وليد كبير: نظام العسكر غاضب على ولد الغزواني بعدما رفض الانخراط في مخطط لعزل المغرب عن دول الجوار    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا.. توجيه اتهامات بالقتل للمشتبه به في هجوم سوق عيد الميلاد    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة        مقاييس الأمطار بالمغرب في 24 ساعة    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    رشاوى الكفاءة المهنية تدفع التنسيق النقابي الخماسي بجماعة الرباط إلى المطالبة بفتح تحقيق    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    العرائش: الأمين العام لحزب الاستقلال في زيارة عزاء لبيت "العتابي" عضو المجلس الوطني للحزب    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود جلالة الملك من أجل الاستقرار الإقليمي    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألوسوس بيرتران Aloysius Bertrand ( 1807 - 1841 ).. : شيطان الليل (فانتازيات ، على طريقه رامبرانت وكالو )
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 26 - 06 - 2009


[مقدمة أولى]
يا صديقي ! أما زلت تذكر ونحن في طريقنا إلى كولون (Cologne)،
ذات يوم أحد، في ديجون ( Dijon) ، أي في قلب منطقة بورغون (Bourgogne)،
كيف كنا نمشي ونحن مأخوذون بالنواقيس ، وبالبوابات، وبالأبراج.
وبالدور العتيقة ، تلك التي في الباحات الخلفية؟
سانت - بوف
«التعازي»
برج قوطي
وسهم قوطي كذلك ،
في سماء صافية للغاية.
هنالك، ديجون ( Dijon).
دواليها المتكئة ، في مسرة على عروشها
ليس لها البتة نظير.
نواقيسها ، قديما
كانت تعد بالعشرات.
هنالك، حيث أكثر من نحت وأكثر من رسم
لأكثر من مكيال.
هنالك ، حيث أكثر من باب فخم
ينفتح كمروحة.
ديجون ( Dijon)، ها هو شعارك القديم: Moult te tarde
وها هو عودي الأفطس
يشدو لصلصة الخردل
وللجامور، جامورك.
أحب ديجون (Dijon) مثلما يحب الطفل مربيته التي رشف حليبها، ومثلما يحب الشاعر الفتاة التي منحها قلبه. الطفولة والشعر ! هذه عابرة بينما الآخر خادع. الطفولة فراشة تستعجل حرق أجنحتها البيضاء بلظى الشباب، أما الشعر فما أشبهه بشجرة اللوز: زهور فواحة ولكن ثمار مرة.
ذات يوم كنت جالسا لوحدي في حديقة الأركبوز [L?Arquebuse = بندقية قديمة الطراز] هكذا على اسم السلاح الذي غالبا ما كان، في ما مضى ، يشير إلى حذق هؤلاء الرماة الذين كانوا يتمرنون على التصويب، وذلك في اتجاه ببغاوات خشبية. ثمة وأنا جالس، في سكون، فوق أحد المقاعد كم كنت شبيها بذلك التمثال الذي ينتصب في حصن بازير (Bazire) . أقصد هذه التحفة التي أنجزها النحات سيفالي (Sevallé) والرسام غييو (Guillot) والتي تمثل قسا يقرأ وهو جالس . لا شيء كان ينقص هندامه . من بعيد كما لو كان شخصا من لحم ودم . ومن قريب : جبص ليس غير.
سعال أحد المتنزهين شتت ثول أحلامي. لقد كان شيطانا بئيسا ، لا يوحي مظهره الخارجي سوى بالبؤس والألم. شخص مثل هذا سبق أن لفت انتباهي ، في الحديقة ذاتها ب :
* سترته الرثة والتي تصل أزرارها إلى ذقنه،
* قبعته المائلة في كل اتجاه والتي ما حدث قط أن نفضتها أي فرشاة،
* شعره الذي في طول صفصافة والممشوط كعليق.
* يديه النحيلتين و اللتين تبدوان وكأنهما كمشتان من أشلاء القتلى .
* هيئة ماكرة، مراوغة، سقيمة، وتتخللها لحية أشبه ما تكون بلحية المسيح.
تخميناتي هذه جعلتني أشفق عليه، وأسلكه في زمرة هؤلاء الفنانين الذين لا يجيدون العزف على الكمنجة ، وفي عدادهم رسامو بورتريهات يدفعهم جوع مدقع وعطش لا يرتوي إلى أن يضربوا في الآفاق وهم يقتفون خطوات اليهودي - التائه .
كنا حينها اثنين فوق المقعد. جاري كان يتصفح كتابا سقطت ، دون أن يلحظ شيئا، زهرة يابسة من بين ثناياه . أنا التقطت الزهرة، وأعدتها إليه. أما هو ، أما الشخص الغريب فقد أخذها وهو يحييني إلى شفتيه الذابلتين ، ثم ما لبث أن وضعها بين ثنايا الكتاب الغامض .
غامرت وقلت له : هذه الزهرة ، بدون شك ، ترمز إلى حب ما ، حب جميل ولكن مرَّ وانقضى . واأسفاه! كلنا مررنا في يوم ما بتجربة من هذا القبيل، وهذا بالذات هو ما جعل أملنا يخيب في المستقبل.
- هل أنت شاعر؟ هكذا أجابني وهو يبتسم.
إذن انعقد خيط الكلام بيننا . والآن حول ماذا سوف يدور؟
- شاعر ، أجل إذا كان البحث عن الفن هو ما يعنيه أن يكون المرء شاعرا.
