إلى روح المفكر الألمعي والهرم الشامخ حيا وراحل عنا، السلام عليك، في مثواك الأبدي، ورحمة منه تعالى وبركات ! لم يكن ما قدمناه سابقا سوى قبسات سريعة مجتزأة من ذاكرته «الزمن الجابري» أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات الفارطة، زمن مشاركة العديد من النخب والفعاليات التربوية والاجتماعية، كما الجابري، في جهود التأسيس لبعض مقومات السياسة والثقافة وأدوار الجامعة والبحث العلمي في مغرب ما بعد الاستقلال، بل وحتى قبله أيضا في مسار حركة التحرر الوطني. وهكذا، ونحن طلبة جامعيون في المرحلة تلك، كتب لبعض المهتمين منا أن يستمعوا وأن يحاوروا مباشرة نخبة طليعية من هذه الرموز الفكرية والسياسية المزامنة للجابري. سواء في رحاب الجامعة ذاتها، أو في بعض المؤسسات الحزبية والنقابية والثقافية، مثل «اتحاد كتاب المغرب» أو مقرات بعض النوادي أو الجمعيات على ندرتها في الفترة نفسها. ولذا فإني أعتقد أن الذاكرة ما تزال عندي وجيلي، رغم توالي الأحداث والسنين، ممهورة بصور متألقة لرعيل من الرواد الأفذاذ من عيار الزعيمين: علال الفاسي، وعمر بنجلون وعبد الله إبراهيم من عالم السياسة والنضال، ومحمد الحبابي وعزيز بلال من حقل الاقتصاد السياسي، وعبد الكبير الخطيبي ورشدي فكار ومحمد جسوس وبول باسكون من مجال السوسيولوجيا، وعبد الكريم غلاب ومبارك ربيع ومحمد برادة ومحمد ابراهيم بوعلو من ميدان الأدب والثقافة، ثم عبد الله العروي وأحمد السطاتي والطاهر وعزيز والمفكر الرائع نجيب بلدي، وعلي أومليل...وغيرهم من مجالات الفلسفة والتاريخ والفكر العربي الإسلامي. هذا كي لا نذكر هنا، سوى نماذج مشعة مؤثرة من هؤلاء، ممن جايلوا الفقيد الجابري في بعض سنوات المرحلة الآنفة. وأنا ألم تشظي هذه القبسات من ذاكرة مثقلة بالمشاهد والصور والهموم وزخم الإحساس بالتاريخ الوطني والقومي، أستحضر شعورا عميقا ظل يخامرني على الدوام. وهو شعور مفاده أن القارئ المتمعن في « حفريات في الذاكرة » الذاتية والجماعية لهذا الشاب الوافد على البيضاء « من بعيد»، من مدينة «فجيج» العريقة المهمشة المقصية في إحدى الفيافي الشرقية مما أطلق عليه بعض دهاقنة الاستعمار توصيف «المغرب غير النافع» زورا لا حقيقة، أقول: إن هذا القارئ سيدرك أن هذا الجابري العظيم لم يرتق أو يلفق أو يرقع عناصر «مشروعه» من شتات أفكار مبعثرة، أو على بقايا أو آثار أعمال أو جهود أو محاولات مبتورة لا يلمها ناظم أو توجه أو رؤى...وإنما تم له ذلك خطوة واعية وئيدة بعد خطوة، ولبنة فوق أخرى..مما أعتقد أن الله لو منحه عمرا أطول مما قدر له وأراد لظل يرعى باستمرار ما استوى له من «مشروع معرفي» شامخ، متعهدا بناءه المرصوص بالكثير من جهود واجتهادات التطوير بالإضافة والنقد الذاتي والتجديد المتواصل كما عودنا. فمنذ عهود تلمذنه الأولى في البيضاء-سواء بشكل مباشر أو غير مباشر-على بعض رموز فكر حركة التحرر الوطني من قبيل: المهدي بن بركة، وعلال الفاسي، وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد، ومحمد بن الحسن الوزاني، وعبد الخالق الطريس وغيرهم، إلى متابعته للدراسة الجامعية في دمشق «الفيحاء» عاصمة الشام وأحد مواطن القومية العربية المتأصلة - وهذا ما أحسسته شخصيا وأنا أتجول في شوارعها القديمة والحديثة، وفي أزقتها ومعالمها وحاراتها العتيقة: نسخ مشاعر قوية قومية إسلامية ومسيحية متجذرة في الوجدان والسلوك ...