سنة مرت على رحيله المفجع... رحل عنا وهو في قمة عطائه الفكري واجتهاداته المتميزة والمثيرة للجدل... رحل... وكأنه لم يرحل... هو حاضر...كمرجع، و كضرورة في البحث والتأليف والمقاربة لاشكالات الفكر والسياسة، و كأفق للتفكير والفعل . . تحل هذه الذكرى... والوطن العربي من محيطه إلى خليجه يعيش على إيقاع انتفاضات شعوبه وشبابه بخاصة... ليثالموت أمهلك يا أستاذنا حتى تعيش هذه اللحظة التاريخية التي ناضلت ونظرت وألفت الكثير من أجلها... واستشرفت العديد من ملامحها بفكرك الثاقب وتجربتك النضالية الغنية... لن تردد في مواجهة هذه اللحظة «هرمنا...هرمنا» أنت الذي عشت شابا حتى القبر، من حيث سعة الروح والفكر. أتخيلك الآن في هذه اللحظة التاريخية بقلم متدفق على صفحات المجلات والجرائد وسلسلاتك المنتظمة...محللا، مساجلا، مطاردا الحدث بالتحليل والتفسير والتأطير التاريخي له، ومستشرفا الممكن والمتاح من تحول حسب وضعية وخصوصية كل قطر عربي... ولكن لنا في ما خلفته من تراث فكري متنوع ومتعدد الانشغالات الفكرية والسياسية ما يسد هذا الفراغ. هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها لك فيها الكثير «من التنبؤات» والأفكار والمواقف المؤسسة ضمن صرحك الفكري الهادف إلى إعادة تأسيس الفكر العربي المعاصر على قاعدة استيعاب واستعادة الجوانب العقلانية في تراثنا وتوظيفها توظيفا جديدا في رهان إرساء الديمقراطية والتقدم والعقلانية. ولآن المجال، والمناسبة لا يسمحان بالوقوف عند أعمدة هذا الصرح ومتنه، لنتوقف عند بعض الجوانب المرتبطة بهذه اللحظة التاريخية في وطننا العربي، والتي يشكل الجابري فيها مرجعا وأفقا: 1- في محاضرة ألقاها الفقيد الجابري في دجنبر من سنة 1967، سنة الهزيمة، بدعوة من فرع الجمعية المغربية لتربية الشبيبة، حول «دور الشباب في البلدان المتخلفة» (نشرت بمجلة أقلام، عدد 6 سنة 1968، وأعاد المرحوم نشرها ضمن سلسلة مواقف عدد 11)، توقف الجابري ببيداغوجية عالية محللا دور الشباب في كل المجتمعات باعتباره « القوة الحية الدافعة والأداة الحادة الصامدة، رابطا هذا الدور بالشروط التي تحدده وتعينه وذلك تجنبا كما يقول: «للحديث عنه حديثا طوباويا وعظيا»، فمثل هذا الحديث الوعظي? يقول الجابري: «لو يعد يلقى من الشباب إلا النفور لأنه مناف لطبيعته، مضاد لعقليته وطموحه»، ويشكل- بالتالي -عائقا للتفاعل الايجابي والمثمرمع تطلعاته وحركيته ...ما أبلغ هذا الدرس! ونحن نعاني اليوم من بعض الوعاظ الذين يريدون تنصيب أنفسهم أوصياء على حركة الشباب التي تملأ ساحات التحرير والتغيير في كل أرجاء الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه. ويواصل الجابري في محاضرته أمام شباب هزيمة 67 ( وهو واحد منهم آنذاك)، متسائلا «ماهي الشروط المحددة للدور الذي يمكن أن يقوم به الشباب في البلاد المتخلفة؟»