- أنت إذن بحثث عن الفن! ولكن هل عثرت عليه؟
- المهم ألا يكون الفن سرابا.
- سراب ! أنا أيضا بحثت عنه. هذا ما قاله لي وهو يرفع صوته في حماسة النبهاء ونشوة المنتصرين.
التمست منه أن يدلني عل النظاراتي الذي يدين له باكتشافه ذاك، وذلك بالنظر إلى أن الفن صعب المنال. إنه أشبه ما يكون - بالنسبة لي - بإبرة في كومة قش.
قال لي : كنت قد انتهيت إلى البحث في الفن مثلما كان يبحث معتنقو نحلة روزكروا ( Rose - croix) ، في القرون الوسطى، عن الحجر الفلسفي. الفن هو هذا الحجر الفلسفي الذي يعود إلى القرن XIV .
بادئ ذي بدء كان ثمة سؤال بعينه هو الذي حفز نزعتي المدرسية هذه. لقد تساءلت مع نفسي: ما هو الفن؟ الفن هو علم الشاعر. تعريف مثل هذا لا يضاهيه في وضوحه سوى وضوح اللؤلؤة القابعة في أكثر المياه صفاء.
ولكن، ما هي عناصر الفن؟ سؤال آخر ترددت عدة شهور قبل أن أجيب عنه. ذات مساء، قلبت على ضوء مصباح شحيح رأسا على عقب رفوف متجر كتب قديمة ، وإذا بي أنفض الغبار عن كتيب محبّر بلغة باروكية ، غير مقروءة . عنوانه موشى بصورة ثعبان مجنح . وفوق العنوان، على شريط صغير هاتان الكلمتان: Gott - Liebe. اقتنيت بقليل من النقود هذا الكتيب الثمين. [ وانصرفت]. صعدت إلى غرفتي. وثمة - فجأة، وأنا أتصفح بفضول محتويات الكتاب الغامض، أمام النافذة المغمورة بضوء القمر- أحسست وكأن أصبع الإله يداعب ملمس الأرغن الكوني. وإذا بالفراشات المزغننة تنفلت من بين أكمام الزهور التي تنتشي شفاهها تحت قبلات الليل . ذرعت النافذة . ونظرت إلى الأسفل ، ويا للمفاجأة! هل أنا أحلم؟ رصيف مقهى لم يخطر قط ببالي وقد انبعثت من أشجار البرتقال التي على امتداده نسمات لذيذة . فتاة في لباس أبيض تعزف على آلة الهارب. وشيخ طاعن في السن، يصلي وهو جاثم على ركبتيه. ثم سقط الكتاب من يدي.
نزلت عند أصحاب المقهى . الشيخ الطاعن في السن كان كاهنا ينتمي إلى التيار الديني الذي مسه الإصلاح والذي استبدل بوطنه البارد : تورينغ (Thuring ) المنفى الدافئ لبلادنا : لابورغون (Bourgogne). العازفة، ابنته الوحيدة: شقراء، ذات جمال شفيف ، جمال السابعة عشر ربيعا وقد وخطه ذبول أليم، بينما الكتاب الذي نزلت لاسترجاعه كان كتاب صلوات ألمانيا موجها للاستعمال في الكنائس ذات الطقوس اللوثرية، وفي صفوف حملة السلاح التابعين لأحد أمراء أنهالت كوتن (Anhalt-Coëthan).
أجل، ياسيدي ! دعنا من أي رماد لم تنطفئ جذوته بعد. إن إليزابيت (Elisabeth) ليست سوى بياتريس (Béatrice ) وقد ارتدت فستانها اللازوردي . إنها ميتة، ياسيدي ؟ أجل ميتة ؟ ها هو ذا كتاب الصلوات الذي كانت تستودعه ابتهالاتها الخجول. وهاهي ذي الوردة التي فاحت بين أكمامها روحها البريئة .
يا للزهرة اليابسة التي تشبهها ! ياللكتاب المغلق الذي يشبه لوحها المحفوظ . وياللذخائر المباركة التي سوف تتذكرها أبد الدهر والدموع تنهمر من عينيها . آنذاك ، حين يغلق إسرافيل شاهدة قبري سوف أتخطى جميع العوالم إلى أن أصل إلى العذراء المحبوبة. لا لشيء ، فقط كي أجلس اخيرا بالقرب منها، تحت نظرات الرب.
- سألته : والفن؟
- أجابني: إن ما هو إحساس في الفن كان بالنسبة لي مغامرة أليمة. لقد أحببت. ولقد صليت. Gott - Liebe ؟ ثم إن ما هو فكرة في الفن لطالما سفه ظنوني . لقد ظننت أنني سوف أعثر على عنصر إضافي في الطبيعة، وهكذا عكفت على دراسة الطبيعة.
كنت أخرج في الصباح من بيتي ولا أعود إليه إلا في المساء. تارات، متكئا على درابزين حصن خرب، كنت خلال ساعات عديدة أحب أن أتنفس الرائحة البرية والنفاذة لشجرة المنثور الشتوي وقد زركشت بأغصانها الذهبية فستان شجرة اللبلاب في قلعة لويس XI الإقطاعية والآيلة للسقوط . كنت أحب أن أرى :
* تلاقح مشهد هادئ لهبة ريح، وخيط شمس، وزخة مطر.