- وأخيرا، إلى عودته إلى الوطن ليشتغل في ميادين التربية والثقافة والصحافة والسياسة...مستكملا مواصلة تكوينه العلمي والاجتماعي... لا مشاحة في أن المتتبع لمسار هذا الرجل المكافح: باحثا ومربيا وفاعلا سياسيا...سيدرك، بلا شك، أنه أمام نموذج إنساني فريد تميز، في هذه المحطات الأولى لمسار نضاله الطويل، بكونه واعدا بالكثير من الذكاء والطموح وبعد النظر وقوة وغزارة الإبداع والعطاء، وكذلك كان. لا انوي، في هذه الكلمة/الشهادة، أن أكتب بالعمق الكافي، عن منجز الجابري المتسم بالسعة والتشعب وتعدد الاهتمامات والقضايا. وأزعم أن ذلك يتجاوز-في رأيي على الأقل-حدود وإمكانات القدرة الفردية إلى مستوى المهام الجماعية، التي أطمح، بل أدعو، إلى إناطتها بهيئة مستقلة متخصصة أقترح تسميتها ب «مؤسسة أو مركز الجابري لدراسات الفكر العربي» تكون ذات أبعاد وتوجهات ووظائف وطنية وقومية متكاملة، تهتم بالبحث العلمي في تراث الجابري، كما في قضايا واقع ومستقبل العالمين العربي والإسلامي، وما يرتبط بذلك من حوار وتبادل وانفتاح بين الثقافات والحضارات المختلفة. وكل ما أسعى إلى القيام به هنا هو تسجيل مجموعة من الملاحظات الأولية، التي من الممكن أن تشكل فرضيات أو مداخل لقراءة تتبعية لأهم تطورات مسار الفكر الجابري. وأوجز ذلك فيما يلي من مراحل أو آنات أساسية في هذا المسار: 1) مرحلة التخطيط والإعداد وتهيئ الأسس وأدوات البناء: لقد أشرنا سابقا إلى ما يمكن وسمه ب «استراتيجية البناء التدرجي المرحلي » التي انتهجها الجابري في تكوين مشروعه الفكري الكبير. وهكذا، فبعد مرحلة التكوين الذاتي الأساسي، المشار إليها أيضا فيما سلف، حل دور المرحلة التخطيطية هذه. وقد اهتم فيها، على الخصوص ب «المسألة المنهجية» في أبعادها ومقوماتها المفاهيمية والنظرية وأدوات البحث والقراءة والحفر والتفكيك...ويتمثل ذلك في اهتمامه، بحثا وتدريسا، بقضايا الإبستمولوجيا وفلسفة وتاريخ ومناهج العلوم الدقيقة منها والإنسانية بشكل عام. ومنذ أواخر الستينات حتى أواسط، السبيعينات على وجه التقريب. مع التذكير بأن «إشكالية المنهج » قد ظلت قضية محورية في مشروعه العام، وفي كل فترات تطوره وتناميه. 2) مرحلة الأجرأة والتجريب: إذا كانت أطروحة الجابري حول ابن خلدون في مطلع السبعينات تعتبر بداية فعلية أولى لاختبار«عدته النظرية والمنهجية» في قراءة ونقد التراث العربي الإسلامي، تلك النواة الصلبة في مشروعه الفكر، فإنه قد واصل هذا التجريب المنهجي إلى مستهل الثمانينيات، كما نتصور. وقد قام بذلك، وفق خطته التدريجية، على امتداد فترتين متكاملتين: * فترة قراءة وفهم واستيعاب «النصوص المؤسسة» في تاريخ الفكر العربي الإسلامي: وهنا قدم الجابري اجتهاداته النقدية المتميزة في قراءة تراث بعض أبرز أعلام هذا الفكر مثل: ابن خلدون، وابن رشد، وابن سينا، والفارابي، والشاطبي وابن باجة...