كنا نجلس في مقهى .. ما زلت أذكر كيف كنت لا أشعر بالوقت وأنا معها، بنت تفيض بالثقافة وحبها للشعر يزيد عمن عرفت، لا أنسى تلك العصرية ولا كيف كنت أحكي لها عن الشعر، وعن هموم الحياة وما عانيته في غرباتي المتعددة، وبالطبع كنت أنسى أنني أتحدث إلى فتاة، كنت أذكر فقط أنني بحاجة لها كجزء من روحي كصديق... كصديقة أحمل لها أسمى وأعمق من مشاعر ذكر لأنثى، كانت حبيبة لروحي، وتمنّيت أن تبقى في قلبي تلك الأيقونة ونسمو معا على كلّ حيوانية تسحقّ العلاقات بالملل، ولكنّ الملائكة تمرّ أرواحهم بالأرض مسح طائر للماء بطرف جناحه ويحلّق عاليا، في تلك الجلسة كنت أفيض بالحديث عن علاقاتي الغرامية وعمّا عانيته من عواطفي، وقليل منها كان حلوا والأكثر كان مرّا علقما. تحدّثت عن نساء ونساء؛ مرّات بتأثر ومرّات كذكرى بياض الجرح، وأردت لأوّل مرّة أن أحدّثها عن أمر مرّ معي وأحتفظ به لنفسي ولا أنوي أن أبوح به لأحد، بسبب ما يفهم منه في مقاييس المجتمع والمغرضين بشكل خاص، قلت لها أريد أن أحكي لك ممّا مرّ معي من غرائب الأمور النفسية، والتي يمكن أن أحكيها لك وحدك كونك أهلا لفهمي، دفعت بجسدها ملتصقة بالطاولة مستندة إلى مرفقيها وشعرت أنّها صارت كلّها آذانا صاغية: يا صديقتي بعد أن مرّ على حبّي لفتاة ثلاث سنوات، وذهب كلّ منا إلى مستقبله؛ هي خطبت وتتهيّأ للزواج، وأنا أخابط يمينا وشمالا لأدبّر ثمن تذكرة سفر إلى ليبيا كما فعل بعض من شباب قريتي الذين سبقوني، وكان السفر إلى ليبيا يومها يحتاج إلى أن يكون مع المسافر مائة دولار وبالطبع ثمن التذكرة البالغ مائتي دولار، واستمر هذا الوضع لسنة حُرمت فيها من حبيبتي التي تجاوزتني للتزوج. وكنت قد خسرت عائلتي الكبيرة في القرية لأسباب لا مكان لذكرها هنا، وبدأت أعيش هذا الخواء وأنا في مطلع العشرين من العمر، فالتزمت الدين في مساجد دمشق وكنت صارما في الالتزام، أقسمت يمينا أن لا أديم النظر إلى أيّ امرأة سوى النظرة الخاطفة، وأن لا أتيح لنفسي الحبّ ولا العشق وأتجنّب ما استطعت النساء، وأن أترك التدخين بيمين مغلّظة وأيمان أخرى أن لا أحلل يمين ترك التدخين ولا من قبله هجر النساء، وأن أقلع عن عادة يلجأ إليها الشباب أيام المراهقة، كانت أيمانا مشدّدة حلفتها ساعة توبة نصوحة مبكّرة، ولم أكن أتصوّرها مبكّرة. فقد حسبت يومها أنْ كفاني من الطيش والفلتان ويجب أن أرجع إلى الله لأحافظ على نفسي، فأطلقت لحيتي وحملت مسبحة تسعا وتسعين حبّة وانقطعت إلى العمل والمساجد لمدة سنة وأدعو الله أن ييسّر لي ثمن السفر إلى ليبيا ((ومن أسوأ ما عاقبت به نفسي يومها أن حلفت ألا أكتب الشعر لأنه رجس من عمل الشيطان فأحرقت دفاتري في التنّور وضاعت دفاتري ولم يسلم من قصائدي سوى ما كنت أحفظه غيبا أو ما حفظه مريدو شعري الغنائي من شباب أو صبايا وهو قليل)). استجاب الله لدعواتي وحصلت على مائة دولار وثمن بطاقة الطائرة وحطت الطائرة في بنغازي (لقد كتبت كل ذكرياتي في ليبيا