* عصفورَ التين والطيورَ الصغيرة التي على الأسلاك الشائكة وهي تتلاعب في المنبت المترامي الأطراف بالظلال والأضواء.
* طيور السمان وهي تنحدر من رؤوس الجبال.
* قطافَ الدالية التي تحول بعلوها وكثافتها دون رؤية أيل الخرافة .
* الغربانَ وهي تنقض من جميع أنحاء السماء، في أسراب وانية ، على الهيكل العظمي لحصان تخلى عنه السلاخ في وهدة مخضوضرة.
كنت أحب كذلك أن أصيخ السمع إلى غاسلات الثياب وهن يضعن مدقاتهن المرحة على أطراف مسيل سوزون (Suzon) ، أيضا إلى الطفل الذي كان يؤدي لحنا حزينا وهو يدير تحت السور عجلة صانع الحبال.
تارات أخرى كنت أشق أمام أحلامي طريقا كله رغوة ورذاذ ، صمت وطمأنينة. هنالك، بعيدا عن المدينة.
كم مرة جردت أشجار تلك الأدغال التي يتردد عليها كل من هب ودب ، أدغال نافورة جوفانس (Jouvence) وكنيسة نوتردام ديطان (Notre - Dame d?Etang ) من فواكهها الحمراء والحامضة . نافورة أرواح وجنيات هذه . وكنيسة شيطان تلك.
كم مرة التقطت الحلزون المتحجر والمرجان المجوف من فوق شطوط سان جوزيف (Saint Joseph) العالية والصخرية والمسننة بفعل الرعد.
كم مرة اصطدت الإربيان من معابر ماء تي (Tilles) الصاخبة . ثمة ، بين نباتات البقول التي يأوي إليها السمندل والنيلوفرات اللواتي تتثاءب زهراتهن من فرط الكسل!
كم مرة أمعنت النظر في ثعابين الماء وهي تعوم عند شواطئ موحلة للغاية. وليس يسمع في ارجائها سوى الهدير الرتيب للفلك، والحشرجات الجنائزية لطائر الغطاس؟
كم مرة أنرت ، على ضوء شمعة ، مغارات أنيير (Asniers) السفلى ، هنالك حيث تنزل ببطء قطرة الماء السرمدية من ساعة الأبد المعلقة في سقف الرواسب الكلسية؟
كم مرة صحت [ في بوق] من فوق صخور مورت شيفر (Chèvre ?Morte) الناتئة، على [جياد] العربة التي تنهب بمشقة طريقا دون عرشي، عرش الضباب بثلاثمائة قدم؟
والليالي ذاتها، ليالي الصيف: العليلة والشفيفة ، كم ذرعتها وأنا كالشمعة حول نار مشتعلة في واد معشب وخال من الناس، إلى أن تزعزع الضربات الأولى لفأس الحطاب أشجار السنديان !
آه، ياسيدي ! كم للعزلة من إغراءات بالنسبة للشاعر ! أنا، كم كنت سأسعد بالعيش في الغابات ، وبأن أكون أقل صخبا من العصفور الذي يبل ظمأه رأسا من النبع ، ومن النملة التي تقتات على نبات الزعرور، ومن البلوطة التي يخدش سقوطها سكون الخميلة!
سألته : والفن؟
- أجابني: صبرا علي. الفن كان ما يزال يكتنفه الغموض. [ ولهذا ] درست مشاهد الطبيعة، ودرست مآثر الرجال.
إن ديجون لم تصرف دائما أوقات فراغها في استثمار المواهب الموسيقية لأبنائها. لقد ارتدت زي الحرب. اعتمرت الخوذة. رفعت الحربة. امتشقت السيف. عبأت البندقية. نصبت المدافع فوق أسوارها. تدافعت في ساحات الوغى: على قرع الطبول وخفق الألوية. ومثل شاعر جوال، ذي لحية رمادية ، وصوته يعلو على صوت الربابة، ديجون، هي الأخرى قد لا تعدم قصص حرب عجيبة ، أو بالأحرى : إن معاقلها المتهاوية والتي تستقبل ، فوق أرض زاخرة بالأنقاض ، الجذور المورقة لأشجار القندول الهندي ، وإن قصرها المتداعي والذي تهتز قنطرته تحت الخطوة المتعبة لفرس الدركي وهو عائد إلى ثكنته ، [ إن كل هذا ] يدل على أن ديجون مدينتان : المدينة الظاهرة والمدينة الغابرة.
وشيكا أزيح الغبار عن ديجون القرنين 14 و 15 ، تلك التي كان يحيط بها طوق من 18 برجا و 8 أبواب [ رئيسية] و 4 أبواب خ [ل] فية أو [لأقل] بويبات . أعني ديجون فيليب لوهاردي ( Philippe le Hardi ) وجون سون بور (Jean Sans Peur) وفيليب لوبون (Philippe le Bon) وشارل لوتيميرير (Charles le Temeraire ). [ تلك هي ديجون التي أعني] :
* بمنازلها التي من قش وطين، ذات السطوح التي كطاقية مجنون، وذات الواجهات المرصعة بصلبان سان أندري (Saint - André).
* بفنادقها الحصينة، ذات الكوى الضيقة ، والشبابيك المزدوجة ، والباحات المسيجة بأسنة طويلة.