وقد أثمرت هذه الاجتهادات كتابه الهام: « نحن والتراث»، الذي أثار في الساحة الجامعية والفكرية مغربيا وعربيا مجموعة من السجالات الحادة أحيانا حول مفاهيم: التراث، والقطيعة المعرفية، وعلاقة المشرق بالمغرب/الغرب الإسلامي، ومدى صلاحية بعض التوجهات والأدوات المنهجية في مضمار قراءة التراث...إلخ. * فترة الانشغال بقراءة ونقد «النصوص الفارئة » للتراث: وفيها قام بمراجعات نقدية للأسس النظرية والمنهجية لأعمال كل من حسين مروة في «نزعاته المادية... »، وطيب تيريني في «مشروع رؤيته الجديدة للفكر العربي في العصر الوسيط». وقد كانت كتابات وبحوث هذين المفكرين الكبيرين-وبما هي أعمال مؤسسة ورائدة بدورها-من الذيوع والانتشار بين مدرسي وطلبة الفلسفة بالذات، ما جعلها تحتل عندهم مكانة مرموقة، موجهة للكثير منهم في البحث والتساؤل والجدل الفكري والسياسي والثقافي العام. لذا كانت الطروحات النقدية للجابري حول مشروعيهما، بل وحول أعمال غيرهما أيضا، مثارا لنقاشات ثرة غنية، ولاسيما حول إشكالية النظرية والمنهج في قراءة وفهم وتأويل التراث في أوضاعنا الفكرية والسياسية والسوسيوحضارية الراهنة. ولعل من أهم ما تولد عن مخاض هذا الجدل الساخن ما قدمه الجابري من أفكار ورؤى في منابر ومناسبات مختلفة، ضم بعضها كتابه حول «الخطاب العربي المعاصر...» في مستهل الثمانينيات، نقلته النوعية الجديدة حينها في مسار تهيئة التأسيس لمشروعه القابل الأساس. ثم ليحتضن »حوار المشرق والمغرب« بينه وبين الفيلسوف العربي الكبير حسن حنفي بعضا آخر من هذه المماحكات الفكرية الرائعة المفيدة. ثم ليواصل الجابري، وبنفس أطول وأقوى، اجتهاداته العميقة وعمله المتواتر الدؤوب... 3) مرحلة الانخراط الفعلي في مسيرة تشييد مشروعه الفكري الكبير: مشروع «نقد العقل العربي» الذي يبدو أنه يشكل، منذ البدايات الأولى لاهتمام الجابري بإشكاليات التراث العربي الإسلامي، «البوصلة الموجهة» لديه لهذا الاهتمام، والمحركة لانشغالاته الفكرية ضمنا وعلنا. وهكذا، وبعد أن أدرك انه قد استكمل-ولكن ضمن حدود نسبية معقولة-تعبيد أرضية الانطلاق الضرورية للتأسيس، والى،في فترة الثمانينيات، إصدار رباعية/أجزاء مشروعه الفلسفي الطموح، وليعلن عن «مغامراته الفكرية» المستفزة في مفازات ومجاهل «نقد العقل العربي» مستعملا في ذلك «عدة منهجية» من المباضع والمشارط الإبستمولوجية والسوسيوتاريخية والفلسفية... وكل مقاصده المعرفية والاجتماعية، الظاهرة منها والمضمرة والواعية واللاواعية، كانت تصبو إلى الكشف الموضوعي الدقيق عن «بنية وتكوين» هذا العقل والإمساك بتلابيب خصوصياته ومقوماته «البيانية والعرفانية والبرهانية» ،ورصد مجالات وتمظهرات اشتغاله »السياسية والأخلاقية...«... 