إلى روح المفكر الألمعي والهرم الشامخ حيا وراحل عنا، السلام عليك، في مثواك الأبدي، ورحمة منه تعالى وبركات من رحم التعب المُمٍض أنتزع هذه الشوارد التي لا أدري ما إذا كانت تعزية فيك أو رثاء لك أو تكريما أو مديحا للشيم الحميدة لشخصك الكريم. وكل ما أحسه الآن أنها انتفاضة من القلب والفكر عفوية بلا ضوابط أو حدود، أملتها على الخاطر أهوال اللحظة وفداحة فقدانك أيها العلم الفذ العزيز. فتقبلها مني، أنت وأهلك وذووك ومحبوك، صادقة مخلصة عارية من أي تنميق أو رتوش أو تصنع أو نفاق...! في أحد أيام مايو: (03/05/2010)، وبينما كنت، كعادتي بمكتبي في أوائل الصباح، أرمم بعض نتوءات نصوص آخر ما كتبت: (شهادة ومداخلة فكرية) كنت قد هيأتها بمناسبة تكريم أستاذنا: عالم الاجتماع المغربي محمد جسوس، زميل الراحل الجابري ورفيق دربه في بعض محطات نضالهما السياسي المشترك. ويرن هاتف منزلي، فإذا بالباحث الاجتماعي الشاب الواعد: ذ.عبد الرحيم العطري يحمل إليٌ نبأ وفاة أستاذنا الجابري، تلك المنارة المضيئة في عتمة هذا الزمن الثقافي المغربي العاثر، وفي سماء الفكر العربي والإسلامي والإنساني، الذي ليس أقل حظا من التعثر والتيه والضلال...إلا ما نجا من تبور ذلك من نماذج واستثناءات مشرقة مائزة. كانت المفاجأة مبرحة صادمة الوقع. إلا أني سرعان ما حاولت استيعاب رجتها العاتية حين استسلمت، في هدوء وجلد وإيمان، لمشيئة الله، ولقضائه الذي لا يرد، ولسنته النافذة في هذه الحياة، وحين أسعفتني البصيرة بما اْلتمع في الذهن من حقيقة أن العظام، أمثال الجابري، لايموتون، بل يبقون، روحا وفكرا، أحياء متألقين في عوالم الخلود السرمدي. ولم تمض سوى دقائق معدودة حتى رن الهاتف من جديد. إنه هذه المرة الشاب الباحث والصحافي المناضل ذ.أحمد ويحمان يعزيني بدوره في فقيدنا الكبير. ودون أن يمهلني للرد أو الحديث، استطرد: « لقد اتصلت هاتفيا قبل أيام بالأستاذ الجابري، وأخبرته بأننا ننوي زيارته في بيته بالدار البيضاء في أحد أيام الجمع المقبلة بإذن الله. وذلك بعد أن نكون قد تناولنا غذاءنا (وجبة الكسكس المغربي) في منزل صديقه الأثير والمناضل الطيب الأخلاق أخينا الأستاذ عبد القادر الحضري. وسألته عن صحته-يضيف أحمد-فطمأنني، ولم يكن يزعجه سوى طنين في الأذن أمسى يعاوده، هذه الأيام، بين الفينة والأخرى...هكذا يا سي مصطفى لم تكتب لنا زيارة أستاذنا الجابري...»، فواصلت: على الأقل لصلة الرحم وتجديد عهد اللقاء به قبل رحيله إلى دار البقاء ومغادرته لهموم وشواغل هذه الدنيا اللعوب الفانية! فليرحمه الله وليسكنه فسيح جناته، وليمطر روحه شآبيب المغفرة والرضوان... ! وتوالت المكالمات من كل مكان على هاتفي الثابت والمحمول معزية مواسية، ومن العديد من المثقفين والطلبة والأصدقاء...، بل حتى من أولائك الذين لم يسبق لهم مقابلة الجابري أو رؤيته مباشرة أو مجالستة...اللهم إلا بواسطة علاقتهم الروحية به عبر أعماله المؤسسة الرائدة. وكانت كل مكالمة تنتهي بما يفضل المؤمن أن يختتم به كلامه في مثل هذه المناسبات الأليمة، من دعوات ترحم، والتجاء إلى الله، وترديد متواتر للآية الكريمة الحكيمة: «إنا لله وإنا إيه راجعون». وفي غمرة ذهول عارم لم تصمد أمامه كثيرا معاندتي القوية المتحدية، هرعت أضرب في شوارع المدينة أبحث في أحد فضاءاتها عن نخبة من جلسائي من بعض الصحافيين والكتاب والمناضلين...إلا أنني، ولسوء حظي، لم أجد منهم أحدا ممن كنت أهفو إلى أن يشاركني آلام ومشاعر هذا المصاب الجلل العظيم. لذا فحينما عدت مغبونا إلى منزلي، لم أشعر إلا وأنا أهوي بالخبر كالصاعقة على زوجتي وهي عائدة لتوها من أداء واجبها التربوي. هدأت من َروْعها، وأدركت عندها أنني فقدت الكثير مما كنت أتسم به من حكمة وسلاسة في تمرير مثل هذه الأخبار غير السارة إلى من يحيط بي من الآخرين. ومنذ حوالي شهر قبل هذا الحدث الأليم كنت قد رتبت، مع طلبة « مركز التوجيه والتخطيط التربوي» حيث كنت أعمل، موعدا مفتوحا معهم حول كتابي الجديد: « مدرسة المستقبل...» وذلك يوم الأربعاء الموالي لهذا الحدث المذكور. وكدت أعتذر عن هذا اللقاء للظرف ذاته، إلا أنني استقويت على ضعفي ببقية من عناد وإصرار على المواصلة والاستمرار. وكان في نيتي ألا أبدا كلمتي إلا بعد الدعوة إلى ترحم جماعي على الأستاذ الجابري. غير أني فوجئت أن الطلبة، وعلى غير المعتاد، قد افتتحوا الجلسة بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم. ولما انتهى الطالب من هذه التلاوة التفت إلى جمهور الطلاب والحضور قائلا: « بما أننا فقدنا في هذه الأيام علما كبيرا من أعلام الفكر المغربي والعربي والإسلامي والإنساني د. محمد عابد الجابري، الذي كان أستاذا لضيفنا مصطفى محسن، فإني أدعوكم للوقوف وقراءة الفاتحة ترحما على روح الراحل الكبير»، وكذلك كان. وقد أكبرت في هؤلاء الطلبة -وكلهم من رجال التعليم-هذه الالتفاتة الإنسانية المعبرة بما توحي به من نُضح تربوي محمود، ومن تقديرهم لهذا المربي والمفكر الفقيد. عالم اجتماع ومفكر عربي/الرباط/ المغرب