* بكنائسها، ومصلاها، وأديرتها، وصوامعها التي كانت تحفل بالأجراس والرماح، ناشرة على هيئة بيارق واجهات زجاجها الملون والذي من ذهب ولازورد، عاكسة ما يقبع خلف تلك الواجهات من ذخائر عجيبة، وجاثمة عند المدافن المعتمة لشهدائها أو عند المذابح المزهرة لحدائقها.
* بمسيلها ، مسيل سوزون (Suzon) الذي كان مجراه، وهو ينوء ببضعة جسور خشبية صغيرة ، وبضعة مطاحن حبوب ، يفصل بين أرضين : أرض القس سانت بنين (Saint Begnine) وأرض القس سانت إتيان (Saint -Etienne ) وكأنه كاتب ضبط حينما يلجأ في البرلمان إلى مطرقته وصوته بقصد إعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي بين مترافعين وهما في ذروة الغضب.
* وأخيرا بضواحيها المكتظة ، ومن بينها ضاحية سان- نيكولا (Saint - Nicolas ) ، تلك التي كانت تنشر أزقتها الإثني عشر تحت الشمس وكأنها تماما خنزيرة سمينة وهي مضطجعة على أثدائها الأثني عشر.
ها آنذا قد بعثت الحيوية في جثة . وها هي ذي هذه الجثة وقد وقفت على قدميها.
هي ذي ديجون تقف ، تقف وتمشي. ثم تشرع في العدو . ثلاثون ناقوسا صغيرا تصيح في سماء زرقاء ، سماء ما وراء البحار، وكأنها تمشط شعر ألبيردورر (Albert Dürer) الطاعن في السن . حشد من الناس يسرع الخطى :
* نحو فنادق زقاق بوشيبو (Bouchepot)،
* نحو حمامات باب الكهنة،
* نحو الميدان الذي تمارس فيه لعبة المطرقة ، في زقاق سان غيوم (Saint-Guillaume )،
* نحو مكاتب الصرف في زقاق نوتردام ( Notre - Dame)،
* نحو متاجر بيع الأسلحة في زقاق لي فورج (Les Forges)،
* نحو النافورة التي في ساحة كوردوليي(Cordoliers)،
* نحو الفرن القديم في زقاق لابيز (Bèze)،
* نحو أسواق الخضر في ساحة شامبو (Champeaux)،
* نحو المشنقة التي في ساحة موريمون (Morimont)،
[ حشد قوامه: ] بورجوازيون ، نبلاء ، بشعون ، بذيئون ، رهبان، قسيسون، إكليروس، تجار، خدم ، يهود ، لومبارديون ، حجيج، شعراء جوالون ، موظفون في البرلمان ، موظفون في غرفة الحسابات ، موظفو ضرائب ، مصرفيون ، جباة [ في خدمة إقطاعيين]، موظفون في قصر الدوق؛ كل هؤلاء يصيحون، يصفرون، يغنون ، يتثاءبون، يصلون ، ويتأففون:
* فوق عربات ( يجرها ثيران)،
* فوق محفات،
* فوق صهوات جياد،
* فوق صهوات بغال،
* فوق هوادج سان فرانسوا (Saint - François )،
بعد هذا كله ، أليست هذه هي القيامة بعينها ؟ هي ذي الراية التي من حرير ترفرف في الريح، نصفها أخضر ونصفها أصفر، وموشاة بشعارات [نبالة ترمز إلى] المدينة: [بضعة] وجوه فوق أغصان من ذهب أخضر.
ولكن أي نزهة صيد هذه ؟ إن الدوق هو الذي سوف يذهب إلى الصيد. وقد سبقته الدوقة إلى قصر روفر(Rouvers). حاشية رائعة وموكب حاشد . سيادة الدوق يلكز فرسه الأشهب الذي يقشعر جلده في الهواء المنعش واللاسع للصباح. وراءه أثرياء شالون (Chalon) وهم يتبخترون [ فوق أفراسهم]، نبلاء فيين (Vienne)، فرسان فرجي (Vergy)، مختالو نوفشاطل (Neufchatel)، بارونات بوفريمون (Beaufremont) الطيبون، ثم هذان الشخصان اللذان يتنزهان [ على فرسيهما] في موخرة الموكب: أصغرهما، هذا الذي يميزه لباسه الذي يتناسب مع جسمه تماما والذي هو من قطيفة في لون دم الثيران ، بح صوته من فرط الضحك. أما أكبرهما ، ذاك الذي يتلفع في سترة سوداء تحتها كتاب صلوات ضخم ، فإنه يطرق برأسه على نحو ملتبس ، في اتجاه الأرض. هذا ملك لصوص الحرب . بينما ذاك كاهن الدوق . [ ال] أحمق يطرح على الحكيم أسئلة ليس في وسعه أن يجيب عنها. وبينما يصيح رجل من عامة الشعب: « أيها المسيح!»، كم جواد [ حفلات] صهل ! كم كلب صيد نبح!وكم بوق صدح! هؤلاء واللجام فوق أعناق أفراسهم، التيٍ ترفع قوائمها [ من جهة واحدة] يتحدثون ، في حنو، عن السيدة الحكيمة جوديت (Judith) والسيد المقدام ماكابي (Macabé).