4) مرحلة التوسع والامتداد: تلك التي أحس فيها بضرورة تطوير مشروعه كي يشمل قراءة وتحليل و«فهم القرآن الحكيم»، بما هو «نص وأصل مؤسس» لكل ماسبق له أن اشتغل عليه من نصوص، هي، في الواقع، فهوم وتأويلات ومتون متولدة عن هذا النص المؤسس ذاته، مشتقة من جهود ومشاريع الانهمام به والاشتغال عليه. ولذا أعتقد أني لن أجانب الصواب إذا قلت-انطلاقا من قراءتي المتواضعة للجابري-إن انتقاله إلى هذه «القارة الواسعة» من البحث والجهد والسؤال قد تم داخل مشروعه ذاته وليس خارجه، كما يزعم البعض. ولعل المتغير الجديد في مقاربته وتعامله مع نص القرآن الكريم يكمن، على ما يبدو، في بعض التحوطات النظرية والمنهجية، وفي اعتماد أساليب وأدوات بحث وقراءة وفهم وتفسير جديدة «مطابقة: Adéquate » أرادها الجابري أن تكون، في هذا السياق، ملائمة لما يمتلكه النص المقروء من قداسة دينية، ومن مكانة اعتبار سامية في الوجدان والسلوك، وفي تمثلات الوعي ومنظومات القيم والمعارف والثقافة الإسلامية... وعطفا على ما سبق فإنه يتوجب علينا التذكير هنا بمعطى معرفي ومنهجي هام، ألا وهو أن المراحل التي أوردناها آنفا باعتبارها آنات في تطور وتجدد مشروع الجابري لم تكن أبدا منفصلة عن بعضها البعض، وإنما ظلت دوما متآزرة متفاعلة اللحظات متكاملة المضامين والمكونات...وبالتالي فإنه ينبغي أن يتم النظر إليها ضمن وحدة موجهات وأهداف هذا المشروع، على سعته وتشعبه وامتداداته وملامساته لقضايا وإشكالات معرفية وسياسية واجتماعية مختلفة متعددة...وحدة تتمثل في محاولات الجابري نقد وفهم واستيعاب تراثنا العربي والإسلامي، وتحريره من «أوهام الذات» ومن «سلطاتها المرجعية التقليدية» بكل ما تقوم عليه من رؤى وآليات معرفية في البحث والفهم والتفسير...غالبا ما تقرأ هذا التراث قراءة سكونية جامدة ولا تاريخية، فتجتثه بذلك من سياقه وزمنه وخصوصيات انبنائه وتحوله، اشكالا ومضامين ومنطلقات...والعمل أيضا على تخليصه من منزلقات السقوط في «أوهام ومرجعيات الآخر الغربي»، وفي تبعية ساذجة أو مغرضة لنظرياته ومناهجه الحديثة في البحث والتحليل، رغم قيمتها المعرفية الكبيرة. لذا، وفي إطار التعامل الجدلي الدينامي النقدي للجابري مع هاتين المرجعيتين الذاتية والغربية، فقد ظل يؤكد باستمرار على وعي مسألة أساسية وحاسمة في أعماله. ألا وهي أن توظيفه ل «عدده النظرية المفاهيمية والمنهجية» في هذه الأعمال يجب ألا تفهم معه في معانيها وتعاريفها المتداولة المباشرة، بل ينبغي أن تدرك في إطار بنية النصوص، وضمن السياقات والمناخات الفكرية والسوسيوحضارية التي يوظف فيها هو نفسه هذه العدة المذكورة. سواء اقتبس عناصرها من ماركس أو فرويد أو لاكان أو باشلار أو بوبر او ألتوسير أو غوديليي أو غرامشي وصولا إلى فوكو وديريدا وغيرهم من رموز الفكر الغربي الحديث والمعاصر...وهو بذلك يؤكد، في تصورنا، على أطروحة معرفية ونقدية شارطة، تتمثل في كون النظرية، في مجالات الفكر والعلوم الإنسانية والاجتماعية تحديدا، ليت سوى «دليل أو مرشد عمل» لمقاربة وفهم الواقع المبحوث والتعرف عليه، وذلك بدلا من لي عنق هذا الواقع وإجباره على الاعتراف قسرا بمقتضيات هذه النظرية وتوجهاتها، كما تفعل ما يسمه ب «النظريات والمناهج المطبقة» والمرجعيات الجاهزة. تلك التي تقوم باسم دعوات التحديث والتجديد والإنماء...