قضى عزيز بينبين 20 سنة وراء القضبان؛ من محنته هذه، خرج حكيما، قوي الإيمان، عازما على أن لا يصدر الأحكام على الآخرين كما ظلمه حكم المصير ذات يوم سبعيني على إثر محاولة انقلابية زُج فيها من حيث لا يدري. ولد بمراكش، وتابع دراسته بها قبل أن ينتقل إلى الجديدة. عاش بورجوازيا وشعبيا وقارئا نهما إلى حدود الخامسة والعشرين من عمره قبل أن يلتحق بالأكاديمية العسكرية باهرمومو، ومنها إلى القنيطرة ثم تازمامارات. عن هذا المصير الغريب وأشياء أخرى فيها كثير من المفارقات والمآسي، يحدثنا عزيز بينبين عبر حلقات «كرسي الاعتراف». - ألم تشعر يوما بالإحباط أو فقدان الأمل في الحياة؟ < أبدا. كنت أقول: هذا عالمي، يجب علي أن أقبل به. لكن كنت أعيش في ذلك العالم بالجسد، بينما روحي وعقلي أعطيتهما بعدا آخر... - وما حكاية القصص التي كنت ترويها للسجناء؟ < رويت لهم قصصا وحكايات كثيرة طيلة أعوام. كانت حكايات أستقيها من عالم القراءات التي راكمتها خلال فترة مراهقتي وشبابي قبل تازمامارت. فقد اطلعت على الأدب الفرنسي كله والروسي والأمريكي... كما كانت لي ثقافة سينمائية واسعة قبل التحاقي بالجيش. كنت، إذن، أحكي لهم ما حفظت ذاكرتي من حكايات من كل لون. - كيف كان صوتك يصل إلى بقية السجناء، بينما هندسة السجن لم تكن تساعد على ذلك؟ < بناية السجن كان فيها بهو طويل في الوسط، وعلى جانبي البهو اصطفت الزنازن الواحدة تلو الأخرى؛ وفي كل زنزانة بوتقة تطل على البهو، بينما كان في أعلى البهو سياج فوقه طابق آخر، مغطى بالقصدير، ومنه كان يدخل الضوء والهواء إلى الزنازن من خلال البوتقات الموجودة في الزنازن. تلك البوتقات هي التي كانت تسمح لنا بالتواصل. وإذا كانت البناية هادئة، يمكن للجميع أن يسمع ما يقوله الآخر. - هل من تحضير مسبق أو طريقة معينة كنت تروي بها حكاياتك؟ < كان الأمر بمثابة درس ألقيه على الجميع؛ لذلك كنت أحضر حكاياتي خلال الليل لأرويها في الصباح. وكان الحكي ينطلق مباشرة بعد «وجبة» الفطور ليستمر حتى دخول وقت الغداء. - وكيف كان تعامل بقية السجناء مع حكاياتك؟ هل كان لها أثر إيجابي عليهم؟ < يبدو أن الأمر كان كذلك. فقد كانت تلك الحكايات تخفف عنا جميعا بعض المعاناة، كما أنها كانت رفيقا لنا في لحظات الشدة. - هل كنت الحكواتي الوحيد، أم أن آخرين كانوا يتناوبون على رواية القصص والحكايات والذكريات؟ < نعم، بين الحين والآخر كان بعضنا يتدخل ليحكي ما حفظ من حكايات وقصص للآخرين. أتذكر هنا حكاية طريفة وقعت خلال هذه الفترة. فقد أرسل إلي أحدهم كسرة خبز، علما بأن أغلى وأثمن شيء في تازمامارت هو تلك الخبزة اليتيمة التي كانوا يرمونها إلينا. كانت كسرة الخبز تلك عربون محبة وشكر من ذلك الصديق مقابل تمتعه بحكاياتي... - هل من تفاصيل عن رفيقك في السجن، الذي أثار حفيظتك رغم هدوئك حد أنك دخلت معه في صدام لساني عنيف؟ ما الحكاية بالضبط؟ < الأمر يتعلق بالسجين بندورو. كان آخر سجين يتوفى قبل خروجنا من تازمامارت. بندورو هذا يذكرني بقصة قرأتها في شبابي. هي قصة جندي خلال الحرب العالمية الأولى بلغه نبأ نهاية الحرب وهو في خندق المواجهة على الجبهة. وبمجرد أن علم بالخبر خرج من الخندق ليعبر عن فرحه وسروره بالحدث، إلا أن رصاصة من العدو استقرت بجسده وأردته قتيلا. كذلك كان حال بندورو، رحمه الله. فقد توفي خلال الأيام الأخيرة القليلة التي علمنا فيها أننا سنغادر تازمامارت ! - كيف كانت شخصية بندورو؟ هل كان من نفس الرتبة العسكرية مثلكم؟ < بندور، رحمه الله، كانت زنزانته محاذية لزنزانتي. كما أنه كان رئيسي في الجيش قبل تازمامارت. كان يتعمد الانعزال بنفسه ويرفض الانضمام إلى بقية أفراد المجموعة لسبب من الأسباب الشخصية الغامضة. كان بندورو، بين الحين والآخر، يردد آيات من كتاب الله من تلك التي يحفظها، علما بأننا جميعا حفظنا القرآن في تازمامارت. إلا أن الطريقة التي كان يقرأ بها القرآن لم تكن بالواضحة ولا بالمبهمة. كانت بين المنزلتين لدرجة أنها كانت تزعجني. طلبت منه إذن أن يغير طريقته ويختار بين أن يرفع صوته ويقرأ بوضوح أو أن يخفض صوته حتى لا يزعجني ويزعج الآخرين. إلا أنه كان يزيد تعنتا لاسيما أنه يبيت الليل صاحيا ويظل النهار كله نائما، فيزعج الجميع خلال ساعات النوم. - حقدتَ عليه، إذن. < نعم، الحقيقة أنني حقدت عليه بعد أن استفزني بصنيعه هذا. وقد ندمت على هذا بعد ذلك وعاتبت نفسي كثيرا على ما فعلت. بدأت أفكر في طريقة أنتقم بها من بندورو، فرحت أحسب له الحساب تلو الآخر لأصيبه في مقتل، لأنني كنت أعرف أن الصدام بيننا لابد آت. صرت أفكر في جرحه جرحا عميقا. كانت حساباتي شيطانية بنيتها على ما كنت أعرفه من معلومات حول شخصيته وطريقة تفكيره... - يتبع -