وسأنشرها في موعدها، ما يهمني الآن هو ما أحدث به صديقة الروح على طاولة في دبي) لم أختر مدينة ساحلية حيث الحياة في ليبيا، بل التحقت بأبناء قريتي الذين لا أدري ما الذي جعلهم يختارون مدينة جنوبية تعوم على بحر من رمال الصحراء الليبية اسمها مدينة سبها، وهذا في العام 1975 حيث لم تكن حتى الطرقات معبّدة والأنكى من ذلك أن أخذت عملا في قرية ممعنة في التيه الفزّاني اسمها آغار عتبة تبعد عن سبها 250 كيلو متر مشروع بناء مساكن حديثة لتلك القرية، فلا اتصال بالعالم ولا بالحياة ولا خبز ولا أكثر من المعلبات تصلنا مع كيس خبز يوم السبت نعيش عليها كل الأسبوع. وصادف أن سكنت مع شاب سوري يكبرني بسنتين، هذا الشاب يعمل بتمديد الكهرباء وأنا أعمل حدّاد بناء ومع كل تلك المحارق الصيفية كنت أقرأ أربع ساعات على الأقل يوميا . . ومع الوقت تعرفت هناك بشباب لبنانيين هربوا من جحيم الحرب الأهلية، وبالمصادفة كانوا من الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه أنطون سعادة عام 1932. مع هؤلاء الشباب العلمانيين بدأت أتعرف على مفاهيم أخرى وثقافة مختلفة، وتخففت قليلا قليلا من التزامي التديّني فحلقت لحيتي وانكسر اليمين الأول بأن عدت إلى الشعر فقط، وأما يمين بعدي عن النساء فمتحقق بالطبيعة حيث لم أشاهد امرأة طيلة سنة كاملة حتى ولا بالتلفاز لعدم وجوده. هذا الشاب من طولي تقريبا يتمتع بجمال فائق، خدّان يكاد الدم ينفر منهما، عينان لاخضرارهما لون عمق بحيرة هادئة، رغم أنه يكبرني عمرا لم يكن في وجهه شعر سوى بضع شعرات منثورة تحت سالفيه ممّا يزيده جمالا، هذا الشاب الجميل تبيّن لي أنه أمّيّ ترك المدرسة من الخامس الابتدائي ونسي ما تعلّمه ولكنه كان يخفي عنّا أمّيّته، وبحكم سكنه معي في غرفة واحدة حنّ إلى القراءة فصارحني بأنه لا يعرف فكّ الحرف ويتمنّى لو أنّه مثلي يقرأ ويكتب، تحوّلنا إلى صديقين كل منّا يعيش الصداقة بمشاعره . . لقد بدأت بتعليمه القراءة والكتابة يوميا، حوّلته إلى تلميذ لي وتحولت مشاعري نحوه بفعل الأيام إلى مشاعر عشق؛ لقد عشقته كما عرفت العشق وزاد في ذلك أنني سيطرت عليه كتلميذ لي فكنت أمضي الوقت إما بتعليمه وإما بالحكي مستخدما كل ذكائي وشياطيني الثقافية التي غسلت بها شخصيته وجعلته تابعا لي، مارست هذا لأول وآخر مرة بحياتي مع إنسان وذلك بسبب حرج الموقف إذ ماذا كنت سأقول له وأنا أبعد ما يكون عن المثلية سابقا في حياتي، ولكني أخلو بنفسي وألعنها قائلا لها يا نفس ماذا تسمّين هذا؟ ولا أجد جوابا سوى أنني أحبه أعشقه أموت به وهو بكل تلك البراءة يفهم مشاعري ويتجاهلها ولا يقدر هو الآخر على مفارقتي، حاولت كثيرا أن أحاصر مشاعره لأفهمها نحوي فلم أجد منه سوى أنه ينظر إلي كمعلم وأستاذ وأخ حبيب، كان سليما من الناحية الفيزيولوجية أكثر مني على ما يبدو، فهو يعيش مثلي في هذه الصحراء الخاوية بلا أيّ أنثى، ولكنه بتلك العفوية كان الأمر بالنسبة له أزمة تشتد وتزول، هو مثلي لا يرى القمر ولكنه كان يعيش على ذكراه أنا وصلت مشاعري إلى الخبل، فصرت أحسّه القمر والضوء والعشق وفقدت السيطرة على مشاعري، ولكنّ كرامتي وما أحكيه له عن نفسي وحياتي كانت تمنعني من الانحدار إلى هاوية أن أصارحه بشذوذ ما أحسّ به نحوه، رغم أني كنت أعيش بين حبّ وعشق وشهوة مجنونة لأن أضمه أو أقبّله، وربما كان سيرفض لو فعلت هذا بشكل مباشر وربما انزلق معي في هاوية الشهوة، ولكن ما كانت كرامتي تسمح لي بهذا الانزلاق فصرت أعاني من هذا الحبّ وهذه الشهوات، فبكيت ما شاء لي البكاء وضربت بيدي الجدار مرات ومرات، وعويت كالذئاب الجائعة في أعماقي مرات ومرات، ومما يزيد في محنتي أنه كان بسبب من الحرّ الشديد في تلك الفترة يتعرّى بالمايو كشاب غير مكترث أو غير منتبه لما أعانيه نحوه، وكنت أنظر إليه بحرج وأحس بنيران تأكل جسدي وقلبي وأنا أراه أنعم من صبايا الشاطئ وأجمل منهنّ وأكثر إثارة. صبايا الشاطئ، نعم اللواتي كنت أراهنّ في مجلة الشبكة اللبنانية التي كنت أقرأها قبل مشيختي أو في غيرها من مجلات أحصل عليها من دمشق. استمرّت الحالة هذه شهورا طويلة، حتى نحل جسمي وذبلت حيويتي وصرت أكتب الشعر ليل نهار مما أعانيه من ذلك الوجد والغرام المحرّم، وكنت أقرأ له كل ما أكتب، أو لأقل لقد كان هو قارئي الوحيد أي بمعنى أنني أقرأ له ما أكتب، وهو لم يصل بالتعليم لمرحلة أن يقرأ لي ولكنه بدأ يعرف فك الحرف ويبذل من الجهد ما يدل على مستقبل له في هذا العالم، كل من عرفنا أيامها كان يقول إننا أخوان، ويعتقدون أنني أخوه الأكبر للهجة الأمر وطريقة الوصاية التي رضي بها منّي عليه، لم يكن صديقي قادرا على الابتعاد عني فأنا طرحت عليه مرات أن يبتعد عن السكن معي ويتركني في حالي، ويستغرب مني طرحي، إلى أن افتعلت مرة مشكلة معه وطردته من البيت وهددته بالقتل. فترك البيت باكيا ولجأ إلى بيت لبنانيين يجاوروننا، ولكن ما احتملت هذا فذهبت في الثانية بعد منتصف الليل واعتذرت منه باكيا واصطحبته معي، ويومها طلب مني أن أشرح له لماذا أنا غريب إلى هذا الحدّ... ولأنه في واد وأنا في واد عدت في اليوم التالي إلى البيت، حزمت حقيبتي وركبت سيارة شاحنة جاءتنا من سبها وهربت، بت في الفندق، وركبت سيارة أجرة وسافرت إلى بنغازي ومنها إلى طبرق شرقا وفي طبرق حاولت أن أجد عملا منتظرا لمدة أسبوعين ولكن تسكّرت الدنيا والكون بوجهي، فما وجدت نفسي سوى أني أحزم حقيبتي وأعود والدموع لم تفارق عيوني لا في الذهاب ولا في الإياب، استغرقت في سفرتي هذه ثمانية عشر يوما من أمرّ وأصعب أيام عشتها بعيدا عن صديقي . . ولما وصلت إلى آغار عتبة وجدته مع أصدقائنا اللبنانيين يلعبون لعبة قطش العنزة، فما أن ظهرت أجرجر حقيبتي حتى صاحوا بصوت واحد (ظهر المختفي بسم الله الرحمن الرحيم)، وسلموا عليّ إلا هو لم يسلّم عليّ بل أمسك وجهي بيديه ضاغطا على صدغيّ وسبّ وكفر ولعنني... معشوقي يتجرّأ عليّ... سهرنا معا للصباح بكيت بين