، ب«إسقاط» مفاهيمها وتصوراتها النظرية والمنهجية، الغربية بالذات، على الواقع المعني، فتسقط فيها أسميه «تحديثية مستوردة مقلدة» مستغربة وغربية، في الآن ذاته، عن خصوصياتها الذاتية، وعن سياقها الكوني العام. ونحن نسير بهذه الكلمة/الشهادة عن الفقيد الجابري نحو نهايتها المتمنعة عن فكري، العصية على وجداني في مثل هذه الظروف القاسية، يبدو أنه من المفيد أن نذكر ببعض أهم ما يمكن أن يستخلص من «درس الجابري» من عبر وملاحظات، قد تصلح لأن تكون-ولو ضمن حدود هذا النص ومقصديته الفكرية والإنسانية...-مثارا لنقاش، أو منطلقات لقراءة ومساءلة جديدة ل «المنجز الجابري». وأجمل ما هو أساسي ودال من ذلك فقط فيما يلي من ملاحظات مركزة سريعة: 1) لعل من أهم ما يحسب للجابري، في تقديرنا، أنه قد نجح إلى حد بعيد-بفضل سلاسة أسلوبه، وحسه البيداغوجي الناضج في الكتابة والتحليل والتفسير وعرض الأفكار، ومعالجة القضايا والإشكالات المعقدة، واستحضاره وتوقعه لردات فعل المتلقي وانتظاراته ل «التغدية المرتجعة: الفيدباك» ...- في تيسير مهمة فهم التراث العربي الإسلامي، بل وحتى بعض قضايا وإشكاليات التراث الغربي، على القارئ في مجتمعات العالمين العربي والإسلامي. فامتدت أعماله وطروحاته النقدية إلى المتخصصين وغير المتخصصين في أقصى هذه المجتمعات. وقد وقفت على حقيقة ذلك بنفسي في أندونيسيا بالذات. فبينما كنت في صيف (2007)-ضمن وفد مغربي في رحلة ثقافية/سياحية بدعوة من وزارة الشؤون الدينية-ألقيت مجموعة من المحاضرات في عدد من المعاهد والجامعات الإسلامية الحكومية والأهلية، في جاكارطا وشيربون وصوراكارطا وجوكجاكارطا...إلخ. وأتذكر أن نخبة من الإخوة الأساتذة والطلبة هناك، ومن تخصصات وأجيال مختلفة، قد أمطروني بوابل من الأسئلة عن الجابري. ولما عرفوا أنني كنت أحد طلبته قبل أكثر من ثلاثين سنة خلت، تحول بعض محاضراتي حول (اللغة العربية، والهوية، والعولمة، والتحديات الحضارية في مجتمعات العالم الإسلامي) إلى أحاديث، مطولة أحيانا، عن أعمال ومشروع الجابري. وقد بدا لي حينها أن الكثير ممن انتقدوه في هذه المسالة بالتحديد، قد جانبوا الصواب إلى حد بعيد. وذلك في اتهامات بعضهم له ب «التبسيطة والاختزال والتجميع المعلوماتي، أو بالطابع المدرسي أو التحريضي أو الشعبوي أو الإيديولوجي لأفكاره...».والواقع أن ذلك، في تقديرنا وكما أسلفنا، يحسب له لا عليه، كما يعد مكسبا فكريا كبيرا، لا للجابري كفرد، وإنما لصالح رواج وتداول التراث العربي الإسلامي بين شرائح متعددة ومتنوعة من أجيال ومستويات وحساسيات ومعتقدات وانتماءات القراء على هذا المستوى القومي الشامل. 2) وبالرغم من أن إشكالية فهم ونقد التراث قد ظلت »بؤرة محورية« في مسار مشروعه الفكري المنوه به فيما سبق، فإن اهتماماته-كمناضل سياسي منخرط في مجالات العمل الوطني والقومي...