قضى عزيز بينبين 20 سنة وراء القضبان؛ من محنته هذه، خرج حكيما، قوي الإيمان، عازما على أن لا يصدر الأحكام على الآخرين كما ظلمه حكم المصير ذات يوم سبعيني على إثر محاولة انقلابية زُج فيها من حيث لا يدري. ولد بمراكش، وتابع دراسته بها قبل أن ينتقل إلى الجديدة. عاش بورجوازيا وشعبيا وقارئا نهما إلى حدود الخامسة والعشرين من عمره قبل أن يلتحق بالأكاديمية العسكرية باهرمومو، ومنها إلى القنيطرة ثم تازمامارات. عن هذا المصير الغريب وأشياء أخرى فيها كثير من المفارقات والمآسي، يحدثنا عزيز بينبين عبر حلقات «كرسي الاعتراف». - ألم يحدث أن تحرش أحدكم تحرشا جنسيا بآخر؟ ألم تكن مثل هذه السلوكات سائدة بينكم كما هي بين سجناء الحق العام، مثلا؟ < لا أظن. لسبب بسيط، أولا، هو أن كل سجين كان محبوسا في زنزانته. ثانيا، كان تشبثنا بالدين كبيرا لدرجة أنني أستبعد أن تحدث مثل تلك السلوكات. قد تكون هنالك استيهامات جنسية يستحضرها أحد في خلوته، أما السلوكات المنحرفة فلم يكن لها وجود البتة. شخصيا لم أعاين أي حالة طيلة ال 18 سنة التي قضيتها في تازمامارت، بل إن مجرد الكلام عن النساء، مثلا، لم يكن واردا بيننا. حتى في قصصي التي كنت أحكيها للسجناء، كنت أسمو بالحالات الحميمية التي ترد في القصة إلى مستوى عال وفاضل لا يسقط في الابتذال وخدش الحياء. ثم إننا كنا منشغلين بأشياء أخرى. حدث أن أوتي ببعض السجناء السود من إفريقيا جنوب الصحراء، فصاروا يقتسمون معنا الزنازن. إلا أننا لم نلاحظ أو نسمع بشيء من السلوكات الجنسية المنحرفة... - هل من حكمة أوحى لك بها عالم السجن في تازمامارت؟ ألم تر الإنسان وحشا؟ ألم تغير مفهومك عن الإنسان أنت المثقف، الذي كنت كثير الاطلاع على الأدب العالمي قبل الجيش والسجن؟ < أول شيء هو أن لا حق لأي إنسان أن يصدر حكما على إنسان آخر؛ لأن لا أحد منا خال من الضعف. الإنسانُ بعدان: شر وخير. وهما في صراع أبدي. فكيف لإنسان أن يعتقد أن جانب الخير فيه أقوى من جانب الشر؟ ليس هناك من حكم، إذن. ثانيا، لا إنسان، مهما كان علمه أو إيمانه، يمكنه أن يتوسط بيني وبين الله. فقد اكتشفت، في خلال ال 18 سنة هذه العلاقة المباشرة مع الله. جسدك حاضر في السجن، وروحك في الخارج. إنها حقيقة لا يلمسها إلا من عاشها، وعاش طمأنينة روحية استثنائية. - ألست صوفيا بمعنى من المعاني؟ < لا أعتقد ذلك. أنا عقلاني إلى حد بعيد. إلا أنني أتحدث هنا عن حالة خاصة؛ أي عن ذلك الرابط المباشر مع الله دون وساطة من الغير. - هل مازلت تشعر بهذا الإحساس؟ < لا، لم أعد أقدر على ذلك بعد أن اندمجت في الحياة وكثرت مشاغلي وهمومي اليومية. إلا أن إيماني مازال قويا، ومازلت على ديني. - الإخوة بوريكات كانوا ضيوفا عليكم... ماذا عرفت عنهم؟ < يقال إنهم كانوا مسجونين في إحدى النقط الثابتة وحاولوا الفرار، لكنهم فشلوا قبل أن ينقلوا إلى تازمامارت. والدهم تونسي الأصل وفرنسي الجنسية ووالدتهم مغربية، وتربطها علاقة قرابة مع الملك محمد الخامس. عاشوا حياة البلاط قبل أن يقع لهم ما وقع. اثنان منهم يقيمون الآن في فرنسا وثالثهم، علي، يقيم في أمريكا كلاجئ سياسي فرنسي، مبررا طلب اللجوء بأن وجوده في فرنسا يشكل خطرا على سلامته! قيل إنهم كسبوا الكثير من الأموال من النظام المغربي. عاشوا معنا في بنايتنا قرابة ثمان أو تسع سنوات. - هل أطلق سراحهم معكم؟ < لا، بل احتفظ بهم إلى وقت لاحق. - نعود إلى مأساتك، كيف كانت مغادرتكم لتازمامارت؟ < نقلونا من السجن إلى اهرمومو لتلقي بعض العلاجات قبل الإفراج عنا. كنا ربما 26 ناجيا من أصل 58 سجينا... بنايتنا هي التي لقي فيها أكبر عدد من السجناء حتفهم، كنا أربعة ناجين منها من أصل 29. غادرنا تازمامارت ليلا معصوبي الأعين، مكبلي الأرجل والأيدي. سلكوا بنا طرقا غير معروفة نحو اهرمومو. وكانت تلك الليلة أبشع ليلة عشتها في مأساة تازمامارت. - لماذا؟ أكيد أن وضعكم الصحي لم يكن يتحمل تلك المعاناة الإضافية. < فعلا، وأنا أستغرب كيف لم يمت أحد منا خلال الطريق أو تتهشم عظامه لأن عظامنا تكلست تماما. حتى أثناء تطبيبنا، كان الأطباء يخشون أن تنكسر عظامنا فيستحيل، بعد ذلك، جبرها لأنها كانت خالية من الأملاح. أتذكر أنني عندما جلست، لأول مرة في اهرمومو، على سرير إسفنجي، شعرت بأنني أهوي إلى حفرة سحيقة من فرط ما جلست وتمددت على الإسفلت المسطح في زنزانة تازمامارت! أذكر، أيضا، أنني عندما أبصرت ضوء النهار في اهرمومو بعد نزولنا من الشاحنات العسكرية في ساحة المدرسة تصورت أنني في عالم ثان، غريب عني. خُيّّّل لي أنني أترجل على أرض القمر أو كوكب من الكواكب البعيدة! - وكيف كانت نظرتك الأولى لنفسك في المرآة؟ هل من إحساس خاص انتابك؟ < أولا، لم أر نفسي في المرآة مدة عشرين سنة، أي 18 سنة في تازمامارت وسنتان قبلها في سجن القنيطرة. فوجئت، أولا، لأنني لم أتعرف على نفسي في المرآة؛ ثانيا، فاجأتني نظرتي التي كانت تشع من عينيَّ ! نظرتي كانت كنظرة أحمق، معتوه. لقد صدمتني تلك النظرة. تساءلت عمن أكون. كانت نظرتي تشبه نظرة «فان غوغ» في لوحته الشهيرة. ومازالت تلك النظرة تحضرني إلى الآن. - يتبع -