يديه واعتذرت منه وصارحته بمشاعري كلها وما آل إليه حالي، فما علّق سوى بجملة واحدة: أنا عرفتك رجلا أكبر من عمرك بكثير وأنت معلمي وأخي الحقيقي فلا تجعلني أخسر هذه المعرفة؛ واصفا معرفتي بكنز عظيم، وعليّ كما قال أن أتعالى على مشاعري الشاذّة وأعود إنسانا سويّاً. بكيت وبكى لبكائي ولكنه بكى كأخ وصديق وبكيت كعاشق شاذّ. (وأنا أحكي لصديقتي في المقهى بكيت وبكت عليّ بكت معي) لم أخلص من هذه المشاعر التي عشتها لحوالي السنة وتعذبت بها ما شاء لي العذاب حتى قامت ليبيا بحملة لتسفير العمال السوريين، وحمّلونا بسيارات الشحن من تلك الصحاري عبر الطرقات الطويلة إلى مدينة طرابلس الغرب التي تبعد عن منطقتنا حوالي 1600 كيلو متر ومن طرابلس إلى حدود مصر أيضا حوالي 2000 كيلو متر ورمونا هناك في مساعد، وكانت سوريا على خلاف شديد مع حكومة السادات إلا أنها استقبلتنا وحملتنا بسيارات الأجرة إلى القاهرة وطلبت منا تدبير أنفسنا لترحيلنا إلى سوريا (وهذه السفرة سوف أقدمها لكم وللقارئ كما هي وكل سببها أنّ الحكومة الليبية يومها عارضت سوريا في دخولها إلى لبنان فغضبت وحلّت غضبها علينا نحن العمال المساكين متذرعة بأننا نقيم بصفة غير شرعية وكنا دخلنا إلى ليبيا تحت اتفاق الاتحاد الثلاثي بين مصر وسوريا وليبيا هذه المأساة لا أنساها) يبدو أني وصديقي في هذه الرحلة المشؤومة التي لا تنسى، يبدو أننا تطهرنا من درن الجفاف الإنساني الذي كنا نعيشه في مفازة القطيعة في بلاد فزّان، كنا ننام في حوض الشاحنة القلاّب (لوطنطا) على كتفي بعضينا، أنا وصديقي، لم أشعر منذ اعتقلونا أو زجّوا بنا في سجن الترحيل بأي من تلك المشاعر الغريبة التي كنت أعيشها، صار صديقا لي دون مشاعر شاذة (والله على ما أقول شهيد) وطوال تلك الرحلة من سجن إلى سجن عبر مدينة سبها وبعدها سرت ومنها إلى طرابلس ومن ثم إلى بنغازي وأخيرا عبر درنة إلى الحدود الليبية المصرية، وكنا حوالي ألفي عامل سوري من عدة مدن التقينا في الحدود المصرية الليبية وتبرعت محافظة مرسي مطروح بنقلنا بسيارات البيجو (الأجرة) إلى القاهرة وهناك تفرقنا كل مضى مع زمرته . . أنا وصديقي بقينا معا، وكنا نملك من المال ما يكفينا شهرا في مصر وفوقها ثمن بطاقات طائرة إلى سوريا، فحوّلنا دخولنا القسري إلى مصر فرصة اغتنمناها فبقينا في مصر أسبوعين شاهدنا الأهرامات وزرنا المتحف وجنينة الحيوانات وبرج القاهرة والقلعة وزرنا الإسكندرية وسكنّا في منطقة العجوزة أسبوعا وبعدها في الدقّي. ومن أطرف ما حصل معنا أنا وصديقي أننا وقعنا في الحبّ معا، أنا أحببت بائعة العصير المصرية ذات العيون الخضر، وهو أحبّ فتاة سعودية تدرس في القاهرة وسهرنا وسكرنا وجننّا. وأفضل ما حصل لي شخصيا هو تطهّري من مشاعر الشذوذ بتلك الرحلة السندبادية ووصولنا إلى حيث رائحة مصر التي تعبق برائحة المرأة من كلّ أنحاء أجسادنا وقلوبنا... مات صديقي، مات يا صديقتي وما زلت . . لم أمت فهل تحفظين سرّي؟!.