-قد امتدت لتشمل قضايا تربوية وسياسية وسوسيواقتصادية وفكرية وثقافية متعددة. وهكذا، ومنذ بداية سبعينات القرن الفائت، وهو يلقي «أضواءه على مشكل التعليم بالمغرب العربي»، و«التعليم بالمغرب العربي»، وذلك «من أجل رؤية تقدمية...» لمقاربة بعض مشكلاتنا وقضايانا التربوية والفكرية والاجتماعية، والتي من بين أهم ما عالجه منها إشكاليات: الدولة الوطنية، والاشتراكية، والوحدة القومية، والكتابة التاريخية، وقضايا النهضة والحداثة والتقدم والتحرر، وإعادة كتابة التاريخ الوطني والقومي، ونقد المشروع النهضوي العربي...مرورا بتناوله أيضا ل «المسألة الثقافية»، وإشكالية «الديموقراطية وحقوق الإنسان»، و«الدين والدولة وتطبيق الشريعة»...، وصولا إلى «نقد الحاجة إلى الإصلاح». في أبعاده ومرجعياته وشروطه وحدوده...، وتقديم أطروحاته حول «العولمة وصراع الحضارات، العودة إلى الأخلاق، التسامح، الديمقراطية ونظام القيم، والفلسفة والمدنية»...إلخ. هذا كي لا نذكر هنا سوى ببعض القضايا الأساسية البارزة التي تهم الشأن السوسيوثقافي والسياسي والفكري، وطنيا وقوميا وكونيا، والتي انشغل بها المرحوم الجابري، ثم طورها ووسع دوائرها في سلسلة «مواقف»، وفي مقالاته المنشورة في مجلة «فكر ونقد»...وكل هذا كان، في منظورنا الخاص، يصب في تدعيم مشروعه المركزي المعني بنقد وفهم التراث. كما كان يجعل منه ذلك «المثقف العضوي» المنخرط في قضايا وهموم الوطن والأمة والإنسانية. محاولا دوما أم يجمع في تطور مساره الفكري والنضالي بين الباحث الأكاديمي الملتزم بقواعد وأصول وأعراف وأخلاقيات البحث العلمي، وبين «المثقف والمربي والمواطن والمناضل...» الحامل لرسالة، وصاحب قضية ودور ومهام...أعتقد انه على وعي كبير بمصاعبها وتحدياتها وحدودها ورهاناتها الفكرية والإنسانية... 3) ولعل من أهم الجوانب الإيجابية والمشرقة في فكر الجابري أنه كان على وعي عميق أيضا بأن الصراع على فهم ونقد التراث هو، في مضمونه الإبستمولوجي والسوسيولوجي، نوع من الصراع السياسي والإيديولوجي على المستوى النظري المعرفي. ولذا، فالبرغم من دفاعه عن طروحاته ووجاهة وجدة وجدية مشرعه الفكري النقدي، فإنه قد كان في نفس الآن، يؤمن بنسبية المعرفة، وبالتالي بضرورة تنسيب الأفكار والفهوم والمقاربات والشروح والمواقف والأحكام وأشكال التقييم المختلفة...في هذا الإطار يمكن أن يفهم معرفيا وتاريخيا ما كان يدعوه هو نفسه ب «تملك التراث» علميا عبر اتخاذ المسافة الموضوعية الضرورية لقراءته وفهمه في تاريخيتة الخاصة، أي جعله «معاصرا لنفسه» مزامنا لسياقه الزمني الخاص، ثم الإنطلاق من ذلك في جعله «معاصرا أو مزامنا لنا». وذلك ضمن وعي معرفي وسوسيوتاريخي يمكننا من «توظيف» هذا التراث في لحظتنا الحضارية الراهنة، واستدماجه، بشكل عقلاني مستنير مواكب، في هموم العصر ومشاريع النهوض الوطني والقومي حاضرا ومستقبلا...وفي هذا الإطار ذاته ينبغي، في تقديرنا، فهم مقاصد وتوجهات الجابري من إشرافه على « مشروع» تحقيق ودراسة وتجديد نشر«مؤلفات ابن رشد»، كما صدرت مؤخرا في «مركز دراسات الوحدة العربي » في بيروت. وعلى اعتبار أن هذا العلم الإسلامي المؤسس يشكل نموذجا فريدا ل «عقلانية تراثية مستنيرة» ما تزال، كما يعتقد، صالحة للتأسي والاستفادة والإستئناس و «استئناف البدء» في مسيرة نهضتنا في شروط ظرفيتنا الراهنة. وذلك اعتمادا على ما هو مشرق وأصيل في مقومات تراث الذات، وفي منتوج وحضارة الآخر أيضا. وفي إطار حوارية تفاعلية ديناميكية ومنتجة بين هاتين المرجعيتين: الذات والآخر. 