في هذه الأثناء قرع النذير طبوله من أعلى البرج حيث مسكن الدوق. إنه يعلن أن الصيادين قد أطلقوا في السهل صقورهم. الوقت ممطر. رذاذ رمادي يحجب عنه، في البعيد ، دير سيطو(Citeau) الذي تستحم أشجاره في المستنقعات . غير أن بصيصا من الشمس يجعله يتبين ، عن قرب أكثر وبوضوح أكثر:
* قصر طالون ( Talent) ذا السطيحات التي تخدش أديم السحاب،
* قصر السيد دو فينطو (de ventou) والسيد دو فونطين (de Fontaine) اللذين تشق جعجعات طواحينهما سلسلة جبال خضراء،
* ديرسان مور (Saint - Mour ) الذي ترتفع أعشاشه وسط بضعة أسراب من الحمام ،
* مستشفى الجذام ، مستشفى سانت أبولينير (Saint Apollinaire) الذي له باب واحد ليس غير ، وليس له أي نافذة،
* كنيسة سان جاك وتريمولوا (Saint ? Jacque de Trimolois ) التي تبدو وكأنها منحوتة من قواقع البحر لأحد زوار المعبد،
* وتحت أسوار ديجون، وراء أملاك ديرسان بينين (Begnine ?Saint ) رواق الكنيسة ، أبيض كأزياء تلامذة سان برونو (Saint - Bruno ).
يالكنيسة ديجون! ويالدير سان دوني (Saint-Denis)، دير دوقات بورغون(Bourgogn )! ويا للعجب ! لماذا ينبغي على الأبناء أن يغاروا [ بالضرورة] من مآثر آبائهم ؟ اذهبوا إلى حيث كانت تقوم الكنيسة ، ثمة ، تحت أعشاب الأحجار التي كانت مفاتيح قبب، وخزائن مذابح ، وشواهد قبور، وبلاطات مصليات . ثمة سوف ترتطم خطواتكم بأحجار فاحت حولها البخور، وذاب الشمع، وغمغم الأرغن، وجثا الدوقات : الأحياء منهم على ركبهم ، والأموات على جباههم . ترى أين ذهب كل هذا ؟ أين العظمة ؟ وأين المجد؟ هو ذا شجر الكرنيب ما زال يغرس في رماد فيليب لوبون (Philippe le Bon) ، بينما الكنيسة أثر بعد عين . لا ، لقد أخطأت. باب الكنيسة وبرج الناقوس [الصغير] ما يزالان قائمين. البرج [ الصغير] فارع ورشيق . على هيئة زهرة قرنفل فوق الأذن ويشبه فتى وهو يأخذ بزمام سلوقي. الباب المطروق أشبه ما يكون أيضا بقرط يتدلى من فوق عنق كاتدرائية . وإلى جانب هذا ، هنالك ، في بهو الدير، قاعدة تمثال ينقصها صليب، ومن حولها ستة تمثايل لأنبياء رائعين من فرط الحزن . ترى على ماذا هم حزينون ؟ إنهم حزينون على الصليب الذي أعادته الملائكة إلى السماء.
مصير الكنيسة كان هو المصير ذاته لأغلب المآثر التي كانت تضفي على ديجون منظرا جميلا، وذلك خلال الفترة التي تم فيها إلحاق الدوقية بمنطقة النفوذ الملكية . هذه المدينة ليست سوى ظل نفسها . لويس XI خلع عنها عروشها . والثورة خلعت عنها نواقيسها . لم يبق سوى ثلاث كنائس من أصل سبع ، ومعبد واحد، وديرين ، واثنتي عشرة صومعة. ثلاثة من أبوابها أغلقت . بويباتها السرية هدمت . ضواحيها أبيدت . مسيلها، مسيل سوزون تدفق في البالوعات . ساكنتها عبثت بكل ما هو مورق فيها. نبالتها سقطت إلى الحضيض . وها نحن للأسف نرى جيدا كيف أن الدوق شارل (Le duc Charles ) وفرسانه الذين ذهبوا قبل حوالي أربعة قرون إلى الحرب لم يعودوا .
كنت أتجول بين هذه الخرائب مثل تاجر أثرياء وهو يبحث عن أوسمة قديمة في مجاري المعسكرات الرومانية ، بعد رعدة مطرية شديدة . غير أن ديجون الغابرة ما زالت تحتفظ ببعض ما كان. إنها شبيهة في هذا بهؤلاء الأثرياء الغاليين (gaulois) الذين كانوا كلما وضعوا قطعة من الذهب تحت اللسان وضعوا أخرى تحت اليد اليمنى.
- سألته : والفن ؟
- أجابني: ذات يوم كنت منشغلا أمام كنيسة نوتردام بمراقبة جاكمار وزوجته وابنه وهم يقرعون الناقوس إيذانا بحلول [ قداس] الزوال . كل شيء ، على الأرجح : الدقة ، التأني ، ورباطة الجأش يشهد على أصله الفلاماني . بيد أنه لا أحد كان يعرف أنه كان يعفي بورجوازيي كورتراي(Cortray ) الطيبين من [صلوات] الساعات، وذلك في الفترة التي نهبت فيها المدينة سنة 1983 ؛ علما أن كاركانطو (Garguantua) كان قد سطا على نواقيس باريس . والشيء نفسه فعله فيليب لوهاردي بصدد ساعة كورتراي . كل أسقف وما يقدر عليه. فجأة سمعت ضحكة عالية. هنالك، في الأعلى. وإذا بي أرمق في إحدى زوايا المعبد أحد هذه الوجوه المرعبة التي ربطها نحاتو القرون الوسطى من أكتافها إلى مزاريب الكاتدرائية. وجه بملامح قاسية لأحد المعذبين وهو تحت وطأة الألم الشديد يمد لسانه. يعض على نواجذه بقوة . ويلوي يديه . إنه هو الذي كان يضحك.
