطلعة نحو البحث عن أفق مجهول، سنستمع إلى صوته، قادما، من أعماق، هذا الوسط الإجتماعي" البشع". وسيروي لنا فيما بعد من وحي قصيدته " كيمياء الفعل" عن تجربته هذه التي كانت رؤيتها الاجتماعية هي بالفعل رؤية إنسانية مستقبلية. ونقتبس بهذا الخصوص أول مقطع له:" " لي أنا، تاريخ إحدى حماقاتي. فمنذ مدة طويلة، وأنا أفتخر مدعيا، بامتلاكي لكل المناظر الممكنة. وواجدا بأن شهرة الفن، كما شهرة الشعر المعاصر، كلها شهرة بخيسة لا قيمة لها". رامبو وڤرلين لقد كان رامبو، قد وجه مرارا، للشاعر الباريسي (ڤرلين) بضعة رسائل، يسأله فيها عن وجهة نظره، في قصائده التي بعث له بها. وظل ينتظر وينتظر، لغاية ما جاءه البريد ذات يوم، حاملا له ذاك الرد الجميل، في هندام فقرة شاعرية، جاءت في منتهى الحرارة:" تعالي يا روحي الكبيرة، إننا نناديك، إننا ننتظرك !". وطار الشاعر إلى باريس، وحصل اللقاء، وتولدت عنه، تلك العلاقة الشاعرية الشائكة والمر طعمها، بين الشاعرين، تلك التي ستنتهي أواصرها في سنة 1873. وفي هذه المرحلة بالذات، حيث كان الشاعر (رامبو)، في العشرين من عمره، كان بصدد إنهاء عمله الشعري " فصل في الجحيم"، هذا العمل الشاعري الضخم، الذي كان قد ابتدأه في حالة اضطراب، والذي أنهاه بنفَس ما-ورائي عنيف. ثم حرر من بعد ذلك، عمله الشعري "الإستشراقات" كآخر عمل. هذا العمل، الذي ضمنه الشاعر، آخر أنفاسه الشعرية. ثم جاءت بعده مباشرة، وفاة الشاعر الشاعرية، حيث خرج من تجربة الشعر والأدبيات الشعرية بصفة نهائية، وهو لم يتجاوز سن العشرين. ومن جديد عادت الطريق تمشي أمامه: (شتوتغارت)، (إيطاليا). وفي السنة التي تلتها، نراه من جديد، في (بتاڤيا)، (قبرص). ومن بعدها نحو أفريقيا: مصر وأثيوبيا، حيث صار مشتغلا، كمهرب أسلحة وسلع محلية وتوابل، لغاية سنة 1891، حيث أصيب بعاهة السرطان، في ركبته اليمنى، نقل بعدها إلى مستشفى (مرسيليا) بفرنسا، وهناك أسلم الروح وهو يهذي قائلا لأخته:" قل لي متى سيحملونني إلى الباخرة لكي لا أتأخر عن موعد سفري.. ؟! -2- تجربة رامبو الشعرية إذا كنا نعلم من جهة، بأن مجمل قصائد (رامبو)، قد نشرت بعد رحيله لإفريقيا، أو بعد وفاته، فإننا نتوفر، من جهة أخرى، على أربعة وأربعين قصيدة، تلك التي يتألف منها ديوانه. وبإمكاننا أن نضيف عليها ثمانية وعشرين قصيدة، نشرها له صديقه (بول ڤرلين)، بالاعتماد على دفاتر مخطوطة بيد الشاعر. على كل حال، فإنه يصبح بإمكاننا أن نصنف مراحل تجربته كالتالي: من قصائد الطفولة أو القصائد التي تليها، لغاية رسائل الرائي "الشوّاف" ف"فصل في الجيحم" و"الإستشراقات". إلا أن هذا الترتيب، قد لا يكون دقيقا ولا مفيدا، بسبب أن الشاعر لم يكن يذيل قصائده بتاريخ تحريرها. والأهم من كل هذا، هو التطرق لكتابات الشاعر، عبر "التيمات" التي تطرق إليها وعالجها. وبعبارة أدق،إن معالجة المواضيع، التي كانت تتخلل كتاباته، بإمكانها أن تمنحها صورة أكثر دقة عن تجربته الشعرية. وهذه المواضيع تتوزع بالشكل التالي: -أ- المرأة