4) ضمن الشروط الإبستمولوجية والتاريخية لإنتاج المعرفة في المجال الفكري والعلوم الإنسانية بشكل عام نرى أهمية قراءة «المتن الجابري» في زمنيته المتعينة، التي أسهمت في إنتاجه وتحديد توجهاته ومقوماته الأساسية...قراءة تستحضر بوعي نقدي تاريخي خلفية صاحبه التكوينية والتنشيئية، وهمومه التربوية، وإسهاماته الأكاديمية في البحث والتأطير وتوجيه الأجيال الجديدة من الباحثين والمربين، وتحولات مساره النضالي، ودلالة استقالته من«المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» سنة 1981 وتفرغه، بعد ذلك، لمشروعه الفكري الهام، دون أن يستقيل من الحياة السياسية العامة، فكرا وانتماءا وممارسة اجتماعية...، وصولا إلى محطات حاسمة في تطور وتنامي مشروعه ذاك، وأشكال قراءته وتلقيه وتداوله في الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة... لذا يبدو لي أنه، بالرغم من الجهود المبذولة في قراءة ونقد المتن المذكور، من قبيل ردود المفكر العربي الكبير طيب تيزيني، ومشروع «نقد العقل العربي...» للمترجم والكاتب المتميز جورج طرابيشي، ومواقف وتحليلات الفيلسوف العربي المجدد حسن حنفي...، مانزال في حاجة أكيدة إلى إنضاج الوعي المعرفي والسوسيوتارخي فقط، ولكن اعترافا بالقيمة العلمية والحضارية الوازنة لمنتوج فكري عربي إسلامي وإنساني هادف ومتميز على أكثر من صعيد. وربما لهذه الحيثيات كلها، ولكون الجابري ذاته أيضا قد تلقى ما كتب حول أعماله من نقد في إطار«تموقع استراتيجي مهادن»، ولم يضع نفسه دائما في خندق الدفاع عن النفس، ولم يدخل في متاهات الردود أو المناقشات أو الصراعات الشخصية اللهم إلا ما كان من حوارات هادئة جادة ومسئولة، فقد كانت كل الزوابع والهجمات النقدية الشرسة التي وجهت إليه، على اختلاف أهميتها وتفاوت وزنها وصدقيتها ونجاعتها العلمية...، في صالح فكره، ولِجهة تدعيم رواجه وانتشاره على أوسع نطاق. ألا تستحق منا أعمال فكرية، كانت منطلقا أو موضعا لبحوث قيمتة ومشاريع فكرية هامة، ما هو منتظر من الباحث والمهتم من جهود القراءة وعمليات التتبع والاهتمام...؟ ولهذه الاعتبارات كلها فإني لا أرى، مع أستاذنا الكبير طيب تيزيني، أنه برحيل الجابري يمكن أن نقول ما مفاده «أن صفحة ما من صفحات الفكر العربي المعاصر قد طويت...». اللهم إلا بالمعنى الذي يفهم منه أن هذا الرحيل يشكل إيذانا بتجديد استئناف البدء في جهود البحث ومشاريع التفكير والتأسيس...وبفتح صفحات وآفاق جديدة في مجال قراءة ونقد أعمال الجابري خاصة، والفكر العربي والإسلامي بشكل عام. وهكذا ستكتب للجابري ولادات جديدة وحيوات متجددة متعددة ومتواصلة كلما تعددت وتطورت-وربما لقرون قادمة، كما هو شأن معلمه وسلفه ابن رشد وأترابه العظام-أشكال ومستويات قراءات وفهوم وتأويل الأجيال اللاحقة لمنجزه المعرفي، واقتحامها المستحق لمحاورة عقلانية مستنيرة، كما هو فكره ومساره، لقضايا ومعضلات الماضي والحاضر والمستقبل، وطنيا وقوميا وإنسانيا... وفي هذا السياق بالذات أستحضر عبارات دالة من كلمة تأبينية للفقيد كتبها أحد المثقفين والساسة البارزين الإسبان، ألا وهو: ميغل أنخيل موراتينوس، يقول فيها: «...