- صاح في وجهي قائلا : إن في عينيك قذى
- لا قذى في العين ولا قطن في الأذن.
[ ثم] ضحك الوجه الحجري. ضحك ضحكة متوترة . ضحكة مرعبة وجهنمية ، غير أنها ساخرة وحادة، ومعبرة.
خجلت من نفسي لكوني انشغلت ، لوقت طويل ، ب [ شخص] مهووس. ومع ذلك كنت بابتسامة مني أشجع الرجل المهووس [ إلى حد العبادة] بالفن كي يتابع قصته العجيبة.
تابع قائلا : هذه المغامرة جعلتني أمعن في التفكير . فكرت وقلت : بما أن الله والحب هما طرفا الشرط الأول للفن ، [ أي] ما هو إحساس في الفن ، فإن في وسع الشيطان أن يكون ثاني هذين الشرطين [ أي] ما هو فكرة في الفن، أليس الشيطان هو من بنى كاتدرائية كولون (Cologne )؟
[ والآن] ها أنذا أبحث عن الشيطان . ها أنذا أعكف إلى حد الونى على الكتب السحرية لكورنيليوس أغريبا (Cornelius Agrippa ) . وها أنذا ألجأ إلى بعض وصفات السحر الأسود مثلما هي عند جاري: معلم المدرسة . [ والنتيجة:] لا أثر لأي شيطان سوى في طرف مسبحة امرأة ورعة . رغما عن ذلك، إنه موجود . لقد سجل سانت أوغوستان (Saint -Augustin ) بريشته أوصافه
... Daemones sunt genere animalia, ingenor rationabilia, animo passiva, curpore aerea, tempore aeterna.
هذا شيء إيجابي . الشيطان موجود. إنه يخطب بإطناب تحت قبة البرلمان، يتناظر في القصر، يضارب بالأسهم في البورصة. توضع صورته فوق قسيمات [ الضرائب] . له وظيفة في الروايات ، ودور في المسرحيات. إنه يُرى في كل مكان مثلما أراكم أنا . ثم إنه من أجله اخترعت مرايا الجيب، وذلك لكي يتمكن من تشذيب لحيته جيدا. لقد أخطأت بوليسشينيل (Polichinelle) عدوها وعدونا . أوه ! حبذا لو كانت قد قضت عليه بضربة عصا على رقبته.
مساء، وقبل أن آوي إلى فراشي شربت عصير الباراسوليز (Paracelise) . أحسست بمغص . ما من شيطان في أي مكان آخر بقرنين وذيل.
خيبة أخرى : هذه الليلة بالذات بللت رعدة مطرية جميع أركان المدينة العتيقة التي كانت تغط في نومها. وبما أنني كنت أخبط خبط عشواء بين الأغوار العميقة لكنيسة نوتردام فإنني لم أكن أرى أمامي قيد أنملة. وهذا ما سوف يفسره لكم أحد منتهكي الحرمات. [ ذلك أنه] ليس ثمة من قفل دون أن تكون جريمة ما مفتاحه. رفقا بي. لقد كنت في حاجة إلى قربان وإلى ضريح . كان نور ما يخز العتمات. آخرون سواي توافدوا تباعا حيث صرت قاب قوسين من رؤية شخص موسومة يده بآثار مشعلة طويلة ، هي المشعلة ذاتها التي يوقد بها قناديل المذبح [ الرئيسي في الكنيسة] . كان جاكمار الذي ، ليس فقط ذا رباطة جأش ولكن أيضا من عادته أن ينهي ، وهو يرتدي قبعته التي كالكرنب والتي من حديد مرقع، عمله دون أن يظهر عليه أي تذمر، ولا حتى أن ينتبه إلى وجود شاهد منتهك لحرمات المكان. جاكلين (Jacqueline) ، جاثمة أمام الأدراج، كانت على قدر كبير من الثبات بينما كان المطر ينهمر:
* من فوق تنورتها الرصاصية والتي على موضة بارباسون (Barbaçonne)
* من فوق رباط قبعتها الذي من معدن والمؤنبب على غرار دانتيل بروج (Bruges).
* وكذلك من فوق وجهها الخشبي الذي في لمعان وجنتي دمية من نورينبرج (Nurenberg).
ألقيت عليها، وأنا أتلعثم ، سؤالا بسيطا عن الشيطان والفن . وحين تحركت ذراع ماريطارن (Maritarne) [ المرأة الدميمة] على إثر حركة مفاجئة وعنيفة لأحد النوابض ، وفي أعقاب صوت تردد أكثر من مائة مرة من المطرقة الثقيلة التي تشد عليها بقبضتها ، اندفعت على شكل موكب جوقة من القسيسين والفرسان وأولياء النعمة ممن تؤثث مومياواتهم المدافن القوطية للكنيسة ، اندفعت حول المذبح، وذلك في حالة من الضخامة الحية والمجنحة والتي تنبعث من مهد المسيح. [ في حين أن ] السيدة العذراء السوداء ، عذراء الأزمنة المتوحشة، الأطول بمقدار ذراع ، ذات التاج الذي يترنح في خيوطه الذهبية ، وذات الفستان المشدود ، والذي من نشاء ولؤلؤ ، [ أجل! ] العذراء المعجزة والتي يلمع أمامها مصباح من فضة قفزت من فوق كرسيها [الرسولي] ، وجرت بسرعة خذروف صغير فوق البلاطات . كانت تخترق أجنحة الكنيسة بخطى رشيقة وغير متساوية، وفي رفقتها تمثال صغير، تمثال سان جون (Saint Jean) الذي من شمع وصوف ، والذي أججت جذوته شرارة ما، وإذا به يذوب وناران تنبعثان منه : زرقاء وحمراء . أما جاكلين (Jacqueline) فقد تسلحت بمقص وذلك من أجل جز قفا وليدها الشعثاء ، بينما من بعيد كانت شمعة تضيء مصلى بيت العماد. وآنذاك...