و يجيب: «إنها شروط وضعية التخلف ذاتها»، ودون إعادة لمضامين هذه المحاضرة، وبعد تحليله لمظاهر التخلف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والديمغرافية، وتحديد التحديات التي تواجه الدولة الوطنية، وفي مقدمتها تحدي الشغل وبطالة الخريجين، كما استشرفها وتنبأ بها مبكرا (سنة 67) استخلص الجابري ما يلي: - أهمية الوعي بالتخلف، حتى لا يصبح تخلفا مركبا، فالتخلف ليس قدرا, وللشباب دور طلائعي في مواجهته، وذلك عن طريق «تعميق الوعي بالتخلف، وجعله وعيا إيجابيا، وعيا فاعلا قاصدا، متجها إلى الحركة والفعل»، هكذا يحث الجابري شباب جيله على المعرفة وإعطاء الأولوية للثقافة والعلم، فلا وعي بدون معرفة، والوعي عنده هو شرط الممارسة والفعل الإيجابيين والمؤسسين لأفق التغيير. - هذا الشباب المعول عليه لمواجهة التخلف بالوعي والفعل، مطالب في نظر الجابري أولا وقبل كل شيء «بمحاربة التخلف في نفسه، في فكره، في سلوكه واهتماماته»، فتخلفنا يؤكد الجابري، «ليس في الاقتصاد فقط ولا تخلفا في التعليم فقط، بل وأيضا تخلف في التفكير وتخلف في الاهتمامات». لو لم يستعجل الرحيل فقيدنا الكبير، لعاين وعاش اليوم ما يصنعه شباب الثورات العربية المشتعلة ضد الفساد والديكتاتوريات وتخلف السياسات العمومية، وسيقف أمامه بإعجاب واحترام مراجعا ومنتقدا كل الاحكام السلبية التي علقت به طيلة عقود من اليأس والإحباط والعزوف عن الشأن العام، وهي عقود سياسات رسمية أتقنت وأبدعت كل وسائل إبعاد الشباب عن الممارسة السياسية، وعملت كل ما في وسعها لتجريده من أحلامه وتطلعاته الطبيعية إلى الحرية والتغيير بما في ذلك وسائل القمع بمختلف أدواته اللا إنسانية. ثورة شباب اليوم تستعيد -ضمن سياق تاريخي مختلف- وهج شباب الأمس الذي كان وقود كل حركات التحرير الوطنية، وعماد فصائل النضال الديمقراطي في كل أرجاء الوطن العربي، والذي تشكل سيرة فقيدنا الذاتية ومساره السياسي النضالي والفكري جزءا لا يتجزأ منه . ان الدينامية السياسية النوعية في تونس ومصر واليمن وسوريا والمغرب تسقط كل الأحكام الظالمة لجيل شباب اليوم، وكما كتب الأخ الصديق عبد الإله بلقزيز متحدثا « عن الجيل الذي أخطأنا اكتشاف طاقاته» (مقال ب «أخبار اليوم» عدد 26 أبريل )2011: «لم ندرك إلا متأخرين أن ملايين الشباب العرب لم يكونوا جميعا جمهور «روتانا» وأشباهها، ولا ممن استلبتهم مباريات كرة القدم، ولا ممن يشمئزون من الاهتمام بالشان العام، وإنما كان في جملتهم شباب طليعي وواع ومثقف وشجاع، هو ذلك الذي رأيناه في شارع الحبيب بورقيبة، وميدان التحرير، و ساحة التغيير، وباب الأحد». فقيدنا الغالي، هاهي شبيبة اليوم تحقق الكثير من آمالك فيها، حملت المشعل، أسقطت ديكتاتوريات ومنظومات أمنية قمعية في تونس ومصر ومازالت صامدة في ليبيا واليمن وسوريا... ولا شيء سيوقف زحفها غير تحقيق مطالب الديمقراطية والحرية والعدالة والمواطنة الحقة، التي ناضلت من أجلها منذ يفاعتك على جميع الجبهات، فنظرت لها وأصلتها كمفاهيم ضمن الخطاب العربي المعاصر الفكري والسياسي، ودعوت كل التيارات على اختلاف مرجعياتها إلى التوحد حولها. 