أستاذي العزيز، أعرفُ، عن غيرِ قليل من اليقين، أنك نجحتَ في أن تؤجِّلَ موتك مُذْ داهمتْكَ عواصفه الهوجاء في الهزيع الأخير من العقد الماضي. داريْتَه وأقنعته ببعض ريث يبيح لك المُقام المختلَس من الزمن العابر بين العدمين. كنتَ تتقن لعبة التكتم على الألم، تكابر ولا تعلن، تعُض على جرح البدن. وحين وطأته عليك تشتد، تداويه بالدّاء، فتخلد الى راحة اليقين بأن المكتبة وحدها تُخمد لهيبَ الفيزيقا، وقد تحوله الى وقود لإشعال فكرة في الرأس خامدة أو منتظرة. هي ليست خمرة، يا أبا عصام، كي تداويها بنفسها، هي قلب متعب هدَّه الحب والصدق والإيمان وجلدُ التحمُّل الأسطوري لما يُمضّ. هي شرايين كاد يغلقها قلق الرسالة ومكابدة الأداء. هي كِلية تئن من وهن وتلف فتنهر أنت صراخها بالمسكنات. هل كنتَ تصدق أن انهيار البدن أكذوبة مادام العقل حيا؟ هل كان ربع حبة أسبرين في اليوم يكفي كي يروِّض القلبَ ويفرضَ على ضغط الدم حياداً حضارياً في حرب اليومي على الطبيعة؟ هل كانت الكليات في الطب لابن رشد جرعة دواء لعقل لا يبالي كثيراً بحاجة قلب مرهق، إلى جزئيات في الطب؟! وهل؟ وهل؟... إلخ. قد كنتُ أخشى سؤالكَ عن البدن لئلا تحسبَ السؤال رثاء مبكراً. وكنتُ إذا ما سألتُكَ تتحدث عن المرض وكأنه موضوع مجرَّدٌ وتستعجل طيَّ الكلام من أجل استدراجي للفكر والسياسة، إذ لا يليق عندك أن ينفق المرء وقتاً للتفكير في الجزئيات. أما إذا ركبتُ رأسي وألححتُ في السؤال، وتبرَّعتُ بمعلومات صحية عن مرض أشاطرك معاناته، تقطع عليَّ حبل البلاغ كي تعلمني بأنك بتَّ طبيب نفسك من فرط ما يمدك به الأنترنيت من إفادات تفيض عن الحاجة، ثم تعود الى ما أنت تبغيه من الحديث. قلما سمعتُ منك شكوى. و العادة أنك لا تفصح عنها إلا متى حملتُ إليك دعوة الى سفر للانتداء في الخارج. حينها فقط تقول مكرهاً إن وضعك الصحي لا يسمح و أن عليك احترام أوامر الطبيب. أعرف أيَّ مقدار من العزيمة والإصرار حملت وبهما تحمَّلت إذاية الطبيعة والبدن. قد كنتُ أدرك أنك اخترعْتَ بقاءك وانتزعْتَه من المستحيل. فأنتَ عشت لأنك كنتَ تريدُ أن تبقى حيا. الإرادة وحدها مدَّدَتْ بقاءك فينا وانتصرتْ على أحكام الطبيعة وأجَّلَتْ لزمن موعد الرحيل. وحين أنهيتَ يومياتك الأخيرة مع القرآن الكريم، بعد سبع سنوات من المصاحبة الممتدة، قلتَ في نفسك وقلتَ لي أهلا وسهلا بمقدم من أجَّلْتُ موعده. لم تكن عنيداً لجوجا مع الموت، لكنك كنتَ مستئذناً ترحيل لحظة الرحيل الى أن تقول الذي تبغي أن تقول في الهزيع الأخير من ومضة وجودك الذهبي. ولقد قلتَ، أيها المعلم الكبير، أكثرَ مما في وسع امرىء أن يقول في برهة من الزمن عجلى كتلك التي أينع فيها اسمك بين آخر الخمسينيات وآخر هذا العقد. نصف قرن هو، يا أبا عصام، كنتَ فيه المثال والميزان والبوصلة: مذ كتبتَ باسم ابنك قبل أن يولد، حتى باتَ اسمك في النفوس والأفواه قرين المعنى الذي لا يُشادُ على جنباته جدار. قلتَ الذي لا يقال في زمن الممكن والمحال. وكنت وحدك تكفي كي تنهض بما على جيش من أمثالك أن يحملوه عبئا على الرأس والقلم. ما همَّك إن كان عليك أن تقدم الضريبة إن كان في وسع الفكرة أن تُشَيِّد مملكة من المعنى وأن تفتح للعقل أفقا لا يُحدّ. عشقت التراث، أيها التراث العظيم. وما شدَّتْك إليه نوستالجيا الزمان الذي كان مرصَّعا باللآلىء والأرجوان والكلام المعتق في جرار الأبدية. كان التراث عندك سؤال حاضر لم ينقَضِ فيه أمسه، وسؤال ماض عُمِّرَ حتى بات سلطانه على الراهن غرامة ثقيلة. كان بك ولع شديد لمعاشرة الأقدمين. ولقد سألتك مرة ماذا تفعل، فقلت لي إنك تعيش مع «الأموات» لأنهم أشد رحمة وأعظم نفعا من الأحياء. لكنك ما طلبت من صداقة الأموات غير أقل القليل فيما عينك على الاحياء ظلت أفتح حتى وإن خذلتْكَ سيرتهم. كنت تبغي التراث ميزانا لعيار أقدار المخاطبين بأفعال المضارع عساك تعثر، في الصلة بين الزمنين، عما يحرر الآن والهُنا من الْ «كانْ». الآن، وقد رحلت وانطفأت ضحتك التي تفتح في القلب شهية الانشراح، وتوقف المداد الذي كان يسري في العقل والنفس سريان الدم في العروق فيوقظ في الرأس سؤالا تلعثم، ويحيي في النفس أملا تهدم. الآن، وقد ألقيت فينا بلاغك الاخير وانصرفت الى هدأتك الاخيرة باحثا لنفسك عن موازنة دقيقة بين الفَناء والبقاء، بين الصعود والخلود، بين بدن يتحلل وفكرة تتجلل. الآن، وقد فارقتنا ولوّعتَنا وأخذتنا إلى الشعور بيتم جماعي شديد الحدة والوطأة على نفس جائعة إليك أبدا. الآن ونحن في حضرة ذكراك التي لا يلحقها نسيان، دعني أيها المعلم الكبير والرمز العظيم أقول لك: لقد انتصرت على الموت وطلبت الأبد، فالغناء بين يديك برهة عابرة يحفها الحزن والدموع من الجنبات وأنت تزف نفسك الى الزمن الذي لا ينتهي والمدى الذي لا يحد. قد كنا نباهي بأنا كنا لك التلامذة، وما فطن منا أحد الى أن التلمذة لك أفق في التاريخ مفتوح. وسيأتي بعدنا الآلاف وآلاف الآلاف فيكرروا سيرتنا معك ويقاسموننا الصلة بك حتى وإن هم لم يظفروا مثلنا بحضورك الجسدي وتقطيبة جبينك التي تصنع إشكالية، وبسمة ثغرك التي تفتح سجنا. عشت يا أبا عصام وأنت للناس جميعا، وترحل عنا اليوم كي تبقى للناس جميعا. فأنت كالماء والهواء والنار والكلإ مشاعيٌّ، ومن يحتكرك أو يحاول ذلك إنما يمارس فعل اعتداء شنيع على حق عمومي للناس أجمعين. أيها الرجل الصالح الأمين، ما كنت مفكرا فحسب، تنعقد له الولاية العقلية ويقصده الباحثون عن المعنى من كل حدب وصوب، كنت المثال الأخلاقي الفذ، كالمحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك كنتَ. ومن معدن الفضائل النفيس كنت. ومن محْتِد الذين في التاريخ لا يكثُرون كنت. وكنت الذي التزم، في كل شيء التزم: في السياسة التزم، وفي الحياة التزم، وبالمعرفة التزم، وتعددت فيك وجوه الالتزام ومفرداته: الوطنية، والديمقراطية