كان كل من الجابري وابن رشد يريان أن علاقة الحوار بين الثقافات محكومة بثلاث قواعد: فهم الآخر في منظومته المرجعية، والاعتراف بحق الاختلاف، والتفهم الذي يستند إلى بعد التسامح والحلم. وهذه المبادئ، كما يلخصها الجابري، تتمتع بقيمة كونية، ويمكن تطبيقها على كافة المجموعات الثقافية التي قد تطالها علاقة التضادية أو العدائية، مثل حال أوروبا والعالم العربي(...)وأنا كإسباني أرى في سيرته الذاتية والفكرية أملا للمستقبل»، (الاتحاد الاشتراكي، 03/06/2010). إنها الصورة المشرقة لخلود الفكر الأصيل. مع التذكير بوعي ما أسلفناه حول نسبية المعرفة ومحدودية وحدود الفكر الإنساني، وتجنب الدعوة إلى تبني أي منظور تقديسي أو تحنيطي جامد أو متحيز لمصداقيته أو صلاحيته التاريخية. ولكن هذا لا ينفي-كما تعلمنا دروس التاريخ-أن رموزا ونماذج من هذا الفكر تظل، بشكل ما وبقدر معين، متحدية للفناء والإندثار، مقاومة للتلاشي، متوهجة الحضور المتألق المتواتر في الزمان وفي المكان. حتى ولو بقيت مع ذلك قابلة للنقد والتطوير والمراجعة وإعادة النظر المستديم، بل وحتى للتفنيد والتجاوز. هكذا يرحل الجابري عنا ولا يرحل، يغادرنا إلى مستقره الأبدي هناك، إلا أنه، رغم قساوة اليتم وفداحة الخسران، لن يرحل. ذلك أنه غاب عنا فقط جسدا وصورة منذورين للفناء في سنن الله، بينما سيحيى بيننا روحا زكية وفكرة مضيئة متوقدة في الذاكرة والعقل والوجدان، وسيخلد جذوة متأججة تذكي فينا حمية الوفاء والاعتراف، والانتصار للقيم الفكرية والخلقية والدينية والإنسانية النبيلة التي عاش مناضلا من أجل تأصيلها في التفكير والممارسة: قيم ومبادئ الفضيلة والعدالة والجمال والتسامح والتواضع والتعفف والإيمان والانفتاح وتقبل التعدد والاختلاف والتنوع البشري المبدع الخلاق...ومجابهة كل أشكال الظلم والإقصاء والفساد والعنف والتطرف والانغلاق في الفكر والمعتقد والسلوك... لن تموت أيها الجابري الكبير، أيها «الأسطورة» الخالدة التي، كما كل أساطير البشر المذهلة، تظل متحدية لحدود الأزمنة والأمكنة والتواريخ...لأنك عشت، فعالا وعقيدة، فضائل «المعلم المؤسس»، الموسوم بكونه «أمة في واحد»، وفردا نادرا مسئولا يحمل هموم ومطامح وطن وأمة وإنسانية...و«سمفونية» ساحرة من الإبداع والاجتهاد... بكل هذه المعاني الجميلة وبأروع منها ستبقى بيننا حيا ترزق، قدوة بهية للأجيال، وقبسا متألقا من نور يبدد تيهنا في الحلكة الداجية لهذا الزمن الضائع المختل. فالعظماء أندادك لا يموتون أبدا، لأنهم هم وحدهم الأقدرون على قهر هذا الموت العنيد الغاشم، وهزم الفناء، والظفر بما وعد الله به عباده من الشهداء والصالحين من فوز بحظوة معانقة المستقبل، وبنعمة ذلك الخلود المعنوي السرمدي، الذي يَجُب، في سموه الروحي الفريد كل بقاء أو خلود!