2- في كل محطات مساره الفكري والنضالي، ظل الفقيد الجابري يرفع عاليا مطلب الديمقراطية باعتبارها ضرورة وجودية وتاريخية، فلا نهضة في نظره بدون الديمقراطية، إلا أن المشكلة الرئيسية في تحقيق هذه الضرورة هي كما تناولها في أكثر من مقالة كيفية الانتقال إلى الديمقراطية في تربة غير حبلى بالديمقراطية. ويعتبر فقيدنا جوابا على هذه المشكلة أن المدخل الرئيس إلى الديمقراطية هو تأسيس الوعي بها في مجتمعنا العربي، أي أهمية الثقافة الديمقراطية كرافعة للبناء السياسي والمؤسسي لها، يقول في هذا السياق: «إن أولوية الثقافي تعني في السياق الذي نتحرك فيه اليوم قيام نوع من الإجماع الفكري بين جميع التيارات السياسية والطبقات والفئات بما في ذلك الطبقة المسيرة نفسها أو قسم منها على الأقل حول قضايا وأهداف وطنية وقومية تفرضها الظروف على الأمة ككل». هذا هو « الطريق الخاص» إلى الديمقراطية وشرط أية نهضة أو تقدم , ومضمون «الكتلة التاريخية» التي دعا ونظر لها فقيدنا، وساجل حولها الكثير من المتحفظين من هذه الدعوة، مؤكدا في أكثر من مناسبة ,أن الكتلة التاريخية لا تلغي اختلاف المرجعيات الإيديولوجية والعقدية، وإنما تؤجله، وأنها ليست أبدية، بل انتقالية، فهي في الأخير الجواب الممكن على حالات الانحلال والعجز لمختلف التشكيلات الحزبية والنقابية في أقطار الوطن العربي، إذ لا أحد منها بإمكانه لوحده تحقيق الديمقراطية والتنمية الشاملة. ويطمئن فقيدنا الأحزاب المدعوة إلى الانخراط في بناء هذه الكتلة التاريخية بأنها لن تخسر فيها «أحلامها ولا تاريخها»، الذي ستخسره هو»الشرنقة المترهلة التي تسجن فيها نفسها» (مواقف عدد 67). بل إن ربحها أكبر، فمن داخل هذه الكتلة التاريخية، باعتبارها أداة الانتقال إلى الديمقراطية، ستعيد هذه الأحزاب تجديد ارتباطها بالمجتمع «ارتباطا جديدا، حيا، فاعلا والمساهمة بالتالي في بعث الحركة فيه من جديد». تلك هي رؤية المرحوم الجابري الثاقبة للمجيء إلى الديمقراطية، رؤية مستمدة من «عقل سياسي نقدي»، ومن خلاصات تجربة سياسية وحزبية لفقيدنا تستحق أكثر من قراءة: تجربة اندغمت فيها السياسة بالثقافة، واندمج بعضها بالآخر، تجربة مدته بقدرات الاستشراف للمستقبل وبالتحديد لممكناته الموضوعية والمتاح فيه من إمكانات. ترى، أليس ما حدث في تونس ثم مصر من تحول كبير، وما يجري في ساحات تحرير وتغيير أخرى تحقيقا لهذا الاستشراف؟ أليس نسخا أولى «للكتلة التاريخية» وهي تحقق جزءا جوهريا من مهامها؟، حيث انصهرت الشعوب بكل طبقاتها وفئاتها وأقلياتها وتشكيلاتها السياسية والنقابية على اختلاف مرجعياتها الإيديولوجية والعقدية، وتجربتها التاريخية، في بوتقة واحدة لأجل أهداف ومطالب محددة، تحقق منها ما تحقق، ومازالت السيرورة ماضية إلى الأمام؟ رحل عنا المفكر المناضل محمد عابد الجابري، لكن روحه حاضرة وتلقي بكل ظلالها علينا... إنه غائب/حاضردائما... كأفق للتفكير... ومرشد للفعل.