ما كتبه رامبو عن المرأة، يمثل نوعا ما، ثلث إنتاجه الشعري. وباستثناء، أمه وأخته، فالمرأة كمخلوق جمالي، لم تحظ عنده، بالمقام العذري الذي كانت تستحق عرشه. ومما يدهشنا حقا، في شاعرية رامبو، هو تلك المواقف المتسمة بالبرودة والاستهجان، تجاه المرأة، كما نلاحظه في هذا المقطع الشعري التالي: ذات مساء، أجلست الجمال على ركبتي، ووجدته مرّا، فلعنته. ونصادف هذا التحجر، بل هذا التصلب، في عدد كثير من قصائده، إن لم نقل، بل في كل قصائده الغرامية. ويعد رامبو من هذه الناحية، الشاعر الوحيد، في التراث الشعري الفرنسي، إن لم نقل الأوروبي بإطلاق، الذي ليس له ولو قصيدة حب واحدة، تعكس عواطف نبيلة وفاضلة. وعدم مبالاته تجاه المرأة، تتحول لديه، شيئا، فشيئا، إلى حالتي حقد واحتقار، حيث يصبح الشبق الجنسي، ممزوجا بالابتذال، الصورة الطاغية على كل صوره الإحساسية. ومن هنا ستبتدئ صورة اختراق حرمة المقدس، في شعر رامبو، ومن قصيدته حبيباتي الصغيرات، نقرأ: آه مِنْكنَّ حَبيباتي الصّغيرات، آه.. كَم أَحْتَقِرُكُنّ ! واحْجِبْنَ بِكَثافَة آلامَ، حَلَماتِكُنّ القَبيحات. ومن المثير للانتباه، في هذه النبرة الخطابية، أنها تبدو في مظهرها الخارجي، وكأنها تبتعد عن الاحتقار وتتعالى عليه، في حين تتخذ صبغة عتاب، تجاوزا لسور الغضب. وممكن في هذا السياق، أن نضع صورة "رامبو"، الذي يعتبر بحق، الوريث الشرعي للشاعر (شارل بودلير)، شريكه في الحقد على المرأة والتلاعب بها. فالقصيدة "بكت النجمة وردا"، التي جاءت عند (رانمو) كوصف غنائي للمرأة، وردت في أسلوب بإمكاننا اعتباره، تمرينا على الموضوع وليس إحياء له. وتعكس القصيدتان التاليتين: "محلوما من أجل الخريف" و "الأمسية الأولى" نوعا ما، إحساسا بحالة تواجد مريح في فضاء شاعري أنثوي وإن كانت القصيدة الثانية لا تخلو من ورود "ذات رؤوس مينرڤية" هذه الصورة التي تسلبها أجمل ما لديها من الحنان الشاعري. أما بخصوص "الآنسة ذات الأهواء الخفيفة"، فالغياب إذا صح التعبير، أو الاستسلام، يبدو المظهر الطاغي للنص الشعري. وكأننا بالشاعر، قد تخلى فجأة عن احتقار المرأة، كيما يرفع من مقامها. إلا أن "فينوس أندرو" ونوعا ما "المشوهين"، بالإضافة إلى " توزيعات نينا"، لا تترك لنا أي مجال للتشكيك فيما ذهبنا إليه بخصوص هذا الاحتقار. المجتمع والسياسة لن نتوقف كثيرا على هذا الجانب، بقدر ما سنسلط الأضواء على الوجوه الاجتماعية التي طغت عليه، إبان هذه الفترة التاريخية الانتقالية من القرن التاسع عشر، إلى القرن العشرين. ونخص بالذكر الحوادث التي لعبت دورا هاما في تصور الشاعر رامبو لطبقته الاجتماعية. فمن قصائده الأولى نقف على قيسارية كاملة، من الصور الانطباعية للفقراء: هؤلاء الذين يقول عنهم الشاعر " سعداء ومنبوذين مثل كلاب ضالة"، " الفقراء في الكنيسة"، "الحداد" بالإضافة إلى صور نسائية متميزة ذوات "ابتسامات خضراء" و"أنامل صفراء" وصور متهكمة كاريكاتورية للطبقة البيروقراطية " رجال-كراسي" " البورجوازية المنتفخة والمتثاقلة" وأخيرا، صورة رائعة من قصيدته "المندهشين"، عن أطفال فقراء، حظهم من الوجود، البؤس والفقر. وهو يقدم لنا هذه الصور ويعرضها علينا بإخلاص، مشحونة بإحساس شخصي، كشاهد عيان، وكسياسي ملتزم. أما بخصوص الممثلين للنظام، فهو يمثلهم في حلة تليق بهم: "الجمارك"، و "لا ليس هذا أنتم القدماء" و "الراهب الراكع". وأخيرا، القادة "سعار قيصر"، هذه القصيدة، التي يقصد بها، "نابليون الثالث"، بشكل خاص والطغاة بشكل عام. وفي هذا العرض الفلكلوري للصور الاجتماعية، يسوق صورا مدهشة، عن " ليالي الصخب الباريسية. تم القسم الأول ويليه القسم الثاني وملحق للمراجع في النشرة القادمة.