- وآنذاك ؟
- آنذاك : الشمس التي كانت تطل من أحد الثقوب ، والعصافير التي كانت تنقر زجاج نوافذي ، والأجراس التي كانت تردد، في الجو ، بعض ابتهالاتها ؛ كل هذا أيقظني . لقد كنت أحلم.
- والشيطان؟
- لا وجود له.
- والفن ؟
- موجود.
- إذن ، أين؟
- في قلب الله ...
ثم إن عينه التي كانت تخلولق فيها دمعة ، ما لبثت أن دارت في محاجرها وهي تجوب أنحاء السماء.
- نحن ، ياسيدي ! لسنا سوى مقلدين للخالق. إن أكثر أعمالنا جمالا وقوة ونجاحا ليست سوى نسخة مشوهة وشعاع باهت لأقل أعماله الخالدة. إن أي عمل أصيل [لا يعدو أن يكون] فرخ نسر قل أن يكسر قشرة بيضته إلا في الأجواء السامية والمذهلة ل [جبل] سيناء.
- أجل، ياسيدي ؟ لقد بحثت طويلا عن الفن . ياللهذيان ! ويا للجنون! انظر إلى هذا الجبين الزاخر بالتجاعيد بسبب هذا الإكليل الحديدي، إكليل الألم. ثلاثون سنة واللغز الذي كم من الليالي المتصلة وأنا أبحث عن حل له، والذي ضحيت من أجله بالشباب والحب والمتعة والثروة ، دائما هو هو : جامد ، لا حياة فيه ولا حس، كالحصاة الدنيئة في رماد أوهامي . هيهات ! أنى للعدم أن يبعث الحياة في العدم؟!
ثم نهض . أما أنا فقد عبرت له عن شفقتي بآهة منافقة وعادية.
- زاد قائلا : هذا المخطوط سوف يقول لك كم آلة [ موسيقية ] داعبت شفاهي قبل أن أصل إلى هذه التي تؤدي النغمة الصافية والمعبرة . وكم من فرشاة مرَّرت فوق قماش اللوحة قبل أن يتنفس بين يدي فجر كاذب . هاهنا [ في هذا المخطوط] مستودعة طرق فنية مختلفة ، ولربما جديدة [ لضبط ] التناسبات والألوان. هذه هي النتيجة الوحيدة، وهذه هي المكافأة الوحيدة اللتان حظيت بهما جهودي [ الفاشلة] . اقرأه وأعده لي غدا. [ هي ذي] ساعة الكاتدرائية دقت ست مرات. إنها تطرد الشمس التي تتوارى على امتداد شجرات الليلك. سوف أغلق على نفسي لكي أكتب وصيتي ، مساء الخير.
- ياسيدي؟
ياه ! لقد ابتعد. أما أنا فقد بقيت مسمرا في مكاني ، مطرق الرأس، وفي غاية الذهول، وكأنني رئيس [مؤسسة] بينما كاتبي يزيح برغوثا يحلق فوق أنفي . كان عنوان المخطوط:
Gaspard de la nuit, Fantaisies à la manière de Rembrant et de Callot
(غاسبار الليل. فانتازيات على طريقة رامبرانت وكالو ).
اليوم الموالي كان يوم سبت . لا أحد في حديقة الأركبوز ، فقط بضعة يهود وهم يحتفلون بالسابات . ذرعت المدينة ذرعا وأنا أسأل كل عابر عن غاسبار الليل (Gaspard de la nuit). بعضهم كان يقول لي: ما هذا؟ هل تمزح؟ والبعض الآخر: إذن ليلو عنقك ! كلهم كانوا يتخلون عني بسرعة. ثم وجدتني أمشي بمحاذاة صاحب مزرعة كروم في زقاق سان فليبار( Saint-Flebar) : قزم وأحدب . يجلس مربعا يديه أمام باب بيته وهو يضحك بسخرية من حيرتي :
- هل تعرف السيد غاسبار الليل ؟
- ماذا تريد منه ؟ ماذا تريد من هذا الفتى بالذات؟
- أريد أن أعيد إليه كتابا كان قد أعارني إياه.
- كتاب طلاسم !
- كيف ؟ كتاب طلاسم! دلني أرجوك على منزله.
- إنه هناك ، حيث تتدلى قبضة مطرقة.
- ولكن هذا المنزل... الذي تدلني عليه هو منزل السيد راعي الكنيسة.
- ذلك أنني رأيت للتو [ الفتاة] الطويلة والسمراء، تلك التي تغسل قمصانه [الكهنوتية] وياقاته وهي تدخل عنده.