والاشتراكية والعروبة والنهضة والحداثة، والعقلانية والعلم والفضيلة العملية، وسواها من قيم قلما في غيرك اجتمعت ومن أمشاجها صنعت كيمياء التركيب والتوحيد. أيها العالم الجليل، أيها الذي اعتكف في صومعة العلم مذ أدرك أن رسالته أكبر من مؤسسة، وأن في صدره ما يفيض عن حاجة سؤال الممارسة. نحن الآن ندرك حكمة أن تنزوي وتختلي بنفسك في المعتكَف باحثا عما يشدك الى الأبعد. كان عليك أن تغالب النفس والأهواء والعادات كي تسكن الى نفسك بعد شوط من الإنصات اليومي إلى اليومي. فلقد غنمنا من هذه الاعتكافة ما تغنَمُه الأمم. لآلئ الفكر التي تضيء المعْتِم وتُبقي في الأرض ما ينفع الناس. وهل كان نقد العقل العربي غير ذلك الغُنْم الذي غنِمْناه من جدول أعمال جبّ ما قبله وصحح في سيرتك وفي وعينا معنى المثقف؟ نحن ندرك الآن أننا تعلمنا مرتين: مرة على مقاعد الدرس أو بين دفتي كتاب، وأخرى من سيرة ستؤسس في الوجدان المعنى العميق للالتزام. دعني أخيرا أقول لك أيها الحاضر أبدا في حضوره والغياب إنك لم تبتعد عنا قليلا إلا لكي تقترب منا كثيرا. سيظل اسمك بيننا يغشى الرأس واللسان والوجدان والقلم: حين نتذكر، ستحتل الذاكرة. حين نفكر، سننتمي الى ملكوت عقلك. حين نقتبس، ستتسلل نصوصك الى متوننا والهوامش. حين نحتج برأي، فالحجة أنت وما ملكت أيمانك. وسيأتي من بعدنا الكثير الكثير ممن سيشبهوننا في سيرة الوفاء. في أجيالهم ستحيا من جديد وستمدد بقاءك في العالم. صدقني يا أبا عصام لمئات السنين ستحيا كأنك لم ترحل عن هذه الدنيا كما لم يرحل عنها الأكابر. هل رحل جدك أبو الوليد بعد هُلْكِه؟ فقدناه سبعمئة عام بعد إذْ أصيبت ذاكرتنا التاريخية بالتعب، ثم ما لبثنا أن استعدناه مرة أخرى منذ مئة عام. يا أيها الكبير المتواضع بلا حساب، أيها الذي لم يصبك يوما مس من كِبْر طاووسي ولا أخذتك سِنة من عجرفة واستعلاء، أيها الصدق والفضيلة يمشيان على قدمين ويحدقان في البعيد، أيها المحمود سيرة بين الناس، أيها المدماك والصرح والأس والأساس. أيها الذي علمنا وألقى لهيب السؤال فينا. أيها الذي صالحنا مع الذات وفكك لغم علاقتنا بالعالم. أيها المحمول على نعش من بيته إلى التاريخ. أيها المشيَّع بالحب وبالدموع. أيها الذي قال المتنبي في مثله: وإذا كانت النفوس كبارا *** تعبَتْ في مرادها الأجسام أيها الذي جند العقل والقلم للإنسان والمستقبل، فمارس ما به آمن وآمن بما يفعل، أيها الأعدل في القسمة بين الممكن والأمثل، يا أيها الرجل الذي ارتفع فكرا وخُلُقا فوق المألوف والمعدَّل، يا أيها المعلم الذي رحل ولم يرحل، أقول لك ما قالت السماء وبلّغ المُرسَل: سلام عليك يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حيا. * ألقي هذا النص في أربعينية الفقيد محمد عابد الجابري التي نظمتها شعبة الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنساني بنمسيك (الدارالبيضاء) في 15 يونيو 2010.