- وماذا يعني هذا ؟
- هذا يعني أن السيد غاسبار الليل (Gaspard de la nuit) يتنكر أحيانا في هيئة فتاة جميلة ، وفي ريعان الشباب، وذلك من أجل إغواء الناس الورعين . يشهد على هذا مغامرته مع شفيعي سان أنطوان ( Saint Antoine) .
- اعفني من حذلقاتك . وقل لي أين هو (Gaspard de la nuit) .
- في الجحيم ، على افتراض أنه ليس في أي مكان آخر.
- أخيرا ، ها أنذا على وشك أن أفهم . ماذا ؟ غاسبار الليل (Gaspard de la nuit) قد يكون ...
- أجل ! إنه ... الشيطان.
- شكرا لك ، أيها الرجل الطيب، إذا كان غاسبار الليل في الجحيم فليصلها على جنوبه . أما أنا فإنني سوف أنشر كتابه .
٭ لويس برتران
Louis Bertrand
مقدمة [ ثانية]
للفن دائما وجهان متعارضان . قل ، ميدالية بوجه يحمل صورة بول رامبرانت (Paul Rambeandt) وظهر يحمل صورة جاك كالو ( Jacques Callot) . رامبرانت هو الفيلسوف ذو اللحية البيضاء ، الذي يتفانى في تشذيبها. والذي يشحذ فكره بالتأمل والعبادة. والذي يغمض عينيه كي يستغرق في تأملاته. والذي يتحاور مع أرواح الجمال والعلم والحكمة والحب. والذي يعمل كل ما في وسعه من أجل النفاذ إلى كنه الرموز الغامضة للطبيعة . أما كالو فإنه بالعكس من هذا، إنه كأي جندي مرتزق : متبجح ، وماجن يذرع الأرض في خيلاء. يثير الضجيج في الحانات . يراود بنات البوهيميين. لا يعتد سوى بخنجره وبندقيته. ولا هم له سوى فتل شواربه. لقد تصور مؤلف هذا الكتاب أن للفن هذا التشخيص المزدوج ، ولكن من غير أن يدل هذا على أي معنى حصري ، ثم عدا الفانتازيات التي على طريقة رامبرانت وكالو هاهي دراسات عن فون إيك ( Von Eyck) لوكاس دوليد ( Lucas de Leyde) ، ألبير دورر(Albert Dürer) بيترنيف (Peeter Neef) ، بروغل دوفلور(Brenghel de Velours) ، بروغل دونفر ( Brenghel d?Enfer) ، فان أوستاد ( Van Ostade) ، جيراردوو(Gerard Dow) ، سالفاتور روزا(Salvator-Rosa) ، موريليو (Murillo) ، فوسلي (Fusely) ، ومعلمين آخرين كثيرين من مختلف المدارس.
أما إذا طلب من المؤلف لماذا لا يورد في رأس كتابه أي نظرية أدبية جميلة فسوف يكون من اللازم الإجابة بأن [ الملاك] سيرافان (M.Seraphin) لم يفسر له ميكانيزم الظلال الصينية، وأن [ الدمية] بوليشينيل (Polichinelle) تخفي - دائما - على الفضوليين كيف تقوم بتحريك ذراعيها. إنه يكتفي بتوقيع مؤلفه.
[ إهداء ]
إلى فكتور هيجو
٭ «أنى للمجد أن يعثر على منزلي المجهول وأنا أعزف، على انفراد، أغنيتي الحزينة: هذه التي لا تسحر سواي».
ش برونيو
« قصيدة غنائية»
٭ « قال آدم: [ حتى وأنا] أضحوكة لأرواحكم التائهة فإن قلقي لن يكون أكثر من قلق نسر على قطيع من الإوز الوحشي ؛ كل هذه الكائنات لاذت بالفرار منذ أن صارت الأجساد مسكونة بالكهنة الأبرار ، والآذان بالشرائع المقدسة».
ولتر سكوت
« القس » ، الفصل XVI
كتاب أشعارك الجميل سوف يظل بعد مائة عام، مثلما هو اليوم، الطفل المدلل جدا للسيدات المترفات، والفتيان المنعمين، والشعراء الجوالين. ولسوف يظل كذلك باقة شعر يتغنى بالفروسية، وقصة حب من شأنها - وهي التي من طينة الديكاميرون - أن تملأ بالسحر فراغ الأرجاء الفسيحة للقصور.
بيد أن الكتيب الذي أهديك إياه سوف يكون قد نال مصير كل ما يفنى، وذلك بعد أن يكون، لربما ذات يوم، قد أشاع المرح في أوساط الخاصة والعامة: هذه الأوساط التي قلما يعرف المرح طريقه إلى نفوسها.
آنذاك ، حين يعمد أحد هواة الكتب إلى نفض الغبار عن هذا المؤلف الذي تعاورت عليه الرطوبة والأرضة سوف يقرأ في صفحته الأولى اسمك الذي ذاع صيته والذي لن ينتشل أبدا اسمي من وهدة النسيان.
فضوله سوف يقوده إلى الثول الواهي لأفكاري التي حبستها، لوقت طويل، مشابكُ قرمزيةٌ في سجن من ورق.
ولسوف يكون هذا بالنسبة له اكتشافا أين منه ما تعنيه بالنسبة لنا بعض الملاحم المكتوبة بحروف قوطية والموسومة إما بكركردن وإما بلقلاقين.
باريس
20 سبتمبر 1836


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.